
بقلم المستشار: محمود عطية *
السنوات الأخيرة، طغت على المشهد الإعلامي ظاهرة مواقع (بير السلم)، وهى مواقع إلكترونية رخيصة وغير رسمية لا تخضع لأي رقابة مهنية أو أخلاقية، لكنها تنتشر بشكل واسع وتلقى رواجًا بين فئات مختلفة من المجتمع، والكارثة أنها تتغذى على كل ما هو منحط، وتقتات على أخبار الفضائح والانحرافات وتشيع الفاحشة بشكل يومي، تحت غطاء الترفيه أو نقل الأخبار.
مواقع (بير السلم) تلك لا تكتفي بنقل الأحداث بل تصنعها، تخلق حالة من الانحدار المتعمد، وتتلاعب بعقول الناس ومشاعرهم، وتبث بين سطورها سمومًا أخلاقية ودينية ومجتمعية تهدد النسيج الثقافي والديني والأخلاقي لمصر ولغيرها من الدول العربية، ففي ظل الأزمات المتلاحقة التي يمر بها المواطن من غلاء وبلاء وضيق معيشي وقهر اقتصادي.
تصبح مواقع (بير السلم) كالسُم في العسل، تلهي الناس بقصص ساقطات، ونجوم انستجرام وتيك توك، وفنانات يتاجرن بأجسادهن، ومهرجانات هابطة، وتترك القضايا الجادة التي تمس حياة الناس بشكل مباشر.
والأدهى أن بعض هذه المواقع تروج لأشخاص مدعين للعلم والدين، أحدهم على سبيل المثال يدعي أنه مفتي أستراليا، ويظهر على الشاشات أو مواقع التواصل ليطلق فتاوى وآراء لم يأت بها لا الشرع ولا العقل، بل لم تجرؤ على قولها حتى قريش الكافرة في عصر الجاهلية.
ويتحدث عن مقام النبي الكريم محمد عليه الصلاة والسلام بطريقة وقحة، تفتقر إلى أدنى درجات الأدب أو الاحترام، دون أن يتحرك أحد من الجهات المسؤولة أو الهيئات الدينية الرسمية للرد عليه أو محاسبته، فهل هذا السكوت تقصير أم تواطؤ؟
وهل مواقع (بير السلم) هذه تعمل فعلًا بعيدًا عن أعين الدولة، أم أن هناك من يتغاضى عنها عمدًا لتبقى أداة لتفريغ الغضب الشعبي في اتجاهات تافهة، وإلهاء العقول عن الكوارث الاقتصادية والانهيارات المجتمعية التي يعاني منها المواطن كل يوم؟ هل حقًا لا تستطيع الدولة أن توقف هذه الفوضى الإعلامية أم أن هذه الفوضى مقصودة؟

سياسة الإلهاء
فيبدو أن سياسة الإلهاء لم تعد تعتمد فقط على برامج التوك شو أو تصريحات المسؤولين، بل أصبحت أكثر دقة، تدخل البيوت عبر الهواتف الذكية، وتنغمس في التفاصيل اليومية للناس، حتى أصبحت تشكل وعيًا زائفًا يشوش البوصلة الأخلاقية والدينية والفكرية.
ولا يقف الأمر عند محتوى المواقع الإخبارية أو السوشيال ميديا، بل تطورت الفوضى إلى أن وصلت إلى طقوس الموت، نعم، الموت نفسه لم يسلم من الانحدار، فقد أصبحت جنازات المشاهير، وخاصة من يسمون بـ (المشخصاتية) مادة دسمة لهذه المواقع، التي تقتحم حرمة الموت وتصوره كأنه عرض مسرحي، كاميرات، بكاء أمام العدسات، تسويق للحزن، واستغلال للموت من أجل التريند.
بينما لا نسمع عن جنازات الفقراء أو أهل العلم أو الكادحين شيئًا، وكأن الموت درجات حسب الشهرة لا حسب الإنسان، هذه الظاهرة لم تكن مقبولة في البداية، لكنها فرضت نفسها بقوة، وبإلحاح إعلامي رهيب، حتى استسلم لها المجتمع، ثم الإعلام، ثم الدولة.
كما استسلمنا لكثير من الظواهر المنحطة الأخرى التي بدأت مرفوضة ثم أصبحت واقعًا مفروضًا علينا، ومنها ظاهرة (السايس)، أو مهنة البلطجة التي شرعنت نفسها بقوة الفوضى، فانتشرت في كل شارع.
وتحوّلت إلى مصدر رعب وإزعاج للمواطنين، حيث يفرض عليك هذا الشخص مبلغًا لإيقاف سيارتك، وإن رفضت فقد تتعرض للإهانة أو التهديد أو الاعتداء، وكل ذلك على مرأى ومسمع من الأجهزة الأمنية والجهات المحلية، التي اكتفت بإصدار تراخيص شكلية، دون تطبيق أي رقابة حقيقية.
فأصبح المواطن في مواجهة مباشرة مع من يفرضون الإتاوات بالقوة، وكأن الدولة ترفع يدها وتسمح لآخرين بإرهاق الناس واستغلالهم باسم القانون.. والأمثلة على ذلك كثيرة، ولن ننسى كيف أن كل مبادرة أو مشروع أو خدمة جديدة تبدأ في مصر بشكل جيد، ثم سرعان ما تنقلب إلى صورة مشوهة ومحبطة.
تأخذ ما تريده من جيوب الناس، ثم تسقط تحت سيف الفساد والإهمال، مثال حي على ذلك تطبيقات التاكسي الجديدة، التي ظهرت لتكون بديلاً محترمًا عن التاكسي العشوائي، لكن بعد أن تربعت على السوق وجمعت قاعدة عملاء كبيرة، تغير كل شيء، أصبحت الأسعار مبالغًا فيها، والسائقون بلا تدريب حقيقي، وكثرت حوادث التحرش والاعتداء.

الفوضى واللامحاسبة
حتى أصبح المواطن لا يثق في هذه الخدمات، خاصة الأسر التي تخشى الآن على بناتها من سائق لا يُعرف له أصل ولا رقابة، وهذا النموذج يتكرر في كل مشروع أو فكرة تبدأ بجودة ثم تتدهور حين تتشابك مع الفوضى واللامحاسبة، وكأن القاعدة في مصر أن البداية مبشرة والنهاية مخزية، لأن الاستمرارية لا تحكمها الجودة بل المصالح، ولا تتحكم بها الدولة بل الفوضى.
ومن هنا نعود للسؤال الجوهري، لماذا لا تستقيم الأمور؟ لماذا كل شيء يسير من سيء إلى أسوأ؟ هل نحن أمام انهيار ممنهج للقيم، أم أن هناك فشلاً حقيقيًا في الإدارة والمتابعة والمحاسبة؟
وهل المواطن وحده هو من يتحمل وزر هذه الكوارث، أم أن هناك أطرافًا بعينها تستفيد من هذا الانهيار الأخلاقي والمجتمعي؟ ما نراه اليوم ليس مجرد انحرافات فردية أو تجاوزات محدودة، بل تحول إلى منظومة متكاملة من الفساد الأخلاقي والإعلامي والاجتماعي.
تبدأ من منصات الإعلام الرخيص، مرورًا بشوارع تملؤها الفوضى، حتى تصل إلى مناهج تفكير مشوشة، تجعل الناس لا تفرّق بين الحق والباطل، ولا بين الفضيلة والرذيلة، في ظل هذا الضباب الكثيف، تنهار القدوة، وينهار المنطق، وتصبح الفاحشة أمرًا معتادًا، والانحراف حرية، والإسفاف شطارة.
وكل ذلك دون أن يكون هناك وقفة جادة من الدولة، أو مؤسساتها الثقافية والدينية والتعليمية، التي يُفترض أن تحمي المجتمع من الانهيار، وتحافظ على الحد الأدنى من الوعي الجماعي. للأسف، أصبحنا في واقع يتصدر فيه التافهون.
ويُهمش فيه المحترمون، ويُكرم فيه أصحاب الفضائح، بينما يُنسى الشرفاء، وتُدفن قصصهم في صمت، مواقع بير السلم ليست مجرد منصات صحفية بل مصانع لإنتاج الجهل والسطحية والانحراف، تغرد في اتجاه مخالف لكل القيم، وتشعل الفتنة الأخلاقية والدينية بطرق غير مباشرة، تحت عين الدولة، وربما برضاها، أو على الأقل بصمتها المريب.
فهل يُعقل أن تكون كل هذه المواقع بعيدة عن رقابة وزارة الداخلية؟ هل لا ترى الدولة هذا الكم من القاذورات الفكرية التي تنشر كل ساعة على منصات تافهة لا تملك من الإعلام سوى الاسم؟ وإذا كانت تراها، فلماذا لا تتحرك؟ وإذا كانت لا تراها، فهذه مصيبة أكبر، في ظل ما نعيشه من انهيار في كل مناحي الحياة.
أما آن الآوان أن نعيد ضبط البوصلة؟ أن نقول لا لهذه الفوضى؟ أن يُستعاد دور الدولة في الرقابة الحقيقية لا الرقابة الشكلية؟ أن تعود للمواطن كرامته في الشارع، في السيارة، في الإعلام، في حياته اليومية؟ متى نفهم أن تدهور الأخلاق لا يقل خطرًا عن تدهور الاقتصاد، وأن فقدان القدوة أخطر من فقدان الجنيه؟
وهل من المعقول أن تظل أجهزة الدولة تتعامل مع الانهيار الأخلاقي على أنه أمر ثانوي أو رفاهي، بينما الحقيقة أنه الخطر الأكبر الذي يهدد أي أمة من الداخل؟ في النهاية، لا نملك إلا أن نرفع الصوت عاليًا، ونقولها بوضوح: الإعلام الفاسد، المواقع الساقطة، مافيا السايس، تحرش السائقين، تصوير الموتى.
كل هذا ليس فقط ظواهر مزعجة، بل هي أعراض مرض خطير اسمه غياب الدولة عن دورها الحقيقي، وإذا لم تتحرك الدولة اليوم قبل الغد، فالغد لن يكون إلا أسوأ، ولن يرحمنا التاريخ إذا تركنا بلادنا تنحدر إلى هذا القاع بينما نحن صامتون.
* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع