
بقلم المستشار: محمود عطية *
هذه (الدرما) توضح الي مدي انهيار القيم والمبادىء وتحول عمل خيري برىء إلى دراما كشفت عورات مجتمع يصر ويصمم علي التفاهه والالهاء كالاتي:
طفلة صغيرة لا تملك من الدنيا إلا خمسة جنيهات رأت رجلًا فقيرًا مكسور الحال يمد يده طلبًا للمساعدة فمدت يدها الطفولية ووضعت في كفه المرتعش كل ما تملك ثم أكملت طريقها في صمت.
تصرفت ببراءة الأطفال ونقاء القلب دون انتظار ثناء أو مكافأة، تصرفت كما لو أن الدنيا ما زالت تعرف الرحمة وما زال الناس يعرفون الشفقة على الفقير، لكن ما حدث بعدها كان مهزلة حقيقية لا تُصدق، حيث انقض الإعلام كالذئاب على المشهد، وصارت الطفلة موضوعًا للبرامج والتقارير والتحليلات.
وتحوّلت من مجرد طفلة فعلت خيرًا إلى بطلة قومية، لا لأنهم يهتمون بالخير ولا لأنهم حريصون على الطفولة، بل فقط لأنهم وجدوا مادة للفرجة، فرصة للركوب على الحدث، ضوءًا صغيرًا أضاء في عتمة الضمير فانقضوا عليه ليبيعوه في نشرات الأخبار وصفحات التواصل الاجتماعي.
الدولة بكل مؤسساتها استنفرت وخرج مركز الطفولة ليكرم الطفلة، ودُعيت إلى حفلات ومناسبات وظهرت على الشاشات، وتهافت عليها من لا علاقة لهم بالرحمة ولا بالطفولة، حتى دعاها صاحب محل كباب وكفتة شهير لتناول وجبة مجانية.
ثم خرج علينا مغنٍ من مطربي المهرجانات ليُهديها دعوة لحضور حفل في الساحل الشمالي لتشاهد وتبهر بحياة المليارديرات والمليونيرات والعري فيما يسمي بالساحل الشرير وكأننا أمام بطل عالمي وليس أمام طفلة فقط رقّ قلبها لحال رجل فقير، مشهد انساني بسيط تحوّل إلى سيرك إعلامي تتراقص فيه الوجوه الكاذبة التي لا يعنيها الفقير أصلًا ولا يهمها شيء من جوهر القصة.

ديكور لمشهد بطولي
لقد نسوا الرجل، تجاهلوه تمامًا، لم يسأل عنه أحد، لم يظهر اسمه، لم يظهر وجهه، لم يسأل أحدهم: من هذا؟ ما قصته؟ لماذا يطلب المال؟ ما حاجته؟ هل هو مريض؟ جائع؟ بلا مأوى؟ بلا علاج؟ بلا سند؟ لم يحاول أحد الوصول إليه، لم تبادر الدولة بتقديم المساعدة له، لم تخرج وزارة التضامن ولا وزارة الصحة ولا الشؤون الاجتماعية.
لتقول: نحن هنا، نحن نرى هذا المواطن المقهور، لم يحدث شيء من هذا، لأنهم ببساطة لا يرونه، لا أحد يرى الفقير، الفقير في بلادنا غير مرئي، يُستخدم فقط كخلفية لصورة جميلة، أو ديكور لمشهد بطولي، ثم يُلقى به إلى الظل كأن لا وجود له.
والأشد مرارة أن كل هذا الضجيج لم يكن من أجل الفعل الإنساني ذاته، بل من أجل استثماره، من أجل التقاط صورة مع الطفلة، من أجل إعلان مجاني، من أجل حفلة، من أجل دعاية سياسية أو شعبية، كلهم أرادوا نصيبًا من الضوء، حتى وإن كان على حساب رجل مكسور الجناح، لم يشعر به أحد سوى هذه الطفلة.
يا لسخافة هذا الواقع من خلال (الدرما)، طفلة تتحرك بدافع الرحمة، فتفضح الجميع، تفضح دولة كاملة نائمة في العسل، تفضح إعلامًا لا يرى إلا ما يلمع، تفضح أفّاقين يتاجرون بكل شيء، حتى بدموع الطفولة.
هل وصل بنا الحال إلى أن نُكرّم من يتحرك فيه الإحساس، بينما ندفن من يتألم في صمت؟ هل أصبح من النادر أن نجد طفلًا يشعر بالغير، حتى نُخرجه في برامج التوك شو ونحتفل به وكأنه المخلّص؟، المشكلة ليست في تكريم الطفلة، ولا في شكرها، فهي تستحق كل تقدير.
لكنها لا تحتاج إلى كل هذا التطبيل، بل كان الأجدر أن نلتفت إلى الطرف الأضعف في القصة، الرجل الذي جعل الطفلة تحنّ، الفقر الذي جعلها تعطي كل ما تملك، الألم الذي لم يره أحد غيرها.
أي إعلام هذا الذي يركض خلف مشهد عاطفي، ويتجاهل الجوع الحقيقي؟ أي دولة هذه التي تتحرك لتكرّم من تأثر، لكنها لا تحرّك ساكنًا تجاه من يُعاني؟ أي زمن هذا الذي أصبحت فيه الرحمة حدثًا استثنائيًا، بدلًا من أن تكون فطرة إنسانية لا تستدعي كل هذا العواء الإعلامي؟ إنهم لم يُكرّموا الرحمة، بل قتلوا معناها، حولوا موقفًا نقيًا صادقًا إلى مشهد استعراضي سطحي، خالٍ من الإحساس الحقيقي.
أين أنتم من الفقراء؟ من العرايا في الشوارع؟، من المرضى الذين لا يجدون دواءً؟ من الشيوخ الذين يتسولون أقراص الضغط؟ من الأرامل الغارمات؟، من أطفال في القرى لا يعرفون طعم اللحم؟ من رجال يبيعون ما يملكون ليطعموا أولادهم؟ لماذا لا يتحرك الإعلام لهؤلاء؟

ما فعلته الطفلة فعل طبيعي
لماذا لا تفتحوا الكاميرات في وجوه الفقر الحقيقي؟ لماذا لا تكرمون من يحتمل الجوع بصمت؟ من يصبر ولا يشتكي؟ لماذا لا تسلطون الضوء إلا حين يظهر طفل أو مشهد قابل للانتشار من خلال (الدراما)؟
إن ما فعلته الطفلة هو فعل طبيعي، عفوي، لا يجب أن يُضخّم ولا يُستغل، هي فقط شعرت بالوجع فساعدت، بينما أنتم جميعًا تمرّون فوق هذا الوجع كل يوم ولا تتوقفون، تعيشون وسط الفقر فلا ترونه، تنامون والمحتاجون على الأرصفة فلا يزعجكم بكاؤهم، تطلقون المبادرات وتُصفّقون لبعضكم البعض، بينما الجائع جائع، والمريض ينتظر الموت، والفقير بلا كرامة.
لو كان هذا الرجل قد لفت نظر أحد، لما احتاج أن يمد يده، ولو كان هناك نظام اجتماعي يحمي الضعفاء، لما احتاجت الطفلة أن تمنحه ما معها، الطفلة لم تنقذ الرجل، الطفلة فقط عرّت المجتمع، قالت بكفها الصغيرة: انظروا يا سادة، هذا الإنسان لم يحن عليه أحد، لم تره الدولة، ولم تره الحكومة، ولم تره البرامج، لكنه صعُب عليّ، صعُب على قلبي الصغير، لأن قلبي لم يتحجّر بعد، لأنني لم أتعلم منكم القسوة.
هذه ليست قصة عن كرم الطفلة، بل عن فقر الرجل، عن قسوة مشهد (الدراما)، عن مجتمع كامل بلا عدالة، بلا حس، بلا إحساس، القصة أن الطفلة أحنّ من الدولة، أصدق من الإعلام، أطيب من كل هؤلاء الذين تهافتوا عليها ليظهروا في الصورة، بينما تركوا الصورة الحقيقية تختفي في الظلام.
الطفلة قدمت درسًا ولم يتعلم منه أحد، أما الرجل، فقد عاد إلى الظل، إلى الجوع، إلى العتمة، إلى الزاوية التي لا يدخلها ضوء، إلى حيث ترمي هذه البلاد كل من لا يصلح للاستثمار الإعلامي.
* المحامي بالنقض – منسق ائتلاف مصر فوق الجميع