رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)
فرقة التخت الشرقي في دار الإذاعة الفلسطينية ومن بينهم العبقري محمد كريم عازف البزق والعود الشهير

كتب: أحمد السماحي

(رياض البندك) ملحن فلسطيني، من رواد الأغنية العربية، لم تمنعه جنسيته من الذوبان والانصهار في العالم العربي، حيث راح يجول في أحشاء الدول العربية، يتعرف على غنائها.

ويستمع ويتأمل وينبهر، وينتج الخاص به، فكتب إسمه بحروف من النور في عالم التلحين، من خلال تقديمه عددا كبيرا من الألحان لأساطين النغم، مثل (نور الهدى، ماري جبران، وديع الصافي).

وكروان، وزكية حمدان، وسعاد محمد، وشهرزاد، كارم ومحمود، ومحمد قنديل، ونصري شمس الدين، وفهد بلان، وملحم بركات، ونهاد طربية، وجورج وسوف، ولطفي بوشناق) وغيرهم.

كما أن (رياض البندك) هو أول من اكتشف المطربة الكبيرة (فايزة أحمد)، وقدمها للساحة الغنائية، من خلال موشح (كحل السهاد)، وآخر بعنوان (أنت طيف أحسه في الأماني).

والمتابع لألحان (رياض البندك) يجد أنها تشبه أبنية معمارية تقوم على أسس متينة، ونجد اللحن كالقصر، كالمعبد، كالمسجد، بقدر ما فيه من هندسة معمارية فيه من الزخارف والنقوش والألوان من كل مبهج ومثير.

 بالإضافة إلى روح الأنس الكبيرة الشائعة في ألحانه، فاللحن يؤنس وحدتك، ويشعرك بأن الكون كله معك، وأنه يشاركك في كل ما تشعر به من بهجة وصفاء وشفافية.

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)
عيسى البندك والد رياض البندك

أسرة عريقة من بيت لحم

ولد (رياض البندك) عام 1926 في (بيت لحم) في منزل عريق اجتماعيا وسياسياً، فوالده هو (عيسى البندك) سياسي وطني، وكان عضوا في اللجنة التنفيذية العليا التي كانت تقود النضال الوطني في أصعب فترة من حياة الشعب الفلسطيني.

و(عيسى البندك) هو أيضا صاحب أول جريدة في المنطقة، وثاني جريدة فلسطينية، هي جريدة (صوت الشعب) والتي صدرت عام 1922، وبعد سنوات قليلة من عمله الصحفي، أصبح رئيسا لبلدية (بيت لحم) 3 مرات في مرحلة الثلاثينيات.

ومن هذا المنزل خرج الصحافي المبدع (مازن البندك) شقيق رياض، وهو مؤسس مجلة (الجيل) والتي كانت تصدر في انهاية الستينات وظلت تصدر حتى التسعينات.

ومن هذا البيت خرج أيضا الشقيق الآخر (يوسف)، والذي استمر بجريدة (صوت الشعب) بعد والده، في هذه الأجواء ترعرع طفل موهوب موسيقياً اسمه (رياض البنك) وما أن بلغ 8 سنوات حتى تعلم العزف واستطاع الحصول على عود.

وكان على الرغم من صغر سن (رياض البندك)، كان يقوم بجمع أولاد الحارة الذين وصل عددهم 15 طفلاً بمن فيهم أخته (سعاد)، ويقوم (رياض) بإلباسهم ملابس خاصة لافتة للنظر ثم يجوب بهم بيوت المنطقة، يعزف ويغنى ويساعده الأطفال الآخرون من خلال الغناء والعزف على الطبل والدف.

ويحصلون في نهاية المطاف على نصف قرش أو قرش، وهذا النمط من العروض الغنائية والمسرحية في الشارع كان رائجاً في (بيت لحم) في تلك الفترة ولكن الكبار كانوا هم من يمارسونه وليس الصغار.

درس (رياض البندك) في مدرسة (بيت لحم) الابتدائية وكان مديرها آنذاك الأستاذ (فاضل نمر) من رام الله، وكان يعزف الكمان ويعشق الموسيقى، وفي العام 1937 قام المدير بتشكيل جوقة للمدرسة فاختار (رياض) رغم أن عمره كان 11 عاماً.

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)
الملحن يحيي اللبابيدي، والشاعر إبراهيم طوقان من العاملين في إذاعة فلسطين في الثلاثينات

رياض البندك يحكي بنفسه

هذا الأسبوع في باب (مظاليم الفن) نتوقف مع الرائد الكبير (رياض البندك) وهو يحكي بنفسه جزء من ذكرياته أدلى بها عام 1989 لمجلة (فن) اللبنانية للزميلة السورية (هيام منور)، فإليكم نص ما أدلى به عن مشواره الفني:

في البداية يقول الملحن (رياض البندك): كان شغفي بالموسيقى نوعا من الهوس، فأي أغنية أسمعها كنت أحفظها فورا سواء كانت لأم كلثوم أو محمد عبدالوهاب، أو للشيخ أبوالعلا محمد، أو غيرهم.

والغريب أن الكلاسيكية العربية الموسيقية كانت تعيش في دمي منذ الصغر، أما العائق الأكبر الذي كان أمامي فهو والدي، حيث كان رئيسا لبلدية (بيت لحم)، فعندما علم والدي بنشاطي الفني قام بكسر العود وتهديدي.

ولكني اشتريت عوداً آخر، وكنت أهرب من المدرسة لأتدرب على العزف، وعندما علم والدي كسر العود مرة أخرى، وعاقبني بإرسالي إلى مدرسة النهضة الداخلية في (البقعة).

وهناك حصلت على عود ثالث، وصرت أعزف وأغني للطلاب سراً، وخاصة بعد أن يتظاهر الجميع بالنوم، كان والدي يقول لي : (علمك أولا، ثم أصنع ما تشاء) لكنني عملت العكس!.

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)
صورة إرشيفية للإذاعة الفلسطينية في الثلاثينات

البندك والإذاعة الفلسطينية

فأرسلت طلبا للإذاعة الفلسطينية، وكان مدير البرامج في ذلك الوقت (يحيي اللبابيدي) أحد رواد الموسيقى المعروفين، وملحن الأغنية الشهيرة (ياريتني طير لطير حواليك) لفريد الأطرش.

وجاءني رد الإذاعة، وحددوا لي يوما للامتحان، وأذكر أنني ألفت كلاما ولحنته مطلعه (مسكين الطير غنى)، وذهبت للإذاعة، ودخلت الأستديو، وأمامي فرقة موسيقية كبيرة بقيادة المرحوم (جميل عويس) وهو من مدينة حلب، وكان رئيس الأوركسترا لفرقة محمد عبدالوهاب.

ولفت نظرهم أنني دخلت الاستديو من دون خوف، وبمنتهى الجرأة، وغنيت مقطعا من الأغنية، وذهل الحاضرون، من عذوبة صوتي وجمال اللحن.

ويستكمل (رياض البندك) ذكرياته فيقول: بعد إعجاب لجنة الإذاعة بما قدمته، طلب مني (يحيي اللبابيدي) أن أحضر لإجراء البروفات مع الفرقة في الأيام التالية، وفعلا حضرت، وقدمت أغنيتي الأولى (مسكين الطير غنى).

وتم إذاعة الأغنية، وكانت مفاجأة لعائلتي، ويومها اتصل والدي بـ (اللبابيدي)، وهدده، وقال له: (لو أدخلت ابني طريق الفن، فسأكسر لك رجلك الثانية)، حيث كان (اللبابيدي) أعرجا.

وفي اليوم التالي ذهبت للإذاعة، ومنعني الحرس من الدخول، تنفيذا لأوامر والدي، فرجعت كئيبا إلى (بيت لحم)، ولكي أكمل نشاطي الموسيقي، صرت أذهب للسهرات والأعراس والحفلات وأغني.

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)
اعتقلوا والدي، ونفوه إلى اليونان

اعتقال والدي كان معجزة

ظللت على هذا الوضع إلى أن حدثت المعجزة التالية، في شهر أغسطس سنة 1938، طوق الجيش البريطاني مدينة (بيت لحم)، واعتقلوا والدي، ونفوه إلى اليونان.

وطبعا لن أنسى ذلك اليوم، حيث كانت البلد تعيش في ثورة لاعتقال زعيمها، بينما كان هذا أسعد يوم في حياتي، ففي غياب والدي بدأ نشاطي في الإذاعة الفلسطينية، وأصحت أحد فنانيها.

وبعد الحرب العالمية الثانية أفرج عن والدي، وعاد إلى (بيت لحم)، وفي سنة 1947 عين رئيسا للجنة القومية لمنطقة (بيت لحم)، وكان مسؤلا عن كل العمليات التى يقوم بها المقاتلون في تلك المنطقة، ضد الاستعمار البريطاني، والعصابات الصهيونية.

وصدر قرار التقسيم، وبدأت الحرب، وفوجئت بأن والدي يأمرني بالاشتراك في التدريبات العسكرية مع الشباب، خاصة وأن شقيقي (يوسف، ومازن) كانا من ضمن المقاتلين.

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)
المطربة ماري جبران

الإذاعة السورية وماري جبران

هنا قررت الهرب، وذهبت إلى دمشق، وعند وصولي إلى الإذاعة السورية، وجدت اسمي معروفا عند المسئولين فيها، حيث كانت إذاعة (القدس) تسمع جيدا ليلا ونهارا من دمشق.

ويواصل (رياض البندك) ذكرياته فيقول: بعد أيام من وجودي في دمشق، قدمت أول حفل لي، وفيه قدمت أغنية اسمها (آه من عينيك شبكوني فيك)، وبعد أن انتهيت من تقديم الأغنية، أخبروني بأن سيدة تريد التحدث معي بالتليفون.

واستغربت جدا لأنني لا أعرف أحدا في دمشق، وكانت السيدة أكبر مطربة في سوريا يومئذ، وهى (ماري جبران) التى كانت تلقب بـ (أم كلثوم سوريا)، وشعرت بفرح كبير أن تعجب (ماري) بفنان هاو، وطلبت مني أن نتقابل.

وفي اليوم التالي ذهبت إلى منزلها، وفوجئت بحشد من الأدباء والشعراء والنواب، والفنانيين، وأمامي طاولة كبيرة عليها المأكل والمشارب.

وبعد استراحة قليلة أعطتني (ماري جبران) العود، وطلبت سماع الأغنية، وبعد انتهائي من الغناء، قالت لي: (أنا أريد أن أغني هذه الأغنية).

فأجبتها بأن هذه الأغنية من شاب لحبيبته، وفورا أجابتني بأن (أم كلثوم) قد غنت قصيدة تقول فيها: (خاصمتني وجنة نعيمي في هواك)، فأضطررت أن أبقى معها حتى مطلع الصباح إلى أن حفظت هذه الأغنية التى أصبحت واحدة من أشهر أغنياتها.

(رياض البندك).. ملحن (يا عيني على الصبر) الذي اكتشف فايزة أحمد (1/2)
سأل (فريد الأطرش)، صديقته (ماري جبران) عن ملحن أغنية (آه من عينيك)،

مقابلة مع فريد الأطرش

يتابع (رياض البندك) ذكرياته قائلا: كان مدير الإذاعة السورية في ذلك الوقت المرحوم (فؤاد الشايب)، وطلب مني البقاء في دمشق لكي نتعاون في خلق نهضة فنية، طبعا وافقت على الفور.

ولكن (ماري جبران) كانت تنوي الذهاب إلى بيروت في رحلة فنية، وعندما علمت بالأمر، ـ وهى كانت سيدة قوية الشخصية، وكان رجال الدولة كبيرهم وصغيرهم ينفذ لها ما تريد ـ قالت لي: (ستذهب معي إلى بيروت، وبعد ذلك تعود إلى دمشق).

وأخذتني معها إلى مكتب مدير الإذاعة السورية، وقالت له: أريد (رياض البندك) أن يذهب معي إلى بيروت، فوافق فورا دون أي مناقشة.

وفي بيروت، وفي شارع (البرج) كان هناك صالة غناء اسمها (صالة عويس)، وهي أكبر صالة في ذلك الوقت، ولدى وصولي هناك شاهدت الإعلانات الكبيرة بعنوان (المفاجأة الفنية الكبرى المطربة الكبيرة ماري جبران مع ألحان رياض البندك).

وفي أول يوم غنت فيه (ماري) الأغنية لقيت نجاحا خياليا، وبعد ما انتهت من غنائها، صعدت إلى المسرح لأهنئها، وإذ بالمطرب والملحن الكبير (فريد الأطرش) على المسرح ـ كان صديقا لماري جبران ـ وكنت أول مرة أراه في حياتي.

وسأل (فريد الأطرش)، صديقته (ماري جبران) عن ملحن أغنية (آه من عينيك)، وكنت أقف بقربها، فأشارت إليّ، فرحب بي (فريد الأطرش) بقوة، وفي اليوم التالي جاء وحجز طاولة كبيرة احتفاء بنا.

وكتبت الصحف اللبنانية عن أغنية (آه من عينيك)، ودعانا مدير الإذاعة اللبنانية الشيخ (فايز مكارم) لتسجيل الأغنية في الإذاعة اللبنانية، وفي أثناء البروفات حضر للاستماع إلى الأغنية، وكنت أقود الفرقة الموسيقية بنفسي.

ولاحظت أنه كان يتابع حركاتي بإهتمام شديد، وبعد البروفة أرسل في طلبي وقال: …….

في الحلقة القادمة: يواصل (رياض البندك) ذكرياته وقصة اكتشافه لفايزة أحمد، وكيف صنع لحن (يا عيني على الصبر) لوديع الصافي، وسر تكريم جمال عبدالناصر له.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.