محمد الروبي يكتب: (خان المعلم).. حين يستدعي المُريدُ شيخه من شوارع الذاكرة



بقلم الناقد الفني: محمد الروبي
هناك أفلام تُصنع بالعقل، وأخرى تُصنع بالقلب.. وفيلم (خان المعلّم)، الذي أنجزه المخرج (أحمد رشوان) عن أستاذه وصديقه، المخرج الكبير (محمد خان)، ينتمي إلى النوع الثاني، دون أن يتنازل عن أدوات الفيلم الوثائقي الجاد. فيلم يتقدّم بخفة وصدق، كأنما هو محاولة شخصية حقيقية لردّ الجميل، لا مجرد واجب تأبيني.
يبدأ فيلم (خان المعلم)، لا من بيت خان، ولا من موقع تصوير، بل من شوارع القاهرة التي طالما كانت مرآة لسينماه وأبطاله.. الشارع الذي لم يتعامل معه خان كمجرد فضاء، بل كشخصية حيّة تُقاوم التجميل، وتفصح عن أسرارها لمن يُصغي بصدق.
(خان) يسير ضاحكًا في شوارع القاهرة، بصحبة زوجته الكاتبة (وسام سليمان)، وأحد مساعديه.. ضحكته المميزة تُنير الشاشة، لكن سرعان ما يقطع المونتاج إلى (أحمد رشوان)، صاحب الرحلة، بنظرته الحزينة، وكأنه يُتابع (خان)، أو روحه التي ما زالت تحلّق في شوارع القاهرة دون أن تفقد ابتسامتها المميزة.
هذا البدء يصنع اتفاقًا صامتًا بين صانع فيلم (خان المعلم)، ومشاهده: (سأحكي لكم، وسيحكي لكم خان نفسه وأصدقاؤه ومساعدوه، من يكون خان؟)
كاميرا (أحمد رشوان) تُلاحق أستاذه (خان) وهو يسير.. لا تتطفّل عليه، ولا تُجمّله، بل تحاول أن تلتقطه كما هو: بعاديّته، وتقاطيعه، وصوته المتردد حينًا، الحاسم أحيانًا.
في هذا التتبّع البصري، تتحوّل الكاميرا من مجرّد أداة إلى عين محبّة، تسأل من بعيد: من كان هذا الرجل الذي منحنا كل هذا الحب للشارع، وللناس، وللواقع؟

خان كما قدّم نفسه
يُبنى فيلم (خان المعلم) على محور ذكي وإنساني: رؤية (محمد خان) لنفسه كما رواها هو، لا كما صاغها النقاد، مدعومة بشهادات من تعاملوا معه، ومنهم صانع الفيلم.
يستند الفيلم إلى تسجيل طويل لندوة تحدّث فيها (خان) بعفويته المعهودة، عن حياته، وبداياته، وهواجسه، وحبه للسينما، وخوفه من السطحية، ونفوره من (الفن المنفصل عن الشارع).
لم يكن (خان) في الندوة مُعلِّمًا يُنظّر، بل كمن يراجع سيرته بصوتٍ مسموع، أمام تلاميذ يعرف أنهم ليسوا مجرّد مريدين، بل شركاء في الحلم.
هذا التوظيف لندوة قد تبدو – في الأصل – حدثًا عابرًا، يحوّله (رشوان) إلى مادة سردية نابضة، تقودنا من خان الإنسان إلى خان السينمائي، ثم تعيدنا ثانية إلى خان الحيّ، الجار، الصديق، الأب، دون أن تفقد البوصلة.

الصداقة في وجه الزمن
يمنح فيلم (خان المعلم)، مساحة خاصة لصديق العمر، المصوّر الكبير (سعيد شيمي) مدير تصوير أغلب أفلام خان.. شهادته ليست مجرد مادة أرشيفية، بل حكاية ذاتية موازية، تتقاطع فيها الطفولة، والجيرة، والعائلة، والسينما.
يتحدث (شيمي) بحرارة حقيقية عن علاقته بخان، وعن بداياتهما في الحي، عن ذلك الطفل ذي الملامح المختلفة، الذي جاء من أصول باكستانية، لكنه اندمج في المكان حتى صار جزءًا من نسيجه.
في هذه اللحظات، يتحوّل الوثائقي من محاولة تأريخ لسيرة فنية، إلى مرثية حميمية لصداقة نادرة، ربطتها الكاميرا، والواقع، والحلم.
على هذا النسق، يتنقّل فيلم (خان المعلم) بين شخوصٍ كثيرة، ويلعب المونتاج – الذي أعدّه أحد أهم أبطال هذا الفيلم – لعبته في الاقتراب من شخصية شاهدة، ثم الانتقال منها إلى شخصيات أخرى، ثم العودة إلى الشخصية الأولى لاستكمال ما فتحته الشهادات السابقة من أبواب.
وهكذا، يمنحك الفيلم، في مجمله، إحساسًا بأنه (جلسة أصدقاء) يتحدّثون عن واحدٍ منهم؛ وإن كان في مرتبة الأستاذ أحيانًا، وفي أحيانٍ أخرى في مرتبة الشقيق.
هكذا نرى ونسمع أسرارًا لم نكن نعرفها، سواء عن شخص (خان) أو عن أسلوبه في العمل.
نشاهد ونسمع السيناريست (بشير الديك)، الذي كتب أفلام خان الأولى، وعلى (رأسها طائر على الطريق، موعد على العشاء، الحريف).
ومنهم أيضًا (وسام سليمان)، شريكة حياته وكاتبة سيناريوهات (بنات وسط البلد، في شقة مصر الجديدة، فتاة المصنع).
و(نسرين الزنط)، التي بدأت كمساعدة خان ثم أصبحت مخرجة، إضافة إلى (محسن أحمد)، الذي تعاون لأول مرة مع خان في (زوجة رجل مهم) و(علي الغزولي) في (عودة مواطن)، وأخيرًا (كمال عبد العزيز).
الذي التقطه خان حين كان عضوًا في لجنة تحكيم مشاريع تخرّج طلاب معهد السينما، ومنحه فرصة إدارة تصوير (سوبر ماركت) الذي حصل عنه جائزة أحسن تصوير، ومن بعده (فارس المدينة، ومستر كاراتيه).
تُطعّم هذه القطعات بلقطات حيّة من جلسات خاصة لخان مع أصدقائه، غالبًا في فنادق المهرجانات.. ضحكته الملعلعة تسيطر على الأجواء، وتشعّ في الفيلم بهجة، لكنها بهجة مجروحة.. فصوت (رشوان) الحزين يذكّرنا كل حين أن هذا الذي نحكي عنه لم يعد هنا، وأننا نتحدّث عن راحلٍ ترك أثرًا لا يُمحى.

وثائقي يُقاوم الشكل الجاهز
رغم الطابع الوجداني الذي يسكن الفيلم من لحظته الأولى، فإن (أحمد رشوان) لا يقع في فخ التقديس أو النواح، بل ينسج بناءه بلغة سينمائية متماسكة.. الكادرات محسوبة، الإيقاع متوازن، والربط بين الصوت والصورة يُنتج لحظات مؤثّرة دون افتعال.
هكذا يُذكّرنا فيلم (خان المعلم) بأن الوثائقي ليس بالضرورة مادة جامدة تفيض بالمعلومات، بل يمكنه أن يكون قصيدة حبّ، أو رسالة شكر مؤجّلة، أو تأملًا في مصير الفنّان بعد رحيله.
أجمل ما في فيلم (رشوان) أنه لا يدّعي الحياد، ولا يُخفي مشاعره، لكنه أيضًا لا يُغرق الفيلم في ذاتيّته، بل يجعل من العلاقة بينه وبين خان خيطًا رفيعًا يربط كل المشاهد، دون أن يصبح الفيلم (عن رشوان)، أو (عن الحزن)، بل يظل مخلصًا لرجلٍ ظلّ يرى في السينما طريقةً لفهم العالم، لا للهروب منه.