رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم

(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم
تعد مرحلة السجن نقطة تحول رئيسية، حيث تتجلى قدرات (يوسف الصديق) في تفسير الأحلام
(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم
زليخة.. شخصية مؤثرة للغاية في تفاصيل الدراما
(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم
محمد حبوشة

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة

انتهيت من أيام من مشاهدة مسلسل (يوسف الصديق)  – للمرة الثانية – ذلك الذي يعد علامة فارقة في الدراما الدينية الإسلامية، ولاحظت أن المسلسل على الرغم من انتاجه قبل 17 عاما، إلا أنه جمع بين الالتزام بالنصوص والجرأة الفنية، ونجح في إحياء قصة خالدة بلغة بصرية راقية.

ورغم الجدل المثار حوله حتى الآن، فإنه يبقى نموذجا يحتذى به في توظيف الفن لخدمة الرسالة الروحية، ويطرح سؤالا مهما: كيف يمكن للفن أن يكون جسرا لفهم الدين وليس حاجزا؟، وفي ظل عالم يتسارع فيه الإعلام، يبقى (يوسف الصديق)، عملا يذكرنا بأن القصص القرآني لا يزال ينبض بالحياة، ويحتاج فقط إلى عدسة مخلصة لفهمه ونقله إلى الناس.

مسلسل (يوسف الصديق) يعنى بالفارسية: (یوسف پیامبر)، وهو عمل درامي تلفزيوني إيراني من إنتاج عام 2008، يروي قصة النبي يوسف عليه السلام كما وردت في القرآن الكريم، وسفر التكوين في العهد القديم، مع تركيز خاص على الرواية القرآنية.

أخرجه (فرج الله سلحشور) وكتب السيناريو بنفسه، مستندا إلى مصادر دينية وتفاسير إسلامية، وأدى دور البطولة الممثل الإيراني (مصطفى زماني) في أول ظهور له على الشاشة، ويعد المسلسل من أكثر الأعمال الدرامية الإسلامية تأثيرا وانتشارا في العالم العربي والإسلامي، وقد أثار جدلا واسعا وأحدث نقاشات دينية وثقافية عميقة منذ بثه وحتى وقتنا الحالي.

وللحقيقة يمتاز سيناريو (يوسف الصديق) بالتماسك والتدرج السلس في سرد الأحداث، رغم اتساع رقعة الزمن والمكان، حيث اتبع الكاتب نمطا سرديا خطيا مع توظيف بعض تقنيات الفلاش باك (الاسترجاع) والمونولوجات الداخلية، لإعطاء عمق نفسي للشخصيات.

(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم
ظهور علامات النبوة عليه منذ الصغر

الصراع بين الشهوة والإيمان

تبدأ القصة بولادة (يوسف) عليه السلام في بيت النبي يعقوب عليه السلام، وظهور علامات النبوة عليه منذ الصغر، كما يُظهر المسلسل الغيرة التي تملكت قلوب إخوته، ما دفعهم للتآمر عليه وإلقائه في البئر.

ينتقل يوسف إلى مصر ويباع عبدا في قصر العزيز، وتبدأ مرحلة جديدة من التحديات، أبرزها محنة امرأة العزيز التي حاولت إغرائه، ويبرز المسلسل الصراع الداخلي بين الشهوة والإيمان، ويُقدم يوسف كشخصية طاهرة ثابتة رغم الإغراء والضغط.

تعد مرحلة السجن نقطة تحول رئيسية، حيث تتجلى قدرات (يوسف الصديق) في تفسير الأحلام، مما يؤدي إلى خروجه وتوليه منصب الخزانة في مصر.. تُعرض هنا موضوعات مثل الظلم والصبر والتمكين بعد الابتلاء.

تصل القصة إلى ذروتها حين يلتقي يوسف بإخوته مجددا دون أن يعرفوه، فيختبر إخلاصهم ويتحقق حلمه القديم بالسجود، حين يسجد له أبواه وإخوته، وتنتهي القصة بانتصار (يوسف) الإيماني والروحي والإنساني.

ويقدم مسلسل (يوسف الصديق) حزمة من القيم الأخلاقية والدينية، من أبرزها: (الصبر): يوسف صبر على ظلم إخوته، وعلى السجن، وعلى الإغراء، (العفة): يتجلى في موقفه من زليخة، رغم توفر الظروف المواتية للوقوع في الحرام، (العدالة والرحمة): حين عفا عن إخوته رغم ما فعلوه به.

كما يضيف مسلسل (يوسف الصديق) قيم أخرى مثل: (الإيمان والثقة بالله): كل مراحل حياة يوسف تعكس تسليما لله ورضا بقضائه.

ورغم النجاح الكبير لمسلسل (يوسف الصديق) إلا أنه لم يخل المسلسل من ملاحظات نقدية: الإيقاع البطيء: حيث  اشتكى بعض المشاهدين من بطء تطور الأحداث في بعض الحلقات، التكرار في الحوار: فقد وجد في بعض المقاطع ميل نحو الخطابة والتكرار، خاصة في المشاهد الدينية، إضافة إلى عدم إتقان الديكور في إبراز النقوش على جدران القصور والمعابد على نحو جيد يظهر عظمة الحضارة المصرية.

أما المعضلة الأساسية تبدو هنا في التعقيد العقائدي: تأثر النص ببعض المفاهيم الشيعية مثل العصمة ومعاني النبوة، وهو ما قد لا ينسجم مع الفهم السني التقليدي.

اعتمد كاتب قصة (يوسف الصديق) على بعض معلومات أخذها من الكتاب المقدس (العهد القديم)، ويبدو أنه قد أغفل تماما المصادر التاريخية التى أوردت بعض الحقائق المتصلة بقصة المسلسل، كما أن المؤلف لم يشعر بسر الحقيقة القرآنية التى ذكرها مع قصة يوسف عليه السلام، التى تثبت أو تنفى بعض القصص المشهورة بين العامة.

(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم

الالتزام بالرواية القرآنية

وعلى الرغم من التزام مسلسل (يوسف الصديق) بالرواية القرآنية في الخطوط العريضة، إلا أنه تضمن بعض الإضافات الفنية لتلبية متطلبات العمل الدرامي، مثل:

إعطاء مساحة درامية لشخصية (زليخة) قبل وبعد التوبة، فضلا عن تصوير حياة المصريين القدماء والكهنة، بما يشبه الأعمال التاريخية، وإدخال بعض الشخصيات الثانوية التي لم ترد في النصوص الدينية، لخدمة الحبكة.

وقد أثار هذا بعض الجدل بين العلماء، خصوصا في مسألة تجسيد الأنبياء، وهو ما يعد محل خلاف فقهي بين المسلمين، حيث يرفضه بعض العلماء السنة، بينما لا يمانع بعض الفقهاء الشيعة إذا كان الهدف تعليمياً وباحترام كامل.

ولاحظت أن مؤلف (يوسف الصديق) ظل أسير كلمة (فرعون) التى ترددت كثيرا مع قصة يوسف عليه السلام فى التوراة، فأحاطت به، فحاد عن الحقائق التاريخية التى أكد صحتها القرآن الكريم.

وبناء على ما سبق، فإن المؤلف قد وقع في عدة أخطاء أخرى، ومنها عند إقحامه الفرعون (أمنمحتب) فى هذا المسلسل، والصحيح أن الملك والوزير و(زليخة) وجميع الأفراد والمنشآت والحوادث كان لابد أن تنسب إلى الهكسوس وليس إلى المصريين، وبهذا يخرج (آمون) وكهنة المعبد من المسلسل.

وللحقيقة أيضا، فعند دخول (يوسف الصديق) عليه السلام إلى مصر لم يكن (الحصان والعربة) قد استخدما بعد، فأول ظهور للحصان بمصر كان مع بدء المناوشات بين المصريين والهكسوس عند بدء حروب الاستقلال آواخر القرن السابع عشر قبل الميلاد.

وقد ذكرت التوراة أن (الفرعون) أطلق عليه اسم (صفنات فعنيح)، فمن أين أتى اسم (يوزر سيف) المذكور فى المسلسل؟!، وإذا أحسنا الظن بأصحاب المسلسل، وأنهم لم يقصدوا الإساءة إلى مصر عامة وإلى نسائها بوجه خاص.

وإذا جاز لنا أن نقول إن مسلسل (يوسف الصديق) عليه السلام الإيرانى هو تعبير عن رؤية المؤلف والمخرج لأحداث مشهورة وليست تسجيلا تاريخيا لها، فهذه الدراما تظل محل إعجاب من يتابعها، وربما استفاد من الأفكار والنصائح والمواعظ التى تقدمها.

ومع شهادة الكثيرين للمسلسل على أنه عمل فنى راق على المستويين التشخيصى والإخراجي، وكذلك دبلجة الصوت عايش من خلاله من تتبعه من المصريين على وجه الخصوص أجواء تاريخهم المشرق، عندما كانت مصر سلة للغلال ومخلصة لمن حولها من أزماتهم خلافا لما فيه مصر فى هذه الأيام.

(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم
تجسيد (يوسف الصديق) للممثل (مصطفى زماني) بشكل احترافي ملفت جدا

تجسيد (يوسف الصديق)

إلا أن السيناريو الذى صيغت فيه هذه القصة قد أعد بطريقة لا تخلو من الحرفية الشديدة التى تجعله يوظف كرمز فنى أو معادل موضوعي، يخدم بل يروج للنظام السياسى الذى تنتهجه الدولة الإيرانية فى العصر الحديث منذ وصول الخمينى إلى الحكم. 

على مستوى الأداء يأتي تجسيد (يوسف الصديق) للممثل الإيراني الشاب – وقت إنتاجه – (مصطفى زماني) بشكل احترافي ملفت جدا، حيث أدى دوره بعمق وهدوء، وأعطى الشخصية بعدا روحيا وواقعيا، أظهر مراحل تطور يوسف من الطفولة إلى النضج، وكان موفقًا في تجسيد الإيمان، الرحمة، والحكمة.

أما (يعقوب النبي) الذي لعب دوره (محسن زهتاب)، فقد أدى دور الأب الحزين المؤمن الذي لم يفقد الأمل بعودة ابنه، وعبر عن مشاعر الحزن العميق والحنين بروح دينية وإنسانية مميزة.

وكذلك الحال مع زليخة (كتايون رياحي) زوجة عزيز مصر، حيث قدمت شخصية معقدة، تم تناولها بدرجة من التعاطف في المسلسل، خصوصا في مراحل تحولها إلى الإيمان والتوبة، مما أضفى على القصة بعدًا نفسيًا عميقًا.

وعن أداء دور العزيز (بوتيفار، والوزير، والكهنة) فقد شكلوا رموزا للسلطة والجاه، وتباينت مواقفهم بين الإعجاب بيوسف، ومحاولة تحجيمه أو استغلاله.

ومن هنا: يمكن القول إن مسلسل (يوسف الصديق) لم يكن مجرد عرض تلفزيوني، بل منبر تعليمي: ساعد في تقريب سيرة نبي الله يوسف إلى جمهور واسع، بلغة درامية مفهومة، كما أنه أداة دعوية: استخدمه بعض الدعاة في محاضراتهم لإثبات قيمة الصبر والإيمان، وفي النهاية يعد المسلسل مرجع بصري أصبح لدى بعض المؤسسات الدينية والتعليمية.

والآن: في زحمة الأعمال الدرامية التي تشهدها الشاشات العربية في هذه الأيام وما يتخلل هذه الأعمال من غث وسمين وأعمال لا تستحق المتابعة، ولا حتى الاهتمام، حيث درج في الآونة الأخيرة الكثير من المخرجين والمنتجين التوجه إلى الأعمال التجارية التي ليس لها هدف، لا تثقيفي، ولا حتى ترفيهي.

(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم

(يوسف الصديق).. قراءة متأنية لمسلسل ديني عظيم
لم تستطع الدراما الدينية التلفزيونية أن تنتج عملا يحوز شهرة عالمية منذ ظهور مسلسل (يوسف الصديق)

الأعمال الدرامية التافهة

ناهيك عن الأعمال التي تمجد اللصوص والحشاشين وتجار المخدرات وتقديمهم للمشاهد بصورة إيجابيه مما دفع الكثير من الشباب إلى تقليد أبطال هذه الأعمال الدرامية التافهة، وقد رأينا الكثير من الشباب يقلدون جبل في طريقة قصة شعره ولبسه ومن طريقة تدخينه السجائر إلى آخره من سلبيات وخواء وابتذال.

لم تستطع الدراما الدينية التلفزيونية خلال عقود طويلة من أن تنتج عملا يحوز شهرة عالمية منذ ظهور مسلسل (يوسف الصديق) وحتى يوما الحالي، فعلى الرغم من أن هذا المسلسل قد تم إنتاجه في بيئة غير عربية، إلا أنه استطاع أن يجذب المشاهدين العرب وغيرهم بمختلف اطيافهم.

وهذا العمل بشكله العام كان يمكن أن يكون خطوة مشجعة لمنتجي الدراما الدينية، في ظل أنهم ينافسوا الدراما ذات الطابع الغربي، وبخاصة بعد أن تراجع معدل الاهتمام بها مؤخرا بدعوى عدم القدرة على منافسة المنتوج الأجنبي.

لا شك أن مسلسل (يوسف الصديق) قد أثار انتباهي مجددا بشكل ملفت للنظر وخلق ارتباطا وثيقا بين المتلقي ولقطات العرض المشوقة، وكان أهم عناصر النجاح في المسلسل تكمن في طبيعة مكان العمل السينمائي.

إذ كان يتمثل بأجواء مشابهة لأجواء مصر القديمة، وتميز بضخامة الأبنية والمدن الأثرية، كما أن الملابس والإكسسوارات والماكياج المستخدمة في المسلسل – على عدم دقتها – استطاعت أن تنقل المشاهد إلى أجواء روحية لذلك العصر، فضلا عن أن الشخصيات برعت في خلق مناخ يعيد الذاكرة إلى 1160 سنة قبل الميلاد حول تاريخ بني إسرائيل والأهرامات.

هذا وقد لعبت حبكة الأحداث بين كهنة المعابد و(يوسف الصديق) ودينه الجديد دورا في النجاح، فالتفاصيل الدرامية حفزت روح البحث لدى المشاهدين وإبداء الآراء حول الأحداث التاريخية، وصارت أسماء أبطال المسلسل (يوزر سيف – بيناروس – زليخة – نفرتيتي – آمن حوتب – بوتيفار) أسماء متداولة بكثرة على السن الناس.

ومما زاد من شهرة المسلسل حجم العرض في عدد كبير من القنوات في أوقات مختلفة، ووجوده حتى الآن على بعض المنصات الرقمية العربية، بحيث تعطي للمشاهد وقتا كافيا للتعرض للمسلسل ومتابعته.

هل من عمل فني عملاق؟!

وفي النهاية: بعد هذه الجولة السريعة في أروقة مسلسل (يوسف الصديق) يحق لنا أن نتساءل: هل بإمكان القنوات العربية والاسلامية أن تبحر في طاقاتها الشابة والأسماء اللامعة ومدنها الإعلامية ومنتجيها من أصحاب الاموال الطائلة التي تعادل ميزانيات دول لتخرج الينا عملا فنيا عملاقا يحكي وجودنا الانساني والتاريخي.

ويدفع عن أبنائنا ونسائنا وأرضنا وديننا كيد الإرهاب الاعلامي الذي استبدل ذلك بهلوسات بعض المسلسلات الهابطة التي لا تستحق العرض ولا تحمل اي معانٍ انسانية وتاريخية هادفة؟

وهل بالإمكان أن ننتج اعمالا فنية تكون موضوعية وصادقة تنقذها من التبعية للكثافة الاعلامية الزاحفة من الغرب التي ما لبثت تنشر ثقافتها الغريبة عنا وتبث في نفوس أبنائها انقطاعهم عن ثقافتهم وتراثهم الخاص؟.. أشك في ذلك بالطبع، طالما منطق التجارة في الفن أصبحت له اليد الطولي!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.