
بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
طوفان العولمة يجرف الجميع بعيدا عن الشاطئ، ومن لا يجيد العوم فمصيره إلى أعماق مظلمة حيث مأساة النهاية.. على الشاطئ، تقف قلة مبصرة واعية مهمتها أن تحذر، وتشد الحبال ببالونات ملوّنة لتضع حدود السباحة قبل منطقة غدر الموج، لتنبه الجميع ألّا يجتازوا هذه الحدود مهما كان صوت الندّاهة من الأفق الأزرق ينادي بكل الإغواء..من هؤلاء القلة، الكاتب (محمد جلال عبد القوي).
عام 1945، في قرية شباس الملح – مركز دسوق – وُلد لصاحب دكان الغلال الصغير (عبد الغفور الغلبان) طفل اختار له اسما مركبا: (محمد جلال عبد القوي) كانت الأسرة تناديه اختصارًا: (جلال).. وقد وُلد في بيت جده، حيث خُصص للأب وزوجته وأطفاله غرفة، فنشأ وسط عائلة كبيرة في دار مزدحمة تعج بالحياة والشخصيات المختلفة.
لم يحصل (عبد الغفور الغلبان) سوى على الشهادة الابتدائية، ورغم ذلك، وبوعيه – الذي أورثه لجلال – أصر على تعليم أبنائه السبعة تعليما جامعيا.. كان وعي الأب بدوره موروثًا عن وعي الجد، الذي أورثه إلى جواره تراثًا هائلًا من أمهات الكتب مثل: (ألف ليلة وليلة)، و(سيف بن ذي يزن)، وغيرها.
كان الأب يقرأ من هذه الكتب للأصدقاء والجيران، وكانت هذه القراءات تمثل آنذاك السينما والتلفزيون، حيث شخصيات تغامر فى البر و البحر، وأخرى تمنح الحكم والعِظات من خلال أحداثها ومصائرها، سواء بالثواب أو بالعقاب..
ورث الابن (محمد جلال عبد القوي) عن أبيه هذه العادة، فكان يقرأ بدوره في جلسات أمه مع جاراتها والقريبات، يتابع شهقاتهن مع الأحداث، وفرحتهن بإنقاذ البطل، ولوعتهن مع قصص الحب، ومصمصة الشفاه مع العظات، والاندماج مع الشخصيات خيرها وشرها.
مما جعله يشعر بمتعة هائلة في الإمساك بأحاسيسهن وأخيلتهن، والتقاط المؤثرات الشعورية في الدراما، وكيف تخلب لبّ المتلقي وتجذبه من أعماقه إليها. وقد انعكس ذلك لاحقًا في خلو الشوارع عند عرض حلقات مسلسلاته المختلفة.

في المدرسة: فراويلة والمغازي
ولنباهته المبكرة، ألحقه أبوه (عبد الغفور الغلبان) في الثالثة من عمره بكُتّاب القرية.. وعند السادسة كان يتقن الكتابة والقراءة، ويحفظ معظم أجزاء القرآن الكريم، مما انعكس على ثروته اللغوية وقيمه الدينية طوال العمر..
تطور حب (محمد جلال عبد القوي) من كتب التراث إلى الكتب المعاصرة.. في أحد أيام رمضان، اختفى مع رواية (القدر) لفولتير – ترجمة طه حسين – فوق سطح المنزل، مختبئًا بين كومة قش مع شخصيات الرواية وأحداثها.. عند موعد الإفطار، بحثت عنه الأسرة دون جدوى، ولم يظهر إلا بعد ساعات طويلة مأخوذًا بأجواء الرواية وقد انتهى من قراءتها كاملة.
في التاسعة من عمره، لم يتردد والده في التضحية، فألحقه بمدرسة التعاون الابتدائية بدسوق، وهي مدرسة خاصة بأبناء الأثرياء.. لم ينسَ (محمد جلال عبد القوي) زملاء الدراسة فيها حتى بقية عمره.
مثل: (إبراهيم فراويلة) الذي استدعى لقب عائلته بعد أربعين سنة في مسلسل (المال والبنون)، و(سيد مغازي)، الشاب الذي كان يلتقطه من على باب القطار حينما يصل متأخرًا في طريقه إلى المدرسة، وقد أطلق اسمه لاحقًا على إحدى الشخصيات الرئيسية في مسلسل (سوق العصر.)
في المرحلة الإعدادية، انتقل (محمد جلال عبد القوي) إلى مدرسة الشهيد أنور، ليجاور طوال سنواتها على المقعد ذاته (أحمد زويل)، الذي أصبح فيما بعد أشهر عالم كيمياء.

موظف فاشل
بعد الإعدادية، التحق بمدرسة المعلمين نزولًا على رغبة والده، في هذه المرحلة، بدأت محاولاته الجدية في كتابة القصة القصيرة والشعر، إذ كان بطبيعته لا يطيق القيد الوظيفي مهما كان نوعه.. لذلك، وفي الأيام الأولى من تعيينه كمدرس بإحدى مدارس كفر الشيخ، تشاجر مع مدير المدرسة واستقال، ليلتحق كعضو في الفرقة المسرحية التابعة لقصر ثقافة كفر الشيخ.
كان من ضمن الكتّاب الشبان الذين يثيرون إعجابه في تلك الفترة الأديب (عبد الرحمن فهمي)، وللمفارقة كان هذا الأديب هو والد الموسيقار (ياسر عبد الرحمن) الذي وضع له فيما بعد موسيقى ستة من مسلسلاته.

الشاويش غلبان
عقب نكسة 1967، التحق (محمد جلال عبد القوي) بالجيش، وحصل أثناء الخدمة العسكرية على الثانوية العامة، ليلتحق بعدها بكلية الآداب، لكنه لم يكمل الحصول على الليسانس.
استمر في الجيش سبع سنوات، تجرّع خلالها أجواء الهزيمة والرغبة في الأخذ بالثأر والإعداد له.. في الجيش، كانوا يطلقون عليه اسم (الشاويش غلبان).. ورغم تواجده الدائم في السويس على خط النار، حيث لا يفصله عن الجنود الإسرائيليين سوى بضعة أمتار، إلا أنه كان يؤكد لوالده وأسرته في خطاباته أنه يؤدي خدمته في ألماظة حتى لا يقلقهم.
في الجيش، اعتاد الجنود إقامة حفلات سمر تُلقى فيها الأشعار وتُؤدَّى مقاطع مسرحية.. وكان الشاويش (غلبان) يشارك في معظمها بشكل لافت، حتى استدعاه اللواء (سعد الدين سري)، قائد الدفاع الجوي بالجيش الثاني، وعهد إليه بإنشاء مسرح عسكري على الجبهة.
قدّم الشاويش (غلبان) على خشبته العديد من المسرحيات التي ألهبت حماس الجنود، فذاع صيته في الجيش، حتى أن الإعلامية (منى جبر) قامت بتسجيل 28 لقاءً تلفزيونيًا معه قدمته خلالها باسم (الشاويش غلبان).
بلغت شهرته في الجيش حدًا أنه أثناء ثغرة الدفرسوار، جاء أحد الجنود الفارين ليلًا ليعترضه (محمد جلال عبد القوي) مطالبًا بكلمة السر، فعجز الجندي وهو يرجوه ألّا يقتله، مؤكدًا أنه من أفراد الجيش الثاني. وحين أراد جلال التأكد من هويته، سأله: (تعرف مين في الجيش التاني؟) فأجابه: (أعرف الشاويش غلبان يا أفندم)!

غلبان في المعهد
بعد انتهاء فترة الجيش، غادر (محمد جلال عبد القوي) قريته إلى القاهرة للالتحاق بمعهد الفنون المسرحية عام 1974، رغم الممانعة الشديدة من والده، وكان عمره آنذاك 29 عامًا.
في المعهد، لفت (محمد جلال عبد القوي) أنظار أساتذته ككاتب للدراما، ومنهم (جلال الشرقاوي) – عميد المعهد حينها – وأيضًا (محمود مرسي)، والفنان (سناء شافع)، الذي كان معيدًا بالمعهد.. ولموهبته اللافتة، نصحه الجميع بالالتحاق بقسم الدراما والنقد، لكنه أصر على قسم التمثيل والإخراج.
ورغم أنه حصل فيما بعد على الجائزة الأولى في مسابقة (كتابة النص المسرحي) متفوقًا على طلاب قسم الدراما والنقد، فإنه أصر على الاستمرار في طريقه، حيث كان يخطط بعد التخرج لأن يصبح ممثلًا، وممثلًا فقط!