رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

رسمي فتح الله يكتب: (عبد الرحيم منصور).. ابن الربابة

رسمي فتح الله يكتب: (عبد الرحيم منصور).. ابن الربابة

رسمي فتح الله يكتب: (عبد الرحيم منصور).. ابن الربابة
كان الجنوب ما يزال يحتفظ بصورته الأولى، الحقول الخضراء، والبيوت الطينية

بقلم الكاتب الصحفي: رسمى فتح الله

في قنا، المدينة التي تشبه نغمة قديمة على وتَر الربابة، وُلد (عبد الرحيم منصور).. كان ذلك في 15 يونيو عام 1941، حين كان الجنوب ما يزال يحتفظ بصورته الأولى، الحقول الخضراء، والبيوت الطينية، والأمهات اللواتي يخبزن الحزن في صمت، والجدّات اللواتي يُخفين دموعهن وراء أغاني المواويل.

نشأ (عبد الرحيم منصور) في بيتٍ بسيط، لا يعرف الفائض، لكنه عامر بالمعنى. في هذا البيت تربّت الحكايات، وكبر الصمت، وتشكّلت القصيدة.

لم يكن (عبد الرحيم منصور) تلميذًا للقصيدة، بل كان ابنها.

لم يدرّسه أحد كيف يكتب، لكنه كان يسمع الغيم حين يمرّ، ويقرأ وشوشة النسيم حين يداعب النخيل، ويعرف أن الحروف ليست حكرًا على الكتب، بل تسكن الجدران والأرض وخطوات الفلاحين. لذلك كتب كما يتنفس، لا يخطط ولا يفتعل، فقط يُفرغ القلب على الورق، ويترك للناس أن يحكموا.

لم تكن قصيدته متزينة ولا معطّرة، لكنها كانت حقيقية، مثل طبق العدس في عزّ البرد، مثل منديل أمه على جبهته حين ترتفع الحُمّى، مثل كلمة (يا ولدي) من جدته حين تضيق الدنيا.

هناك، في قنا، سمع (عبد الرحيم منصور) لأول مرة المعنى.

لم تكن قريته غنية، لكنها كانت كريمة في الحنين.

كان الليل طويلًا، وكانت الجدة تسرد حكايات عن رجال راحوا في الغيطان ولم يعودوا، وعن نساء صمدن في وجه الفقر، وغنين للغائبين كما يُغنى للمنتظرين.

وفي يوم، نزل (لويس جريس إلى الجنوب، يبحث عن المعذبين بالفن، فوجد شابًا، بعينين فيهما صدقٌ لا يُشترى، وورقٍ مكتوب عليه كلام لا يشبه أحدًا.

كان عبد الرحيم يكتب كأنه يحكي، وكأنه يغني، وكأنه يبكي.. حمله لويس إلى القاهرة، إلى مجلة (صباح الخير)، إلى المدينة التي تبتلع الشعراء ولا تعيدهم، لكنه عاد منها شاعرًا.

رسمي فتح الله يكتب: (عبد الرحيم منصور).. ابن الربابة
نشر ديوانه (الرقص على الحصى) في أواخر الستينات.. لم يكن عنوانًا شعريًا فقط، بل سيرة حياة

أصرّ أن تكون له نبرة خاصة

دخل (عبد الرحيم منصور) الإذاعة لا بشهادات ولا وساطات، بل بكلماته.

كانت الإذاعة في الستينات تعجّ بالأصوات الكبيرة، لكنه أصرّ أن تكون له نبرة خاصة.. انضمّ إلى قافلة من الحالمين: (الأبنودي، سيد حجاب، مجدي نجيب)، لكنّه لم يذُب فيهم، بل كان له طريقه، وحزنه، وفرحه. كتب للناس بلغتهم، وكتب للوطن بجراحه، وكتب للحب وكأنه أوّل عاشق.

نشر ديوانه (الرقص على الحصى) في أواخر الستينات.. لم يكن عنوانًا شعريًا فقط، بل سيرة حياة.

فعبد الرحيم لم يمشِ يومًا على سجادة، بل على حصى؛ وكان يعرف أن الرقص لا يحدث إلا في قلب الوجع، وأن الفرحة لا تكتمل إلا إذا مسّها الحنين.

لم يهتم كثيرًا بنشر دواوينه، كان يعتقد أن الكلمة مكانها فم المغني لا أرفف المكتبات. لذلك، كانت الأغنية ديوانه المفتوح، وسيرته التي تمشي.

ثم التقى بالموسيقار (بليغ حمدي)، اللقاء الذي غيّر وجه الأغنية المصرية.

كان (بليغ) يبحث عن الكلمة التي تحترق، ووجدها عند (عبد الرحيم منصور)، كتب له عبد الرحيم (على الربابة) وغنّتها وردة الجزائرية، فصارت ربابة حقيقية، تُحكى من فوقها حكاية وطن، ثم كتب (لو سألوك)، الأغنية التي لا تزال تدقّ القلوب: (أيام علينا تعدي وتمر زي السحاب، ناخد معاها وندى ونبيع لبعض العذاب..)، أغنية واحدة، لكنها كانت سيرة جيل.

وفي خضمّ الأغاني الوطنية، كانت هناك شادية، سيدة المشاعر، التي غنّت من كلماته (يا أم الصابرين)، تلك الأغنية التي لم تكن فقط لأمهات الشهداء، بل لأمهات الوطن كلّه. شجن لا يُمثّل، وحروف لا تُزخرف، بل تولد من رحم الأرض.

رسمي فتح الله يكتب: (عبد الرحيم منصور).. ابن الربابة
جاء اللقاء الثاني الكبير: (محمد منير).. لم يكن منير معروفًا بعد

اللقاء مع (محمد منير)

ثم جاء اللقاء الثاني الكبير: (محمد منير).. لم يكن منير معروفًا بعد، لكن (عبد الرحيم منصور) رآه، آمن به، وكتب له (علموني عنيك، يا صبية، أمانة يا بحر، اتكلمي، يا أماه، في عنيك).. كلها ليست فقط أغانٍ، بل كانت مشروعًا جديدًا للحب.. لم يكتب (عبد الرحيم منصور) الحب كما يُكتب في الكتب، بل كما يُعاش تحت المروحة، في غُرفة ضيّقة، في صمت العشاق، في شوق لا يُقال.

ولم يكن (منير وحده.. عفاف راضي) بنقاء صوتها، غنت له (تعالى جنبي، ويا حمام السلام، أم الشهداء)، فصار للوجع جناح.. (نجاة الصغيرة، فايزة أحمد، سميرة سعيد، ميادة الحناوي، محمد رشدي، مدحت صالح، علي الحجار، محمد ثروت، هاني شاكر، عمرو دياب)، كلهم مرّوا من بوابة (عبد الرحيم منصور)، وكلهم غنوا شيئًا منه.

حتى (كتكوت الأمير)، صوت الشارع الشعبي، كتب له (عبد الرحيم منصور).. كتب له (حظوظ، ماليش طريق يحس بيا، والمواويل) وغيرها.. لم يكن الشاعر يترفّع عن الأغنية الشعبية، بل كان يعرف أن الناس هناك أيضًا يحتاجون لمن يقول وجعهم.

ومع (أحمد منيب)، الملحن النوبي الكبير، صنع شيئًا مختلفًا هناك، في نغمات (منيب) وجد (عبد الرحيم منصور) الجنوب الحقيقي، فكتب له (يا وعدي ع الأيام، وماشي غريب، يا عشرة تهوني ليه).. فصارت الأغنية ممزوجة بتراب النوبة وعرَق الصعيد وملح الارض.

رسمي فتح الله يكتب: (عبد الرحيم منصور).. ابن الربابة
مع بليغ حمدي
رسمي فتح الله يكتب: (عبد الرحيم منصور).. ابن الربابة
كتب فيلم (الزمار) لعاطف الطيب، سيناريو وحوارًا وأشعارًا

(الزمار) لعاطف الطيب

وفي السينما، كتب فيلم (الزمار) لعاطف الطيب، سيناريو وحوارًا وأشعارًا، وكأنه أراد أن يقول إن القصيدة يمكن أن تكون مشهدًا، وإن الحوار يمكن أن يُغنى.

ومع كل هذا، لم يكن (عبد الرحيم منصور) من أبناء المهرجانات ولا حفلات التكريم.

كان يسهر مع (بليغ)، يتسكع مع (منير)، يجلس في الظل، يشرب الشاي في قهوة صغيرة، يضحك بخجل، ويكتب حين يسكت الجميع.. لم يتحدث كثيرًا، لكنه حين يتحدث، تشعر أن الكلمات تخرج من حنجرة البلاد، لا من فمه.

وفي صباح 28 يوليو 1984، غادر الدنيا كما عاش فيها: بهدوء، دون ضجيج، دون وداع.. نام ولم يستيقظ.. لم تصرخ الصحف، ولم تخرج الجنازات الكبرى.. لكنّ الأغنية بكت، والربابة صمتت، وعيون الناس امتلأت بالحنين.. مات (عبد الرحيم منصور)، لكنّه لم يغِب.

لأن من كتب (في عنيك، ويا صبية، ولو سألوك، ويا أم الصابرين)، لا يموت.. لأنه لم يكتب للمال ولا للمجد، بل كتب لأنه كان يرى ما لا نراه، ويسمع ما لا نسمعه. كتب كما يُولد الطفل، وكما يفيض النهر، وكما تبكي الأم دون أن تشتكي.

(عبد الرحيم منصور)، شاعر لم يدخل التاريخ من بوابة العناوين العريضة، بل دخل من أبواب البيوت، من قلب الأغنية، من وجدان الناس.. وحين نذكره، لا نذكره كشاعر فحسب، بل كواحد منّا، ابن بلد، ابن حكاية، ابن أمٍ صبورة، وابن جنوبٍ لم يتخلَ عنه أبدًا.

وفي زمن يُنسى فيه الشعراء، يبقى (عبد الرحيم منصور) استثناءً.. لأنه لم يكن يكتب شعرًا.. بل كان هو الشعر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.