
بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
مع أن البعض رفع شعار (لن ننساكم) في أعقاب فاجعة (مسرح بني سويف).
لكنهم نسوهم..
فلماذا نسوهم؟!
مع أن بعض المسارح المجهولة والقاعات المدفونة، حملت أسماءهم.
لكن لو تصادف ومر أحد أمام لافتة منزوية تحمل اسم أي منهم، لتساءل في تعجب: من هو؟!
يوم الجمعة الماضي، مرت عشرون سنة على ذكرى رحيل خمسين بنى آدم في مصر في فاجعة (مسرح بني سويف)، كتبت نهايتهم بطريقة لا تحتمل الوصف أو الإشارة، حيال ما حدث داخل قصر ثقافة بنى سويف.
جثث محترقة وسط ركام من الحطام والرماد، المخرج مع الممثل مع المشاهد مع الناقد مع المؤلف مع رجل الإطفاء!.
واحد من أشد المشاهد فزعاً وإيلاماً في مفاجأة قدرية لم يتوقعها أكثر الناس تشاؤماً!
وصف الحادث أثقل من أن يتحمله القلب، سواء المنقول شفاهة، أو من خلال الأوراق الرسمية، أو عن طريق ما نشرته الصحف في ذلك الحين.
فلا جدال في أن ما حدث في قصر ثقافة بنى سويف يوم 5 سبتمبر 2005، كان أكبر فاجعة إنسانية في تاريخ الثقافة والفن المصريين.
مع ذلك فقلما تذكره أحد..
50 جثة محترقة داخل (مسرح بني سويف)، بالإضافة إلى 23 من المصابين ممن كتبت لهم النجاة بمعجزة، لكنهم وإن كانوا نجوا من الموت، فأنى لهم النجاة من أسوأ ذكرى وسط كتلة من النيران أحاطت بهم ورأوا بأعينهم زملاءهم وأصدقاءهم يصارعون النيران فلا يقدرون عليها حتى أحرقتهم أحياء!.
وماذا حدث بعد ذلك؟!
لا شيء..!

الحركات المسرحية الفاترة
مجرد إجراءات جوفاء وردود فعل فارغة لامتصاص الغضب الذي لم يستمر كثيراً، حتى ان كثيرين من الذين طالبوا باستقالة الوزير في ذلك الحين (وهو المسئول ولو مسئولية أدبية) عادوا وتراجعوا عن موقفهم من الوزير، بينما سحب الوزير نفسه استقالته الصورية والتى ولدت كحركة مسرحية لم تكن لها أى قيمة حقيقية ولم تغير في شىء، واكتفى كبار المسئولين بالمزيد من الحركات المسرحية الفاترة!
ولندع المحاسبة الجنائية التي انتهت إلى اللاشيء بل والأدبية المؤدية إلى العبث، فلم يحدث ثمة ما يطفئ الحرائق الأخرى التى اندلعت في الصدور النابضة والضمائر اليقظة، مثلما اندلعت من قبل في ديكورات العرض المسرحي المنتهى بالفاجعة المبري!.
ربما لأن الضحايا؛ وإن كانوا من خيرة المثقفين والمبدعين؛ إلا أنه لم يكن بينهم أحد من كبار مسئولى الوزارة ولا من نجوم الفن.. وإلا كان للذكرى صدى آخر غير هذا الذي لم يكن!.
وربما لأن المسئول المباشر والحقيقي هو عامل بقصر الثقافة، تذرع بأنه رجل بسيط، فقط أهمل بأن ترك باب القاعة مغلقاً من الخارج، كما هو متبع في العروض المسرحية بعدم السماح بالدخول أو الخروج، وذهب إلى مكان آخر واضعاً في حسابه أن يعود قبل انتهاء العرض بدقائق ليفتح باب القاعة للخروج.
وكان ذلك المكان بعيداً لدرجة كافية لكيلا يسمع هو ولا اى أحد غيره، استغاثات من هم بالداخل يستغيثون ويصرخون ويطرقونب الباب بلا جدوى حتى تحولت قاعة العرض المسرحي إلى جمرة من النيران كانوا هم وقودها!.
هنا نفعت البساطة ذلك العامل المهمل والذي لو كان يؤدى عمله كما هو مكلف به، وأسرع لفتح الباب من الخارج، لأنقذ أرواح هؤلاء الضحايا ولوقعت أقل الخسائر في الأرواح ولربما اقتصر الحريق على مبنى قصر الثقافة فقط.
لكن عبارة (مسكوا في الراجل الغلبان وسابوا الكبار) هى التى كانت ستتردد على كل لسان، ففي بلادنا كلمة (غلبان) تصلح كدليل براءة لا يقبل الشك، أمام كلا من الضميرين، الفردى والجمعي!

سَبَقَ السيفُ العَذْلَ
لكن في النهاية كان القدر الذي لا يغنى عنه حذر ولا يجدى بعده عتاب ولا حساب!، وحتى لو كان الحساب والعقاب، فكل هذا أيضاً لن يفيد أحداً، فمهما كانت العقوبات – التى لم تقع – ومهما كانت الجزاءات – التى لم توقع – ومهما كانت التعويضات – التى لا تذكر – فإن ما وقع وقع و(سَبَقَ السيفُ العَذْلَ).
واليوم.. وبعد عشرين عاماً على فاجعة (مسرح بني سويف)، استعاد القليل من (بعض) أصدقاء (بعض) شهداء (مسرح بني سويف).. (بعض) ذكرياتهم، وذرف هؤلاء (البعضون) الدموع بمناسبة الذكرى المريرة، دموع صادقة حقاً، لكنها لاحت كنجوم خابئة في ليلة سماؤها غائمة، وأرضها ملتفة بالضباب!
بيد أن ما يحيرنى هو أن أحداً من أى من الآحاد، أو جهة من أى من الجهات، خاصة أو عامة، طوال العشرين سنة التالية لفاجعة (مسرح بني سويف)، لم نشاهد، بل لم نسمع، عن أى نية لإنتاج عمل درامي يسجل للتاريخ ما حدث في هذه الكارثة ولا ما تبعها!.
ولا حتى فيلم وثائقي قصير!
ألم يكفكم من الضحايا 73 منهم خمسون شهيداً؟!
ألا يصلحون كشخصيات درامية بعد كل ما حدث؟!
ألم تستفزكم أحوال أهليهم بعد فجيعة الموت حرقاً؟!
كيف كانوا من قبها؟!.. وكيف تلقوا أنبائها؟!.. كيف صاروا بعدها؟!
هذا مع أن أصدقاءهم المقربين فيهم الروائي والسيناريست والمسرحي والمخرج.. ولكن لا علم لى إن كان بينهم أحد من المنتجين!.
فذاك تمام النسيان!
أم هو تمام الإهمال؟!
أم تراه الانشغال؟!
وقد يكون الجحود!
ولما لا؟!
فقد صدق (قس بن ساعدة) حكيم العرب في الجاهلية عندما قال: (فما مضى قد فات، وكل آتٍ آت).. فما لنا لا ننشغل بما هو آت، عما قد فات؟!