
بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
في ظل الزخم الكبير للإنتاجات الدرامية العربية التي تبحث عن صيغة جديدة تجمع بين الأكشن والدراما الاجتماعية، يأتي مسلسل (حرب الجبالي) ليحمل على عاتقه مهمة تقديم حكاية شعبية ذات طابع خاص، تحمل جوانب الإثارة والتشويق بأسلوب جديد.
من اللحظة الأولى، يحاول (حرب الجبالي) أن يغرس في ذهن المشاهد مفهوما عميقً للصراع بين عائلتين في شارع الحرير، لا يقتصر على مجرد الانتقام، بل يمتد ليشمل الشرف، والمال، والسلطة، شخصية (سعيد الغرباوي)، التي يؤديها (رياض الخولي)، تعد المحرك الأساسي للأحداث.
وهنا يبدو (الخولي)، بخبرته الطويلة وقدرته على تجسيد الشخصيات الشعبية المعقدة، يقدم أداء مقنعا لرجل ينتمي إلى عالم (الفتوات)، ولكن بلمسة عصرية، هو شخصية أبوية قوية، تحمل داخلها مزيجا من الحكمة والعنف والشرالمطلق، وتجعلنا نصدق وجوده وقواعده الصارمة التي تحكم عالمه، لكن مع تطور الأحداث تختلف تلك النظرة.
على الجانب الآخر، يأتي أداء (أحمد رزق) في دور (حرب الجبالي)، مختلف تماما عن أدواره السابقة، فـ (رزق) في المسلسل يبتعد عن الكوميديا التي اشتهر بها، ليقدم شخصية رجل ذي كاريزما خاصة، يحاول أن يكون صوت العقل والضمير في وسط صراع دموي ظل مسنمرا طوال الأحداث.
هذا التناقض بين (سعيد وحرب) يمثل أحد نقاط القوة الأساسية في مسلسل (حرب الجبالي)، ويخلق حالة من الجدل الفكري حول كيفية التعامل مع الأزمات: هل بالعنف أم بالحكمة؟، أم أن هناك اعتبارات أخرى يأخذها المشاهد من خلال الأحداث الساخنة.
كما لا يمكن إغفال أداء (سوسن) بدر في دور الأم (أنهار)، والتي تقدم كعادتها أداء مؤثرا يجمع بين الحنان والقوة، هى ليست مجرد أم تقليدية، بل هى المرأة التي تحمل أعباء صراع زوجها وأبنائها، وتؤثر في قراراتهم بشكل مباشر، وجود هذه الشخصيات القوية والمؤثرة، كان يمنح المسلسل بداية واعدة، ويجعله يبدو وكأنه على وشك أن يروي قصة عظيمة.

ضعف الحبكة الدرامية
المشكلة الحقيقية في مسلسل (حرب الجبالي) تبدو لي علي مستوى الحبكة: تبدو تلك المشكلة من خلال تفاصيل القصة من صراع جذاب إلى تكرار ممل، مع تقدم الأحداث، فبعد تأسيس جيد للشخصيات والصراعات الأساسية، يبدأ المسلسل في الدوران حول نفسه، بحيث يبدو مسلسل (حرب الجبالي) قديما ينتمي لفتر ثمانينيات القرن الماضي.
السيناريو، الذي كتبته (سماح الحريري)، يفتقر إلى التجديد والعمق مع مرور أحداث الحلقات، الصراع بين عائلة (الجبالي وعائلة (الغرباوي) يتحول من صراع محكم ومركب إلى مجرد سلسلة من الانتقامات المتكررة.
كلما اعتقدت أنا والمشاهد أن الصراع على وشك أن يصل إلى ذروته، تظهر حبكة فرعية جديدة لا تضيف الكثير إلى القصة الرئيسية، بل تزيدها تعقيدًا دون مبرر درامي.
هذا التكرار جعل بالضرورة إيقاع المسلسل بطيئا ومملا في بعض الأحيان، فقد كنا ننتظر بفارغ الصبر نقطة تحول حقيقية، أو حدثا يكسر الروتين، لكنه غالبا ما يصطدم بنفس الحبكات المتوقعة.
وذلك من خلال محاولة قتل فاشلة، رد فعل عنيف، ثم تهدئة مؤقتة تتبعها محاولة أخرى، هذه الدائرة المفرغة تضعف من قوة الصراع، وتجعل المشاهد يفقد شغفه بمعرفة النهاية.
على المستوى الفني، حاول المخرج (محمد أسامة) أن يقدم صورة جذابة ومليئة بالتفاصيل، حيث استخدام الديكورات الشعبية، والملابس التي تعكس بيئة الحارة المصرية، كانت عناصر مؤثرة في بناء أجواء المسلسل، كما أن بعض مشاهد الأكشن كانت مصممة بشكل جيد، وساعدت في إضفاء نوع من الإثارة.
ومع ذلك، لم يكن الإخراج في (حرب الجبالي) خاليا من الهفوات، في بعض المشاهد، بدا الإيقاع بطيئا بشكل مبالغ فيه، كما أن هناك بعض المشاهد التي كانت تحتاج إلى معالجة إخراجية أكثر جرأة وحرفية لتوصيل حجم الصراع وتأثيره النفسي على الشخصيات بشكل أكبر.
ومن هنا جاءت نهاية مسلسل (حرب الجبالي) لتزيد من حالة الجدل حوله، فبعد كل هذا الصراع الممتد، لم تكن النهاية مقنعة بالقدر الكافي، النهاية التي أرادت أن تكون درامية ومفاجئة، جاءت في كثير من الأحيان مفتعلة.

كان يمتلك كل المقومات
كما أن بعض الخيوط الدرامية لم يتم حلها بشكل مرضي وجاذب في تواز مع تفاعل الأحداث، أيضا بعض الشخصيات لم تحصل على النهاية التي تستحقها.. هذا الأمر جعل المشاهد يشعر أن كل ما شاهده من أحداث كان من أجل الوصول إلى نهاية لم تكن على قدر التوقعات.
ولابد لي من القول: إن مسلسل (حرب الجبالي) كان يمتلك كل المقومات ليصبح عملًا دراميًا استثنائيًا.. شخصيات قوية، وممثلون قديرون، وفكرة صراع عائلي ملحمي، ولكن السيناريو لم يواكب طموح الفكرة، فضلا عن الإيقاع البطيء الذي سيطر على أغلب الحلقات، ما أضعف من قيمة المسلسل الفنية.
باختصار يمكن القول: إنه مثال على عمل بدأ قويا، ولكنه فقد بوصلته في المنتصف، لينهي رحلته كنقد لاذع للدراما التي تعتمد على الصراع المتكرر بدلاً من البناء العميق.. ربما كان (حرب الجبالي) يحاول أن يكون أكثر من مجرد مسلسل، ولكنه في النهاية تحول إلى صراع داخلي مع نفسه، صراع بين ما كان يمكن أن يكونه وما انتهى عليه.
للأسف كانت هنالك فرصة ضائعة لتقديم عمل يظل في ذاكرة المشاهدين، ولكنه في النهاية لم يقدم سوى تكرار لصراعات نعرفها جميعا، من خلال مشاهد لاتتطور كثيرا مع توالي الأحداث التي اتسمت بإيقاع بطء للغاية.
رغم تميز الأداء، إلا أن الشخصية لم تبتعد كثيرا عن الصورة النمطية لـ (الفتوة) الذي لا يرى حلا للمشاكل سوى بالعنف، كان من الممكن أن تكون بعض الشخصيات أكثر إثارة للاهتمام لو تم استكشاف جانبها العاطفي أو الفكري بشكل أعمق، مثل شخصية (حرب الجبالي) الذي أصر على مواجهة العنف بالعنف والشر بالشر، وهو مايخالف طبيعته الإيمانية ورجوعه بين الحين والآخر إلى شيخه ومعلمه الحكمة.
على مدار الحلقات، لم تشهد شخصية (حرب الجبالي) تطورا حقيقيا.. ظل متمسكا بنفس المبادئ حتى النهاية في مواجهة الشر بشر أكبر، مما جعل المشاهد يتوقع أفعاله وردود أفعاله بسهولة، وهو ما يضعف من عنصر المفاجأة في الدراما.
الصراع بين عائلة (حرب الجبالي) وعائلة (سعيد الغرباوي) وأخيه (راشد) يمثل جوهر المسلسل، في البداية، بدا أن الصراع يحمل رمزية للصراع بين العنف والحكمة، لكن مع تطور الأحداث، أصبح مجرد حلقة مفرغة من الانتقام.

الصراع لم يخدم الفكرة
مع تقدم الحلقات، لم يعد الصراع يخدم فكرة رئيسية، بل أصبح وسيلة لإضافة المزيد من الأحداث الثانوية، فقدت العداوة بين العائلتين عمقها، وتحولت إلى صراع سطحي مبني على الثأر لا أكثر.
بدلا من استكشاف الأبعاد النفسية والاجتماعية للصراع، ركز المسلسل على سرد سلسلة من الأحداث العنيفة دون أن يعطي مساحة كافية لتأمل تأثير هذه الأحداث على الشخصيات، خاصة الأجيال الشابة التي ورثت الصراع دون أن تكون طرفًا فيه من البداية.
النهاية في أي عمل درامي هى لحظة الحقيقة، وفي (حرب الجبالي) كانت النهاية نقطة جدل كبيرة.. النهاية جاءت كحل سطحي: بعد صراع دام 50 حلقة، لم تقدم النهاية حلا جذريا أو رسالة عميقة.. لقد جاءت وكأنها محاولة لحل الصراع بالقوة، دون معالجة الأسباب الجذرية للعداوة، حتى ولو ترك (صالح الغرباوي) قطعة منه في أحشاء (حبيبة الجبالي).
أضف إلى ذلك أن المسلسل ترك العديد من الخيوط الدرامية مفتوحة أو تم حلها بشكل غير مقنع.. مصير بعض الشخصيات لم يكن واضحا، كما أن مصير الصراع نفسه لم يكن حاسمًا بما يكفي ليمنح المشاهد إحساسًا بالإشباع الفكري أو العاطفي.. هذا الأمر جعل المشاهد يشعر أن المسلسل انتهى بشكل مفاجئ، وكأنه لم يكن هناك هدف محدد في ذهن الكاتب.
ومع كل ما مضى: لا أنكر حسن أداء كل العملاقين (رياض الخولي)، وصلاح عبد الله، والمجتهد (أحمد رزق)، والبارعة (سوسن بدر) والمبدع (مفيد عاشور)، والصاعد بقوة (أحمد خالد صالح)، وصاحبة الأداء الرومانسي مخلوطا بالمونودراما (هبة مجدي)، وصاحبة الموهبة الطاغية (انتصار)، والمتألق (أحمد الرافعي)، وغيرهم من شخصيات حاولت الاجتهاد بشق الأنفس، لكن الورق خيب آمالهم في اكتمال الصورة.

