محمد الروبي يكتب: (المهرجان القومي للسينما المصرية).. ذاكرة تتلاشى على أعتاب الإهمال


بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي
منذ انطلاقه عام 1995، كان (المهرجان القومي للسينما المصرية) بمثابة مرآة تعكس ملامح الإنتاج السينمائي المصري بكل تنوعاته، من الأفلام التجارية إلى المستقلة، ومن الكوميديا الخفيفة إلى الدراما الجادة.
لم يكن (المهرجان القومي للسينما المصرية) مجرد احتفال سنوي، بل مناسبة لحصر وتوثيق وتحليل ما قدمته السينما المصرية على مدار العام، وفرصة ذهبية لتكريم صناعها من مخرجين وكتّاب وممثلين وفنيين. بل وفرصة أعظم لتقييم أداءنا السينمائي حين نضع منتجنا طوال العام تحت مجهر التأمل وفي سياق تسابق يشجع المجتهد ويكشف المستسهل.
لكن هذا الكيان (المهرجان القومي للسينما المصرية) الذي وُلد تحت رعاية صندوق التنمية الثقافية، سرعان ما تعرض لهزات وانقطاعات، كأن ذاكرة السينما نفسها صارت رهينة الأزمات المالية والتغيرات السياسية.

جدول دورات المهرجان يكشف الكثير:
1995 – 2009: انتظام نسبي على مدار 15 دورة، كان خلالها (المهرجان القومي للسينما المصرية) نافذة سنوية تجمع المبدعين وتحتفي بإنتاجهم.
2010: توقف أول، عابر، لكنه كان إنذارًا مبكرًا.
2011 – 2013: عودة قصيرة في أجواء ما بعد الثورة، قبل أن يأتي التوقف الكبير.
2014 – 2016: غياب كامل، وكأن السينما المصرية بلا مرجع ولا ذاكرة.
2017 – 2018: عودة قوية في الدورة 18 ثم 19، مع احتفاء خاص برموز الفن.
2019 – 2020: توقف جديد، هذه المرة تحت وطأة الظروف المالية وجائحة كورونا.
2021: دورة مصغّرة بإجراءات احترازية.
2023: أحدث دورة، لكنها لم تمهّد لاستمرار منتظم حتى الآن.
إن هذا التذبذب في إقامة (المهرجان القومي للسينما المصرية) لا يمس فقط صناعة السينما، بل يمس ذاكرة مصر الثقافية نفسها.. فالمهرجان القومي ليس مهرجانًا جماهيريًا ترفيهيًا وحسب، بل هو أرشيف حي يرصُد ويقيّم وينتقد ويكافئ، وبدونه يصبح الإنتاج السينمائي بلا منصة مؤسسية تضعه في سياقه التاريخي والفني.
بل إن القضية أعمق من ذلك بكثير، فـ (المهرجان القومي للسينما المصرية) هو أيضًا أداة من أدوات القوة الناعمة المصرية.. فالطالما كانت السينما سفير مصر الثقافي للعالم، ومن خلالها تشكّلت صورة مصر في عيون الشعوب الأخرى، بدءًا من عصر الرواد وصولًا إلى أجيال جديدة تحاول أن تجد لنفسها موطئ قدم في المشهد الأقليمي والعالمي.

فقدان منصة استراتيجية
إن غياب (المهرجان القومي للسينما المصرية) بشكل منتظم يعني فقدان منصة استراتيجية تستطيع الدولة من خلالها تصدير صورتها الحضارية، وتعزيز مكانتها كقائدة للفن العربي، ومواجهة المنافسة الإقليمية المتزايدة من دول أخرى تستثمر بكثافة في صناعاتها السينمائية. فالقوة الناعمة لا تُبنى بالحديث عنها، بل بالمنصات الفاعلة التي تصنع التأثير، والمهرجان القومي واحد من أهم هذه المنصات.
اليوم، ومع ما تعانيه السينما المصرية من منافسة شرسة في السوق العربي والعالمي، تزداد الحاجة إلى مهرجان قومي منتظم يحفظ للسينما مكانتها، ويدعم صُنّاعها، ويعيد الاعتبار للأفلام التي قد لا تجد جمهورها في شباك التذاكر، لكنها تمثل قيمة فنية وثقافية لا تُقدّر بثمن.
ومن هنا تأتي مناشدتنا للسيد وزير الثقافة الفنان الدكتور أحمد هنو،لما لمسنا في أدائه خلال الشهور السابقة من حرص على دعم كافة مجالات الثقافة والفنون.
نناشده ونحن نثق كل الثقة أنه مثلنا حزين على حال السينما المصرية، مؤمنا مثلنا بأنها أحد أهم عناصر قوانا الناعمة.. نناشده ونحن نثق أنه قادر على أن يفعلها كما سبق وأن فعلها بقراره بعودة بينالي الأسكندرية وكما فعل الكثير في شهور قليلة سابقة.
إن استمرار غياب المهرجان القومي للسينما المصرية هو خسارة لا تُقاس بالأرقام ولا تُعوَّض بالوعود. كل دورة تغيب تعني فيلمًا لم يُوثَّق، ومبدعًا لم يُكرَّم، ورسالة ثقافية لم تصل.
فهل يفعلها الوزير الفنان ويصدر قرارا بعودة (المهرجان القومي للسينما المصرية)؟.. يقيني أنه سيفعل.