عصام السيد يكتب: 55 عام من الهجوم و مازال (عبد الناصر) شامخا

بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
55 عاما تمر اليوم على وفاة الزعيم (عبد الناصر)..
55 عاما لم يتوقف فيها الهجوم على هذا الرجل بمناسبة أحيانا و بلا مناسبة كثيرا، فهناك مواعيد ثابتة أو (مواسم) للهجوم عليه تتكرر كل عام فى ذكرى ميلاده (15 يناير) وفي ذكرى الهزيمة عام 1967 (5 يونيو) وفي ذكرى قيامه بالثورة (23يوليو)، وفي ذكرى وفاته ( 28 سبتمبر).
وفيما عدا تلك المواسم ينطلق الهجوم عند أى فرصة، سواء كان هجوما مباشرا بأنه قد أضاع البلد ، فقد استلمها بعد الثورة محتلة من الانجليز وتركها بعد وفاته محتلة من الكيان الصهيوني، و أنه فرط في أرضها.
فقد تنازل عن حقوقنا في حكم السودان، وأضر بالاقتصاد عندما كشف غطائنا الذهبى عندما حارب في اليمن، وعندما فتت ملكية الأرض الزراعية بإلغاء الإقطاع، وعندما قضى على الرأسمالية المصرية بتأميم شركات كبار رجال الأعمال، و فوق هذا أسس لحكم العسكر!
وحتى إنجازات (عبد الناصر) حولوها إلى هزائم، فالسد العالى الذى حمانا من الجوع والعطش قالوا أنه أساء الى التربة الزراعية بأن حرمنا من طمى النيل وتأميم قناة السويس حولوه لأمر تافه، فقالوا إنها كانت ستعود لنا عام 1968 بلا حرب ولا مشاكل، وحتى محاولات توحيد العرب وجدوا فيها كل النقائص.
أما الصلح المنفرد الذى عرض عليه – بشروط أفضل مما حدث في كامب ديفيد – الذى رفضه وأصر على الانسحاب من جميع الأراضى العربية التي احتلت بعد 67، رأى البعض في هذا الرفض (حماقة سياسية) أدت الى ما نحن فيه اليوم!

سبب كل البلاوي
أما الهجوم غير المباشر فيقوم أصحابه بإعلاء شأن مصر الملكية، بأخلاقها الجميلة وشوارعها النظيفة وأحزابها الليبرالية وحياتها الديمقراطية، ومحتلها الطيب، و ملكها الوطنى، و اقتصادها القوي، فقد كانت تدين إنجلترا.
وكانت الحياة فيها جنة على الأرض، فالموضة تبدأ في باريس لتظهر بعدها بأسبوع في المحروسة، و محلاها عيشة الفلاح حيث كان الدولار بربع جنيه!
باختصار: حاولوا أن يصوروا لنا أن (عبد الناصر) هو سبب كل البلاوي و النوايب والرزايا التي نعانى منها الى اليوم، فهو سبب الغلاء وتعسف صندوق النقد في شروطه، بل هو السبب في هزائمنا كلها من أول هزيمة 67 وحتى هزيمة منتخب كرة القدم وعدم وصوله إلى كأس العالم!
وبرغم أن كثيرين كتبوا دفاعا عن (عبد الناصر) واستندوا إلى أرقام وحقائق – وليست أقوال مرسلة – حيث حققت مجانية التعليم نموا في عدد الطلاب من مليون و89 ألف طالب إلى 5 مليون ونصف، وعلى مستوى التنمية الاقتصادية تم استصلاح حوالى مليون فدان، وإنشاء 1200 مصنع، وتحقيق معدل نمو بمتوسط 11% عن عام 1952.
كل هذا تحقق وقد حافظت مصر على استقلالها السياسى، إضافة إلى الكرامة الوطنية وتشجيع حركات التحرر، لكن ذلك لم يُجد، واستمر الهجوم.
وبرغم كتاب كامل صاغة المفكر الكبير الدكتور غالى شكرى عن (الثورة و الثورة المضادة) يثبت فيه أن عصر ما بعد عبد الناصر هو انقلاب تام على أفكاره و مبادئه، وأن مسئولية ما جرى بعده لا تقع على عاتقه.
إلا أن إصرارا غبيا خلط ما بين (زيد و عبيد)، وما بين الاشتراكية وانفتاح السداح مداح، واعتبروهما عصرا واحدا على عكس كل منطق، ثم جاءت حملة الإخوان باتهام (عبد الناصر) بكل نقيصة، من خلال إطلاق شعار (الستينات ما أدراك ما الستينات؟) بعد ان استفذوا كل وسائل المظلومية وادعاءات التعذيب.
وأخيرا لجأوا الى أسلوب جديد في التشويه من خلال تسريبات مجتزأة بصوت الزعيم تشكك في أفكاره ومبادئه وأنه شخص غير الذى نعرفه، فقد تغير بالكامل ونحن لاندري.

جهة ما وراء هذا الهجوم
والشخص الذكى لابد أن يستوقفه هذا الهجوم المستمر طوال 55 عاما، لا يهدأ ولا يبرد ولا يتوقف، ولابد أن يسأل من وراء هذا الهجوم الطويل والممتد؟، والإجابة المنطقية أن هناك (جهة ما) تقف وراء هذا الهجوم وتشجعه لأنها تخشى من عودة (عبد الناصر) أو تكرار نفس النموذج، او ظهور من هو على شاكلته أو يتبنى أفكاره.. ولكن هل مازال (عبد الناصر) مخيفا الى هذا الحد؟
الحقيقة أن كل الظروف التي يمر بها الوطن و الأمة و التي تعانى من الهوان و التفكك تقول أن الأرض مهيئة، والجماهير متعطشة ، لظهور (البطل المخلص) الذى يعيد لها كرامتها و عزتها، وهو ما قام به (عبد الناصر)، لذا رفعت الجماهير صوره في كافة الأحداث الهامة والمواقف المصيرية، وكأنها تستحضره أو أن مصر ستلده من جديد.
وكأن الجماهير تردد مع صلاح جاهين ما قاله في قصيدته ( برقية تأييد .. الى جمال عبد الناصر من قلب قلب قلب مصر).. نؤيدك.. نؤيدك/ فى ذكرى لحظة مولدك / يا أيها المصرى العظيم/ و نوعدك/ مهما غبت هنوجدك/ ومهما مت/ مصر ترجع مرة تانية تولدك.
ولم يكن (جاهين) هو من يعبر وحده عما يكنه الشعب لعبد الناصر، فمعظم الشعراء خاصة شعراء العامية – وغالبهم سجنوا في عصر (عبد الناصر) – كتبوا فيه قصائد تمدحه وتخلّد ذكراه، فى مفارقة إنسانية وسياسية تستحق التأمل ، وكأنهم نسوا زنازينه بسبب ما يحدث الآن او كما قال عبد الرحمن الأبنودي:
مش ناصرى ولا كنت ف يوم/ بالذات فى زمنه وف حينه/ لكن العفن وفساد القوم/ نسّانى حتى زنازينه.. فى سجون عبد الناصر/ إزاى ينسّينا الحاضر../ طعم الأصالة اللى فى صوته؟ يعيش جمال عبد الناصر/ يعيش جمال حتى ف موتُه.. ما هو مات وعاش عبد الناصر!
إن قصيدة (الأبنودي) تعكس العلاقة المعقدة بين شعراء العامية و بين عبد الناصر الذين سجنوا في عصره، فقد تشابكت قصائدهم بين الإعجاب والانتقاد، بين الحلم الثوري والواقع القاس، فقد مدحوا عبد الناصر كرمز للكرامة العربية، ومقاومة الاستعمار، ودعم حركات التحرر.
وصوّروه كزعيم أعاد للمصريين إحساسهم بالهوية والاعتزاز.. واحتفوا بسياسات عبد الناصر التى هدفت لتقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء، وكتبوا عن حلم (الاشتراكية والعدالة) رغم انتقادهم لاحقًا للبيروقراطية والانحراف عن هذا الحلم، أو كما قال إمام الشعراء ووالدهم فؤاد حداد – وأكثرهم بقاء في سجون (عبد الناصر):
فين طلّتك ف الدقايق تسبق المواعيد/ والابتسامة اللى أحلى من السلام بالإيد/ يا معانا ف كل فرحة ومعركة وجديد/ أؤمر لى بحقوقى وهدوم الولاد ف العيد/ والمجانيّة ومرايل بيضا والأناشيد.
أما الفاجومى (أحمد فؤاد نجم) فقد أتى بحل لتلك الإشكالية: عمل حاجات معجزة/ وحاجات كتير خابت/ وعاش ومات وسطنا/ على طبعنا ثابت/ وإن كان جرح قلبنا/ كل الجراح طابت/ ولا يطولوه العدا/ مهما الأمور جابت.
و لكنه لا يذكرون مطلقا سوى (الحاجات اللى خابت) ليداروا على خيباتهم وخوفهم من عودته، أما الصادقين فينتظرونه لأن كل الجروح طابت.