في عيد ميلاد (نجاة).. لماذا تحدى متعهد الحفلات (صديق أحمد) كل المطربات بسببها؟!.


كتب: أحمد السماحي
نحتفل اليوم بعيد ميلاد قيثارة الحب والعاطفة، وصوت الهمس (نجاة) التى أمتعتنا بعذوبة شدوها، وصدق وروعة أدائها، فالكلمات بصوتها لها قدسيّة خاصة، ومن لايسمعها بحب يفقد الكثير من المتعة.
رغم ابتعاد (نجاة) عن الغناء في السنوات الأخيرة، وظهور مئات من الأصوات الغنائية، لكن مازال صوتها هو صديقنا يصاحبنا، في كل حياتنا، نذهب للعملِ ونأخذُ صوتها معنا زادا نستعين به على همومنا، وإنكساراتنا.
ونلجأ إليه كفسحة امل في ظلام أيامنا السوداء التى أعيتها الحروب والمؤمرات السياسية وغلاء المعيشة، والفيروسات، وغيرها من صعوبات الحياة.
منذ ظهور (نجاة) في حياتنا الفنية كطفلة لأول مرة من خلال فيلمي (هدية) و(الكل يغني) عام 1947، سافرت (نجاة) إلى عـدة أماكن، وغنت في كل محافظات مصر، وفي معظم الدول العربية، منها (دمـشق، بغـداد، الرباط، الجزائـر، الأردن، تـونس) وغيرها.
كمـا سـافرت إلى مـا وراء البحـار، حيـث التقـت بالمهـاجرين العـرب في عدة دول أجنبية، وفي كل هذه الدول والمسارح حركت المشاعر الصادقة النقية، ولم تحرك الغرائز، وعشنا ذكرياتها وعاشت ذكرياتنا.
هى مطربة صُنعت من فاكهة الحب، ومن ذهب الأحلام، وظلت حتى الآن سيدة لاتتكرر في كل الأزمان، ومطربة كل العصور.
هذا الأسبوع في باب (صورة وذكرى) نحتفل بهذه الأيقونة النادرة في دنيا الأنغام، من خلال (كوكتيل) من ذكرياتها، وذكريات (صديق أحمد) أول متعهد حفلات تعاونت معه، من خلال تصفحنا في أرشيفها الحافل.


ذكريات نجاة عن طفولتها
ولدت (نجاة) لأب ذو أصول سورية هو (محمد حسني البابا)، وكان فنانا معروفا من فناني الخط العربي، ونشأت (نجاة) بإحدى شقق عمارة تطل على دار الأوبرا القديمة بين أربعة من الأشقاء، وثلاث من الشقيقات.
تتحدث (نجاة) في مذكراتها التى نشرتها مجلة (الكواكب) عام 1958 عن نشأتها وتعليمها فتقول : لأمر ما كان أبي لا يسمح لنا نحن البنات بالذهاب إلى المدارس!.
بل استقدم لنا معلمة هى (الست سكينة) التى كانت تأتي إلى بيتنا كل يوم لتتولى تعليم شقيقتي اللتين تكبراني القراءة والكتابة، وعندما بلغت الرابعة من عمري، كان علي أن أنضم إلى (فصل) الست (سكينة) لأتلقى مبادئ القراءة والكتابة، وبعض الحساب، والقصص الدينية.
وهذا النوع من التعليم الذي أعتمدته كثير من الأسر المصرية في الثلاثينات والأربعينات، كان له الفضل علي، في تقويم لغتي ونطقي، ومخارج الحروف من حنجرتي على أصول صحيحة.
وكانت أسرتي كلها يجمعها حب الفن، ويتميز أفرادها بمواهب متعددة، فإلى جانب الأب الذي كان واحدا من مشاهير الخطاطين، فقد تميز إخواتها في فنون عدة مثل الرسم والنحت والغناء والعزف على بعض الآلات الموسيقية.
إذ برع شقيقي (عز الدين) في العزف على آلتي العود والكمان، وبرع شقيقي (فاروق) في العزف على القانون، وأجاد شقيقي (سامي) وأختى (سعاد) الغناء.
وعندما ظهرت موهبتي الغنائية، تكفل شقيقي (عز الدين) بلتقيني أصول الغناء، والعزف على العود، كما قام بتدريبي على أداء التراث الغنائي ممثلا في أدوار شيوخ الغناء من أمثال (سيد درويش، وأبوالعلا محمد، وأم كلثوم، ومنيرة المهدية).
وعندما اشتغل (عز الدين) كعازف مع كوكب الشرق (أم كلثوم) كان أحيانا يصطحبني معه إلى الحفلات، سواء حفلات (أم كلثوم) أو حفلات (معهد الموسيقى الملكي) وكنت أراقب كل المطربين وأتعلم منهم.

تصفيق حاد لنجاة
وعندما استمع كبار الموسيقيين في معهد الموسيقى الملكي لصوتي، وأنا في السابعة من عمري، قرروا أن أغني في إحدى ندوات معهد الموسيقى التى كانت تعقد شهريا.
ولا يمكن أن أنسى هذا اليوم، فقد رفضت محاولات رجال المعهد لحملي على الوقوف فوق كرسي وضع على المسرح حتى يراني الحضور، وعزفت الفرقة الموسيقية، مقدمة أغنية (غلبت أصالح في روحي) لأم كلثوم.
وتستطر (نجاة): بدأت أغني، ودخلت بصوتي في اللحظة المناسبة، وما إن انتهيت من غناء المقطع الأول حتى ضجت قاعة احتفالات المعهد بتصفيق حاد، دام لدقائق.
وذاع صيتي في الوسط الفني، فتعاقدت معي المنتجة والفنانة الكبيرة عزيزة أمير على بطولة فيلم (هدية)، وفيلم (الكل يغني).
وبدأت احتراف الغناء مبكرا وأنا طفلة، وبعد حفلي الأول في معهد الموسيقى الملكي، تعاقد معي متعهد الحفلات الشهير (صديق أحمد) لإحياء مجموعة من الحفلات في صيف عام 1946 على مسرح (فؤاد) بالإسكندرية.
وفي إحدى الحفلات تغنيت بقصيدة (سلوا قلبي) لأم كلثوم، وكان من بين المستمعين في هذه الليلة كل من الموسيقار (محمد عبدالوهاب)، والكاتب الشهير (فكري أباظة).
وامتدت إقامتي بالأسكندرية في صيف عام 1946 لأكثر من شهرين، حيث كنت أقدم في كل ليلة أغنيتين من أغاني أم كلثوم.


صديق أحمد يتحدى بنجاة
نترك مذكرات (نجاة) جانبا، ونذهب لما كتبه متعهد الحفلات (صديق أحمد) عن نجاة عام 1950 في مجلة (الفن) وكانت نجاة في هذا الوقت في الرابعة عشر من عمرها.
حيث كتب قائلا: (في السنوات الطويلة التى أمضيتها من حياتي كمتعهد، أطلعتني هذه السنوات على مختلف الألوان الفنية، وحفلت بالكثير من الخبرة والتجربة، والدراسة الفنية الدقيقة للشخصيات العديدة التى عملت معي طوال هذه السنوات.
ولا شك أن هذا يتيح لي أن أتحدث الآن في صدق وصراحة عن الشخصيات الفنية التى تضمها فرقة (كواكب السينما والمسرح)، وكلهم أسماء لامعة، لها شهرتها ومكانتها.
ويهمني أن أبدأ بالحديث عن معجزة الغناء (نجاة الصغيرة) فنانة لها من جسمها الدقيق، وحسها المرهف، وأحاسيسها الفياضة بالعاطفة.
ولها من سرعة إلتقاطها للألحان هذه السرعة التى تصاحبها دقة متناهية، ومن سلامة أدائها أداء يشف عن قدرتها الطيعة على استيعاب مختلف الألحان.
وعن تمكنها من نفسها، وثقتها في فنها لها ـ أي (نجاة الصغيرة) ـ من كل هذه المميزات ما جعلها وهي في هذه السن المبكرة النضرة تتفوق على الكبيرات ممن يفقنها سنا، وسنوات في عالم الفن.
ولم تطلق عليها صفة معجزة الغناء من باب الدعاية، بل هي معجزة فعلا، فتاة لم تتجاوز الرابعة عشر ولها هذا الأداء، وهذا الصوت الدافئ الحنون، وهذا الأداء السليم الدقيق، وهذا الإلقاء الواضح، وهذه السرعة المتناهية في إلتقاط الألحان.
فتاة في هذه السن المبكرة تؤدي ألحان سيدة الغناء العربي أم كلثوم، مثل (سوا قلبي، وولد الهدى، ونهج البردة) بهذا الأداء الرائع على ما في هذه القصائد الشوقية من جزالة اللفظ، وعمق المعنى، ومافيها من صعوبة في اللحن.
فتاة تؤدي هذه الأغنيات في دقة وروعة؟ ألا تكون معجزة الغناء!، أنني أتحدى بهذه المعجزة كثيرات ممن يدعين المقدرة الفنية، ستغني (نجا) هذه القصائد، على مسرح (تياترو محمد علي) بالأسكندرية.
وأنا على استعداد لأن أقدمها إلى جانب الكثيرات من المطربات وسنرى أيتها ستنتصر، وأنني شخصيا واثق من النتيجة مقدما هل ترى من ستقبل التحدي؟!