رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

عامر فؤاد عامر يكتب: (بليغ حمدي) موسيقار الشعب

عامر فؤاد عامر يكتب: (بليغ حمدي) موسيقار الشعب
هذا الفنّان (بليغ حمدي) كان ظاهرةً فنّيّة جمعت بين الموهبة الفطريّة والقدرة على التجريب والتجديد

بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر

في مثل هذه الأيّام، تمرّ ذكرى رحيل (بليغ حمدي)، أحد أعظم الملحنين في تاريخ الموسيقى العربيّة. رجل لم يكتفِ بأن يكون مجرّد صانع ألحان، بل تحوّل إلى حالة إبداعيّة خاصّة، قادرة على لمس وجدان الناس بمختلف شرائحهم، من القرى الشعبيّة إلى أكبر المسارح.

هذا الفنّان (بليغ حمدي) كان ظاهرةً فنّيّة جمعت بين الموهبة الفطريّة والقدرة على التجريب والتجديد، ألحانه كانت لغةً مشتركةً بين الدول العربيّة، وصوتاً معبّراً عن الحبّ والوطن والإنسان. فقدانه لم يكن فقدان فنّانٍ وحسب بل هو فقدان لنمطٍ خاصّ في التفكير الموسيقي.

عامر فؤاد عامر يكتب: (بليغ حمدي) موسيقار الشعب
لم يتعامل (بليغ حمدي) مع الموسيقى كترفٍ للنخبة، بل كحاجة يوميّة مثل الخبز والماء

موسيقى من قلب الشارع

لم يتعامل (بليغ حمدي) مع الموسيقى كترفٍ للنخبة، بل كحاجة يوميّة مثل الخبز والماء. كان يستمع إلى البسطاء في الحارة والمقهى، ثمّ يحوّل تلك التفاصيل الصغيرة إلى لحنٍ يردده الملايين.. أغنية (عدّى النهار) بصوت عبد الحليم حافظ لم تكن عمل فنّي فقط، بل صارت نشيداً للحزن الجماعي بعد نكسة العام 1967.

وكذلك أغنية (على الربابة بغني) التي شدت بها وردة الجزائريّة، تحوّلت إلى أغنية وطنيّة تعبّر عن الانتصار والأمل.

عامر فؤاد عامر يكتب: (بليغ حمدي) موسيقار الشعب
الثنائيّة الجميلة (بليغ ووردة) لم تكن علاقة زواج جمعت بين موسيقار ومطربة

حين يصبح الحبّ لحناً

الثنائيّة الجميلة (بليغ ووردة) لم تكن علاقة زواج جمعت بين موسيقار ومطربة، بل سطّرت قصّة حبّ فنّي خالصة. حيث يجد السامع في صوت الفنّانة وردة مساحة الموسيقار الرحبة التي عبّر من خلالها عن شغفه الكبير، فأهداها ألحاناً خالدةً مثل (العيون السود، بودعك، لو سألوك) وغيرها.

كانت (وردة) بالنسبة لـ (بليغ حمدي) أكثر من مطربة، كانت شريكة في رحلة بحثه عن الخلود الفنّي، ولهذا ظلّت أعمالهما معاً أيقوناتٍ عاطفيّةٍ لا تفقد بريقها مهما مرّت السنوات.

بعد رحيل عبد الحليم وابتعاد وردة عن (بليغ حمدي) لفترة، بات احتياج بليغ لصوت جديد يحمل مشروعه حاجة مُلحّة لا بدّ منها، فوجد في صوت ميادة الحناوي ضالته وأمله، وبصوت ميادة القويّ والساحر وقدرتها على أداء المونولوج الطويل.

لحّن (بليغ حمدي) لها (أنا بعشقك، الحب اللي كان، مش عوايدك، فاتت سنة، أنا اعمل إيه، أنا بعشقك) وغيرها.. فكانت ميادة بصوتها وحضورها امتداداً لروح الطرب الأصيل، ومنحها بليغ ألحاناً جيّاشة ورومانسيّة الخلق رسختها كإحدى نجمات الساحة العربيّة الأبرز في الثمانينيّات، وبقيت إلى اليوم والمستقبل.

عامر فؤاد عامر يكتب: (بليغ حمدي) موسيقار الشعب
ترك (بليغ حمدي) وراءه أكثر من 1500 لحن غنّاها كبار المطربين

إرث لا يشيخ

ترك (بليغ حمدي) وراءه أكثر من 1500 لحن غنّاها كبار المطربين، وكان أبرزهم: أم كلثوم، عبد الحليم حافظ، فايزة أحمد، شادية، نجاة الصغيرة، الشحرورة صباح، وردة الجزائريّة، ميادة الحناوي، علي الحجّار وغيرهم. لكن الأرقام وحدها لا تكفي، حيث يطرح السؤال نفسه: كيف استطاع هذا المبدع أن يوازن بين التراث والحداثة؟!

قيمته الحقيقية أنه جدد في الشكل والإيقاع معاً، وجعل الأغنية أكثر قرباً من الناس. حيث كان مدركاً لكيفيّة المحافظة على روح الموسيقى العربيّة، وفي الوقت نفسه دفعها إلى الأمام، مشكّلاً هويّة الأغنية المصريّة الحديثة، عبر إدخال الإيقاعات الشعبيّة والآلات الغربيّة في سياق عربي محافظ.

عامر فؤاد عامر يكتب: (بليغ حمدي) موسيقار الشعب
لم يُلقب بليغ بـ (موسيقار الشعب) من فراغ

موسيقار الشعب

لم يُلقب بليغ بـ (موسيقار الشعب) من فراغ، ألحانه لم تكن حبيسة المسارح الكبرى وحسب، بل وجدت مكانها في أفراح الناس وأحزانهم ومناسباتهم الأثيرة التي لا تنتهي.

أغنيات (بليغ حمدي) لا تزال تعيش بيننا حتّى اليوم، تُذكّرنا أنّ الفنّ العظيم لا يموت، وأنّ المبدع الحقيقي هو من ينجح في أن يكون صوت الناس ومرآة قلوبهم، يحيا في وجدانهم كأنه موجود دائماً وأبداً.. كما كان مفصلاً بين زمانين متلاحقين: الأغنية الطربيّة الكلاسيكيّة، والأغنية الحديثة التي تتسع لأجيالٍ لاحقة.

أجمع النقاد على أن الموسيقار بليغ حمدي كان (المجدد الأخير) في الموسيقى العربيّة بعد محمد عبد الوهاب، لأنّه استطاع أن يوازن بين الأصالة والمعاصرة.. ولقّبه البعض بـ (ملك الموسيقى الشعبيّة) لقدرته على إدخال الإيقاعات الشعبيّة في القوالب الكلاسيكيّة من دون أن يخلّ بجماليّاتها.

أمّا لقب (موسيقار الشعب) فظلّ الأقرب إلى قلبه، لأنّه كان يرى في نفسه لسان حال الناس، يعبّر عنهم بجملته اللحنيّة الحنونة والكلمة القريبة.

في ذكرى رحيله، يبقى (بليغ حمدي) حاضراً في الذاكرة والوجدان، وكأنّ موسيقاه تقول لنا: بعض الألحان لا تُنسى، لأنها ببساطة صارت جزءاً من حياتنا، والسؤال الذي نطرحه اليوم بقوّة: هل يمكن أن نشهد في عصرنا (بليغاً جديداً)، أم أن تلك الروح كانت وليدة زمنها يا ترى؟

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.