

بقلم الكاتب والناقد: محمد الروبي
يعرف أصدقائي المقربون أنني أغيب عنهم وعن العالم بين حين وحين، أنزل إلى أعماق نوبات الاكتئاب التي تزداد وطأتها مع اقتراب شهر سبتمبر، ولا تنتهي إلا بنهايته، رغم كل محاولاتي اليائسة لتجاوزها بتأمل خاص لـ (ريتشارد إي جرانت).
ما يزيد من ثقل هذا الشهر على نفسي هو أنني أتلقى فيه التبريكات بمناسبة مولدي في الخامس منه.. بينما هو اليوم نفسه الذي فقدت فيه أعز الرفاق في حريق مسرح بني سويف الذي لم تزل نيرانه تلهب ذاكرتي منذ عشرين عاماً.
وسط واحدة من هذه الظلمات، جاءني عبر الهاتف صوت صديقة مقربة، دافئًا رقيقًا تحاول كما كل عام أن تفتح نافذة في غرفتي المغلقة. في البداية سألتني عن الأحوال والمزاج. وأنا أجيبها إجابتي التي تحفظها عن ظهر قلب بل وترددها معي: (أنا زي الفل)، فأضحك وتضحك.
فجأة سألتني الصديقة: هل جربت قراءة كتاب (ريتشارد إي جرانت.. ربما يجلب لك بعض الضوء).
قلت بدهشة: هل تقصدين الممثل (ريتشارد إي جرانت)؟ أجابتني بحماس: (نعم، ألا تعلم أنه يكتب؟ ولديه عدة كتب!).
حتى تلك اللحظة لم أكن أعرف أن الممثل الذي أحببته في أفلام (ويذنيل وأنا، وهادسون هوك، حرب النجوم)، وهل يمكن أن تسامحني يوما ما ؟، له عالم إبداعي أخر، عالم الكتابة، عالم يسرد فيه حياته وتجربته الإنسانية بصدق ودفء.
فور انتهاء المحادثة شرعت في البحث عن كتابات (ريتشارد إي جرانت)، يحفزني الفضول (لماذا نصحتني به صديقتي؟)
بعد بحث قصير، حصلت على كتابه الأخير (جيب صغير من السعادة).. أعجبني العنوان كثيرا.. وكما العادة طالعت فهرسه فإذا به يحمل عناويناً لفصول قصيرة كل منها يستحق التوقف عنده: (ذكريات الطفولة، الحياة العائلية والمدرسية، البدايات الأولى في التمثيل، المغامرات والتحديات، الشهرة والنجاح، العلاقات الشخصية، الفقد والحزن، فلسفة السعادة).

فلسفة السعادة
و.. هنا توقفت، يبدو أن ذلك ما أحتاجه الآن – فلسفة السعادة – فذهبت إليه مباشرة ممنياً نفسي بالعودة إلى بقية الفصول في وقت لاحق.
جهد كبير بذلته في قراءة الفصل القصير، فضعف لغتي الإنجليزية كان يحول بيني وبين الانسياب الكامل. لكن هذا الجهد نفسه كان جزءًا من الرحلة، جزءًا من الخروج من وحدتي ومن الظلمة التي كنت أعيشها.
منذ السطر الأول لفتني أسلوب جرانت الحميمي.. فأنت تقرأ وكأنك تجلس معه على مقهى، تستمع لذكرياته، يمزج الفكاهة بالتأمل، ويغمرك بتفاصيل حسية دقيقة من أصوات وروائح ومشاهد وحركة.
في هذا الفصل، ركّز (ريتشارد إي جرانت) على قيمة الأشياء البسيطة في الحياة، مثل الضحك مع الأصدقاء، لحظة تأمل هادئة، أو إنجاز صغير في يوم. ومن خلال قراءتي، شعرت بأن السعادة ليست هدفًا بعيدًا أو حالة دائمة، بل مجموعة لحظات يمكن تقديرها بصدق.
شاركني (ريتشارد إي جرانت) أمثلة من حياته، موضحًا كيف أن الحزن جزء طبيعي من الحياة، وكيف أن مواجهة الصعاب بابتسامة تمنح الإنسان معنى أعمق للحياة. هنا شعرت بأن شخصيته الفلسفية والفنية تتجلى معًا، وأدركت أن الوعي بتفاصيل الحياة اليومية هو ما يصنع الفرق بين مجرد العيش وعيش حياة غنية بالمعنى.
من مقاطعه التي أحببتها ذلك الذي يقول فيه:
(جلست على مقعد خشبي في حديقة، بينما كانت قطرات المطر تتساقط على وجهي، لم يكن عليّ فعل شيء سوى الاستماع لصوت المطر ومراقبة أوراق الشجر وهي تتمايل في الريح.. شعرت أن هذه اللحظة وحدها تكفي لملء جيب صغير من السعادة).
وضحكت معه وعليه حين قال: (أثناء تصوير مشهد كوميدي، انزلقت أمام الكاميرا، لم يكن الضحك من الجمهور، بل من زملائي في الكواليس. شعرت فجأة بأن هذا الخطأ هو أفضل لحظة في اليوم).
وفي مقطع ثالث يحكي (ريتشارد إي جرانت): (التقيت بمخرج قديم في مقهى صغير، جلسنا لساعات نتحدث عن الفن والحياة، عن الأفلام التي أحببناها وتلك التي فشلنا فيها.. لم يكن اللقاء مخططًاً، لكنه أعطاني شعورًا بالرضا والفرح لم أكن أتوقعه).

إدراك الأشياء الصغيرة
وأخيرا يقول: (تعلمت أن السعادة لا تأتي دائمًا من النجاحات الكبيرة أو الثروات، بل من إدراك الأشياء الصغيرة: ضحكة طفل، صوت موسيقى مألوف، كوب شاي جيد في صباح بارد. هذه هي القطع التي تصنع لك جيباً صغيراً من السعادة).
خرجت من هذه القراءة المجهدة بسبب ضعف لغتي وكأنني أملك حقيبة صغيرة مليئة بالفرح أستطيع حملها معي أينما ذهبت، وسألت نفسي: (لماذا لا نكتب عن تفاصيلنا الصغيرة، تلك التي تمنحنا سعادة كنا نظنها بعيدة المنال؟، لماذا لا نصنع لأنفسنا جيباً صغيراً من السعادة)؟
ووجدتني أقول وبصوت مسموع: ( شكراً (ريتشارد إي جرانت).