رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(أنس الشريف).. ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون !

(أنس الشريف).. ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون !
شهداء قناة الجزيرة في عملية الاغتيال الأخيرة
(أنس الشريف).. ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون !
أحمد الغريب

بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب

بعد دقائق معدودات من تنفيذ غارة إسرائيلية استهدفت خيمة للصحفيين الفلسطينيين قرب مجمع الشفاء الطبي في مدينة غزة، ليلة يوم الأحد الماضى، وراح ضحيتها خمسة من صحفيي قناة (الجزيرة) وهم المراسلان (أنس الشريف)، و(محمد قريقع).

والمصورون (إبراهيم ظاهر) و(مؤمن عليوة) ومساعد المصور (محمد نوفل)، تحركت على الفور آلة الدعاية الإسرائيلية الكاذبة لتؤكد أن (أنس الشريف) ليس سوى (إرهابي) وهدفاً شرعياً للقتل!

بيان الجيش الإسرائيلي الذى جرى تداوله على نطاق واسع لتبرير تلك الجريمة، والذى على ما يبدوا تم صياغته قبل التخطيط لتنفيذ تلك الجريمة، قال نصاً: أن الصحفي (أنس الشريف) انتحل صفة صحفي وكان زعيم خلية إرهابية تابعة لحركة حماس وقائد هجمات صاروخية متقدمة على المدنيين الإسرائيليين وقوات جيش الدفاع الإسرائيلي.

بالطبع لم يقف البيان عند هذا الحد، بل زاد على ذلك بأن المعلومات الاستخباراتية والوثائق الواردة من غزة، بما في ذلك قوائم الأسماء وقوائم تدريب الإرهابيين وسجلات الرواتب، تؤكد أنه (أنس الشريف) كان عنصراً في (حماس).

المثير للسخرية أن البيان ذكر أن (أنس الشريف) كان يتقضى راتب شهرياً من قناة (الجزيرة) مقداره نحو 200 دولار، وأنه عمل إرهابيًا لدى حركة (حماس) في قطاع غزة.

بعد البيان، سارعت وسائل الإعلام الإسرائيلية من جانبها، لنقل رواية جيش الإحتلال والتسويق لها على الرغم من اليقين الإسرائيلي أن العالم أجمع بمن فيهم الإسرائيليين أنفسهم يعلمون علم اليقين أنها رواية كاذبة.

في هذا السياق الكاذب، قال مسؤول أمني إسرائيلي لصحيفة (معاريف): أن (أنس الشريف) يعتبر من وجهة نظر تل أبيب هدفًا مشروعًا للاغتيال لمشاركته الفاعلة في القتال ضد قوات الجيش الإسرائيلي، بخلاف كونه عضوًا في حركة حماس.

وأضاف (المصدر الأمني): (لم يشارك (أنس الشريف) في هجوم 7 أكتوبر، ولكنه كان المصور الذي وثق تحرير الرهائن واطلع على مقاطع الفيديو الخاصة بهم، وهو من صوّر مراسم إطلاق سراحهم لصالح حماس)

وزادت على قوله صحيفة (معاريف): إن الأجهزة الأمنية الإسرائيلية تقول إن (أنس الشريف)  كان على قائمة (المحكوم عليهم بالإعدام) التي أعلنتها تل أبيب.

(أنس الشريف).. ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون !
جاء توقيت جريمة الاغتيال الممنهجة بعد ساعات من مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء الإسرائيلي

توقيت الجريمة

جاء توقيت جريمة الاغتيال الممنهجة بعد ساعات من مؤتمر صحفي لرئيس الوزراء الإسرائيلي (بنيامين نتنياهو)، عرض فيه خطته العسكرية للسيطرة على ما تبقى من مدينة غزة والمخيمات الوسطى، تمهيداً لاحتلال القطاع بالكامل، وتأكيده على أن إسرائيل تتخوف من دخول الصحفيين للقطاع قلقاً منها على حياتهم – بحسب كذبه.

في الوقت الذى رأى فيه مراقبون فلسطينيون وصحفيون أن استهداف خيمة الصحفيين في هذا التوقيت يعكس نية إسرائيل القضاء على ما تبقى من الأصوات الميدانية التي تنقل وقائع الحرب للعالم.

عملية الأغتيال البشعة، جاءت بعد أشهر من التحريض الإسرائيلي المتواصل على (أنس الشريف)، إذ تعرض لحملات تحريض متكررة من جيش الاحتلال الإسرائيلي، قادها المتحدث العسكري للإعلام العربي (أفيخاي أدرعي) منذ يوليو 2024.

حيث نشر (أدرعي) مقاطع فيديو عدة اتهم فيها (أنس الشريف) بالانتماء لكتائب القسام منذ 2013، وبأنه يستخدم عمله الصحفي للتغطية على (أنشطة إرهابية)، كما بث لقطات لبكائه أثناء تغطيته لمجاعة غزة، واصفاً إياها بـ (دموع التماسيح) وبأنها (جزء من دعاية حماس).

في يوليو 2025، أصدرت لجنة حماية الصحفيين بياناً حذرت فيه من أن هذه الاتهامات تمثل (محاولة لصناعة قبول عام لاغتياله)، المديرة الإقليمية للجنة (سارة القضاة)، قالت: إن (النمط الذي تنتهجه إسرائيل في وصف الصحافيين بأنهم مسلحون، من دون تقديم أدلة، يثير تساؤلات خطيرة حول احترامها لحرية الصحافة).

أما (أنس الشريف) فرد في حينه على هذه الحملات بقوله: (أنا صحفي بلا انتماءات سياسية، مهمتي الوحيدة نقل الحقيقة من أرض الواقع كما هي، دون تحيز.. الاحتلال يريد اغتيالي معنوياً تمهيداً لاغتيالي جسدياً).

(أنس الشريف).. ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون !
نشأ في بيئة فقيرة ومكتظة، وعاش طفولته تحت وطأة الحروب الإسرائيلية المتكررة

الشهيد (أنس الشريف)

ولد (أنس) في الثالث من ديسمبر 1996 في مخيم جباليا، شمال قطاع غزة، نشأ في بيئة فقيرة ومكتظة، وعاش طفولته تحت وطأة الحروب الإسرائيلية المتكررة، تلقى تعليمه في مدارس الأونروا ومدارس وزارة التربية والتعليم الفلسطينية، قبل أن يلتحق عام 2014 بجامعة الأقصى لدراسة الإذاعة والتلفزيون، وتخرج عام 2018.

بدأ مسيرته الإعلامية متطوعاً في شبكة الشمال الإعلامية، حيث اكتسب خبرة ميدانية في التصوير وإعداد التقارير، ثم انتقل إلى العمل مراسلاً لقناة (الجزيرة) في غزة.

خلال سنوات الحصار، تبنى نهج التغطية المباشرة من قلب الحدث غير آبه بالمخاطر، تمركز في شمال القطاع ووسط مدينة غزة، ووثق بالصوت والصورة مشاهد الدمار والمجاعة التي اجتاحت المنطقة، خصوصاً في فترات انقطاع الكهرباء والاتصالات، حيث كان يضطر لتسلق أسطح المباني بحثاً عن إشارة إنترنت لبث التقارير.

تغطياته تضمنت مشاهد لأطفال يصرخون من الجوع، وأمهات يفتشن بين الركام عن الطعام، ومدارس تحولت إلى مراكز إيواء للنازحين وسط ظروف صحية قاسية.

قال (أنس الشريف) في أحد تقاريره: (أكثر ما يؤلم هنا ليس القصف وحده، بل أن ترى طفلاً ينام وهو يبكي جوعاً لأنه لم يجد وجبة واحدة طوال اليوم)، وفي 2024، حصل على جائزة (المدافع عن حقوق الإنسان) من منظمة العفو الدولية في أستراليا تقديراً لشجاعته في توثيق جرائم الحرب الإسرائيلية.

(أنس الشريف).. ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون !
كتب وصيته الأخيرة التي نشرت عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي

الوصية الأخيرة

في وصيته الأخيرة التي نشرت عبر حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي قبل ساعات، قال (أنس الشريف): (إن وصلَتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن إسرائيل قد نجحت في قتلي وإسكات صوتي..

بداية السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، يعلم الله أنني بذلت كل ما أملك من جهدٍ وقوة لأكون سندًا وصوتًا لأبناء شعبي، مذ فتحت عيني على الحياة في أزقّة وحارات مخيّم جباليا للاجئين، وكان أملي أن يمدّ الله في عمري حتى أعود مع أهلي وأحبّتي إلى بلدتنا الأصلية عسقلان المحتلة (المجدل) لكن مشيئة الله كانت أسبق، وحكمه نافذ..

أوصيكم بفلسطين، درةَ تاجِ المسلمين، ونبضَ قلبِ كلِّ حرٍّ في هذا العالم.. أوصيكم بأهلها، وبأطفالها المظلومين الصغار، الذين لم يُمهلهم العُمرُ ليحلموا ويعيشوا في أمانٍ وسلام، فقد سُحِقَت أجسادهم الطاهرة بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ الإسرائيلية، فتمزّقت، وتبعثرت أشلاؤهم على الجدران.

أوصيكم ألّا تُسكتكم القيود، ولا تُقعِدكم الحدود، وكونوا جسورًا نحو تحرير البلاد والعباد، حتى تشرق شمسُ الكرامة والحرية على بلادنا السليبة. أُوصيكم بأهلي خيرًا.

شبكة الجزيرة الإعلامية – في بيان – لها في أعقاب الجريمة، حمّلت من جانبها جيش الاحتلال وحكومته مسؤولية استهداف واغتيال فريقها، كما نددت بشدة الجرائم البشعة والمحاولات المستمرة من السلطات الإسرائيلية لإسكات صوت الحقيقة، داعية المجتمع الدولي والمنظمات الدولية المعنية كافة إلى اتخاذ إجراءات حاسمة لوقف هذه الإبادة الجماعية المستمرة، ووضع حد للاستهداف المتعمد للصحفيين.

كما أكدت في بيانها على أن الإفلات من العقاب وعدم محاسبة القتلة هو ما يؤمّن لإسرائيل تماديها ويشجعها على مزيد من البطش بحق شهود الحقيقة، وكانت الشبكة قد طالبت قبل أيام ضمن رسالة مشتركة لعدد من المنظمات الداعمة لحرية الصحافة، والمؤسسات الإعلامية، بوقف ما تقوم به إسرائيل من تجويع قسري واستهداف متعمد للصحفيين في غزة.

وطالبت بإتاحة دخول ممثلي الصحافة الأجنبية إلى غزة، والسماح للصحفيين الأجانب بالعمل بحرية واستقلالية، وإجراء تحقيق مستقل يفضي إلى مقاضاة المسؤولين عن الجرائم بحق الصحفيين وفقا للقانون الدولي.

(أنس الشريف).. ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون !
قُتل منذ السابع من أكتوبر 2023 ما لا يقل عن 237 صحفياً

نمط ممنهج

وفق البيانات والمعطيات المتوفرة، قُتل منذ السابع من أكتوبر 2023 ما لا يقل عن 237 صحفياً، وأصيب نحو 400، واعتُقل 40، ودُمّرت غالبية المقرات الإعلامية، وأُجبرت الإذاعات المحلية على الإغلاق.

كما أكدت منظمات مثل (مراسلون بلا حدود، ولجنة حماية الصحافيين) أن إسرائيل تتبع سياسة ممنهجة لاتهام الصحفيين بالانتماء لجماعات مسلحة لتبرير استهدافهم، كما حدث مع عدة مراسلين لقناة الجزيرة وغيرهم.

أن ما شهدته غزة من استهداف لصحفيي الجزيرة ليس حادثا معزولا، بل يمثل نمطا متكررا من العمليات المنهجية ضد الإعلاميين، وتحمل الجريمة الأخيرة تشابها مقلقا مع استهداف سابق وقع في 31 يوليو 2024، عندما استهدف الجيش الإسرائيلي الصحفيَين إسماعيل الغول ورامي الريفي من قناة الجزيرة بضربة مباشرة.

ويبدأ هذا النمط المتكرر وفقا لرو بحملة تشويه وإساءة إلى الصحفيين المستهدفين، تليها عملية القتل المباشرة، في محاولة لتبرير هذه الجرائم المقصودة.

ويضع هذا الرقم المرعب من الضحايا المجتمع الدولي أمام مسؤولية عاجلة لاتخاذ رد فعل قوي وحاسم، كما يضع التجاهل الإسرائيلي المستمر للقوانين والقرارات الدولية هذه القوانين في موضع الاختبار الحقيقي، حيث تجد إسرائيل باستمرار حججا ظاهرية لارتكاب هذه الجرائم، مما يثير تساؤلات جدية حول فعالية الآليات الدولية الحالية لحماية الصحفيين.

وعليه تمثل محاسبة الجيش الإسرائيلي ضرورة حتمية لمنع الإفلات من العقاب، الذي يعني في نهاية المطاف أن القانون الدولي فقد قوته وفعاليته، وللحديث بقية..

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.