
* كنت شاهدًا حيًا علي أكثر المشاريع الفكرية طموحًا..!
* الأزهر الحديث أكثر المشاريع الفكرية طموحًا في تاريخ التعليم المصري الحديث
* لم تكن مجرد قصة تغيير مسار شخصي، بل كانت جزءًا من رؤية دولة، وخطة نهضة
بقلم الدكتور: إبراهيم أبو ذكري *
(ليست كل الطرق ممهدة، ولا كل البدايات تشبه نهاياتها… بدأت رحلتي كأي شابٍ في قريةٍ مصرية، يحمل فوق كتفه حقيبة كتب، وفي قلبه حقيبة أحلام. لم أكن أدري أن طريق كلية الزراعة بجامعة (الأزهر) سيقودني إلى (الصحافة).. وأن (الصحافة) ستقودني إلى الفن وأن الصورة ستأخذني من العدسة إلى الحكاية، وأن الحياة ستكتب لي فصولًا لم أكن أجرؤ على تخيلها. لم تكن خطواتي محسوبة دومًا، لكن قلبي كان دليلي.. وكانت الرحلة أكبر من كل ما خططت له).
لم أكن أعلم وأنا أملأ استمارة القبول في معهد السينما أنني سأكون شاهدًا حيًا على أحد أكثر المشاريع الفكرية طموحًا في تاريخ التعليم المصري الحديث.. كنتُ في مطلع شبابي، أحمل شهادة الثانوية العامة، وعيناي معلقتان بعالم الصورة والضوء والحكاية… عالم الفن السابع الذي سحر جيلي كله.
وبالفعل، تم قبولي في معهد السينما، وبدأت أرتّب لحياتي القادمة هناك.. غير أن الرياح كانت تحمل خطة أخرى، لم تكن من صنعي، لكنها كانت أكبر من أحلامي بكثير.
حين التقى (الأزهر) بالعصر والزمنٍ الذي كانت فيه الأفكار تتردد كثيرًا قبل أن تخرج إلى النور، كان عبد الناصر يفكّر، ثم يؤمن، ثم يضع آليات التنفيذ لأنه لم يكن رجل شعارات، بل رجل مشروعات.. لا يكتفي بأن يحلم، بل يصوغ الحلم في قرار، ويبنيه في مؤسسات.

(الأزهر) ليس فقط منارة فقه
أدرك أن (الأزهر)، هذا الكيان العريق الضارب في عمق التاريخ الإسلامي، لا يجوز له أن يظل سجين علومه التقليدية وحدها، ولا أن يبقى بعيدًا عن صخب العالم المتغيّر فإذا كان الإسلام دينًا عالميًا، كما آمن به عبد الناصر، فلابد أن يكون دعاته عالميين أيضًا، يُجيدون لغة العصر، ويعرفون أسرار العلم، ويخاطبون العقول قبل القلوب.
ومن هنا، وُلِدت الفكرة التي تجاوزت الخيال:
أن يصبح (الأزهر) ليس فقط منارة فقه، بل منارة طب وهندسة وعلوم طبيعية..أن يتخرج منه لا فقط الفقيه، بل العالم والداعية والمفكر والباحث.. أن نرى أزهريًا طبيبًا، وأزهريًا مهندسًا، لا ليبدل عمامته بمعطف أبيض، بل ليحمل الإسلام في عقله وسلوكه، ويقدّمه للعالم نموذجًا حيًا، لا خطبة منبر.
وهكذا، في عهد عبد الناصر، لم تُترك الفكرة تذروها رياح التردد، بل صارت خطة عمل. توسعت جامعة (الأزهر)، وشهدت ولادة كليات علمية حديثة، ودُعِمَت البعثات الأزهرية إلى أعماق إفريقيا وآسيا، ليذهب خريجو (الأزهر) إلى قرى نائية لم تعرف الإسلام إلا اسمه، فيقدموه لا كسلطة، بل كحضارة، لا كأوامر، بل كقيم وعلم وأخلاق.
لم يكن هؤلاء سفراء لدولة، بل سفراء لفكرة أن الإسلام لا يُفرض، بل يُعرض.. لا يُسَوَّق بالفتوى، بل يُعاش بالسلوك، ويُبرهن عليه بالعلم النافع والعمل المتقن.
لقد رأى (عبد الناصر) في الدعوة الإسلامية جزءًا من المشروع الحضاري العربي -الإسلامي، مشروع لا يحمل السيف، بل المصباح، ولا يُقيم الحواجز، بل الجسور.
كان امتدادًا لما بدأه الطهطاوي ومحمد علي، لكنه في عصره، أخذ بُعدًا مؤسساتيًا، قوميًّا، شموليًّا… جمع فيه بين الإيمان والعقل، بين الأزهر والعصر.
ففي تلك الأثناء طرح اسم الدكتور المهندس (عبد السلام فهمي أبوذكري) – عميد كلية الهندسة بأسيوط، وتم استُدعائه إلى لقاء رسمي مع الرئيس جمال عبد الناصر بحضور الشيخ أحمد حسن الباقوري، وزير الأوقاف أحد رموز الفكر المستنير في زمانه.
وكان اللقاء يحمل فكرة جريئة: كيف نعدّ جيلًا جديدًا من الشباب المصري، يجمع بين العلم الحديث والدراية الدينية؟
كيف نحطم الحواجز بين من تخرجوا من الثانوية العامة وبين مؤسسات التعليم الديني، وبين من أنهوا التعليم الأزهري وبين الكليات العلمية؟
(الباقوري – أبو ذكري)، الاثنان كانا الركائز الأساسية في عملية تحديث جامعة (الأزهر) وإدخال الكليات العلمية إليها بعد قرار الرئيس جمال عبد الناصر عام 1961.

الأزهر صرح علمي متكامل
وتكليف الدكتور (عبد السلام أبو ذكري) شغل منصب أول وكيل لجامعة (الأزهر) للكليات العملية (الحياتية) ومن خلال موقعه ساهم بشكل كبير في تأسيس وتطوير هذه الكليات، مما جعله شخصية محورية في تحويل الأزهر من جامعة دينية تقليدية إلى صرح علمي متكامل، وكان من أول مسؤول عن تنفيذ قانون 1961 الذي أضاف كليات الهندسة والطب والعلوم والصيدلة والزراعة إلى الأزهر.
أشرف على إنشاء وتطوير كليات الهندسة والعلوم والزراعة والتي كانت جديدة تمامًا على الأزهر. وعمل على توفير المعامل والبنية التحتية اللازمة لهذه الكليات، مثل معامل الفيزياء والكيمياء والأحياء.
هنا وُلدت فكرة (معهد الإعداد والتوجيه).. معهد يُشكّل حلقة وصل وتكامل، يقبل خريجي الثانوية العامة ليتعلموا أصول الدين، ويقبل خريجي الثانوية الأزهرية ليدرسوا العلوم الحديثة، فيتحول الجميع إلى طلاب مؤهلين لدخول الكليات العلمية في جامعة الأزهر.
وحين تولّى ابن عمي (الدكتور عبد السلام أبو ذكري) هذا الملف، كانت جلسة عائلية تجمعه بشقيقي الأكبر الذي كانت قراراته ملزمة للعائلة بعد وفاة والدي رحمة الله عليه اللواء أحمد أبوذكرى كفيلة بتغيير مسار حياتي.. فبين الأحاديث العائلية والأخبار المتبادلة.
علم (عبد السلام) بأنني التحقتُ بمعهد السينما.. وبقدر ما كانا يحترمان ميولي الفنية، كانا يؤمنان بأن المستقبل يتطلب إعدادًا مختلفًا لجيل جديد يجمع بين العلم والدين. فكان اتفاقه مع شقيقي (أحمد) واضحًا: (إبراهيم لازم يكون جزء من التجربة دي).
بقرار مباشر منهما، خرجتُ من معهد السينما، ودخلتُ معهد الإعداد والتوجيه.. لم يكن الأمر سهلًا عليّ، فقد كنت مشدودًا لعالم الفن والعدسة، لكنني احترمتُ بصيرتهما، وثقتهما، وتحمّس ابن العم لمشروعٍ كان يراه جزءًا من مستقبل الأمة، ولم أكن أعلم وقتها أن هذا التحوّل الظاهري هو في الحقيقة بداية عودتي إلى الفن من أبوابه الأعمق.
قضيت عامًا كاملًا في المعهد، حيث التقيت بزملاء من خلفيات مختلفة، وتعلمت كيف يمكن أن تتجاور في جدول دراستي مادة (الحديث الشريف) مع (الفيزياء)، وأن أبدأ صباحي بتفسير آيات من سورة البقرة، وأنهيه بمسائل في الرياضيات التطبيقية.. كان عامًا كثيفًا، صادمًا أحيانًا، لكنه علّمني كيف يمكن للإسلام أن يكون دين علم، وكيف يمكن للعلم أن يكون طريقًا إلى الإيمان.
بعد نجاحي في السنة التمهيدية، التحقت بكلية الزراعة إحدى كليات جامعة الأزهر العلمية الحديثة، وكنت من طلاب الدفعة الأولي التي افتتح بها الكلية، ودخلتُ رسميًا إلى تلك المؤسسة التي أراد لها عبد الناصر أن تتجدد، لا تنغلق، وأن تتسع، لا تنكمش.
ولعل ما يجعل تلك التجربة محفورة في وجداني، أنها لم تكن مجرد قصة تغيير مسار شخصي، بل كانت جزءًا من رؤية دولة، وخطة نهضة، ومشروع وطني أراد أن يصالح العقل مع العقيدة، ويوحد نهر التعليم بين ضفتي الدين والعلم.

تأملات بعد الرحلة..
واليوم، وأنا أعود بذاكرتي إلى تلك الأيام، لا أملك إلا أن أبتسم في صمت، وأتساءل: ماذا لو بقيتُ في معهد السينما؟ ماذا لو أمسكت بالكاميرا بدلًا من المصحف والكتاب؟ هل كنت سأكون نفس الشخص؟ هل كنت سأفهم الحياة بذات العمق، وأرى الناس بعينٍ ترجو لهم الهداية لا التصفيق؟
لم أندم على ما حدث، وإن كان القرار لم يكن اختياري بالكامل.. أحيانًا يدفعنا القدر نحو دروب لا نفهمها في حينها، لكننا نشكرها بعد سنوات.. لقد علّمتني تلك التجربة أن الهُوية الحقيقية لا تُبنى على الأحلام وحدها، بل على التقاطع بين ما نحبه وما يُختار لنا بحكمة أعلى.
في (معهد الإعداد والتوجيه)، لم أتعلم فقط كيف أدرس العقيدة أو أميز بين الفقه والمذهب، بل تعلّمت كيف أكون إنسانًا يفهم الآخر، يحترم التنوّع، ويؤمن أن الدين لا يجب أن يُحاصر في المساجد، كما أن العلم لا يجب أن يُختزل في المعامل.
كان عبد الناصر يريد جيلًا لا يتحدث فقط عن الإسلام، بل يُجسده سلوكًا وإنجازًا، وكان الدكتور (عبد السلام فهمي أبو ذكري) يؤمن أن العقل وحده لا يكفي، ما لم يُروى بروح الدين.
وأنا اليوم، أرى نفسي ثمرة بين تلك الأفكار.. لا أنا شيخ ولا أنا مهندس.. لكنني إنسان سعى أن يكون جسرًا بين عالمين، لا سجينًا في أحدهما.
تركتُ معهد السينما، لكن لم أترك الكاميرا.. مسيرة حياة وشغف وتحدٍ، ندمج فيها التصوير، والصحافة، وتحوّلك إلى عالم الفن، وكأنها خيوط نُسجت بيد القدر.. يجمع بين الزرع والصورة، بين العلم والحلم، بين الواقع والدراما.. مسيرة تم تسجيلها بعدسةُ الروح وقلمُ القدر.

كانت هواية التصوير تسكنني
ربما أكون تركتُ معهد السينما، لكن لم أترك الكاميرا.. كانت هواية التصوير تسكنني منذ البداية، لم تكن مجرد وسيلة لتجميد اللحظة، بل كانت نافذتي لفهم الحياة.. تفوقتُ في التصوير الفوتوغرافي، وتحول إلى مصدر دخل ساعدني على الاستقلال، وأنا بعدُ طالبٌ في معهد الإعداد، ثم طالب بكلية الزراعة.. كنت أتنقّل بين المحاضرات وعدسة الكاميرا، أصطاد الوجوه، أُوثق الحياة، وأتعلم من الضوء كيف أرى ما لا يُقال.
ومن عدسة الكاميرا، وجدتُ نفسي أمسك بالقلم.. دخلتُ عالم الصحافة، وكنت من القلائل الذين يجمعون بين القلم والكاميرا في آنٍ واحد، في زمن كان الصحفي إمّا يكتب، أو يصوّر.. أما أن تفعل الأمرين معًا فكان ذلك نادرًا، وربما مُستغربًا، لكنني فعلته، وبكل فخر. صرتُ أتنقّل بين الحقول والمطابع، بين محاضر الكيمياء ومكاتب التحرير، حتى باتت الصحافة هي التي تكتبني، لا العكس.
ومع مرور الوقت، طغت الصحافة على ما سواها.. لم تكن مجرد مهنة، بل كانت بابًا جديدًا للحلم القديم.. عدتُ إلى مجال الفن، لا كطالب في معهد السينما، بل من الأبواب الملكية، بعد أن منحتني الصحافة خبرة الناس، ووجه الحياة، ومهارة الحكي.
وهكذا، شاء الله أن أكون اليوم من المنتجين في عالم الفن والدراما العربية.. لا لأنني مشيت طريقًا تقليديًا، بل لأنني رسمته بيدي، بالكاميرا، بالقلم، وبالحلم الذي لم ينطفئ.
هكذا كانت رحلتي.. لم تكن سريعة ولا مستقيمة، بل مليئة بالتحولات، كأنها دراما تُكتب على مراحل.. لكنني تعلّمت أن الحياة لا تمنحنا طريقًا واحدًا، بل تمنحنا بذورًا.
نحن من نقرر إن كنا سنزرعها، ونصبر على مواسمها، ونرويها بالاجتهاد والشغف ام نتركها لتذبل وتموت ولا تكن من معنا في الذاكرة.. واليوم، وأنا أنظر خلفي، لا أرى سوى حقولًا من الحكايات ببذور زرعت وتم رعايتها فأصبحت فصلا من فصول الحكاية، وصورًا صنعتها الذاكرة، ومشاهدَ عشتها بالفعل بكل جوارحي.