
بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر
لم يكن الفنّان القدير (أديب قدورة) مجرّد ممثّل يؤدّي أدواراً على الشاشة، بل كان صوتاً ناطقاً بوجع الناس، ووجهاً حفر ملامحه في ذاكرة السينما العربيّة. امتلك قدرة نادرة على تجسيد الإنسان المنكسر والثائر في آنٍ واحد، فكان كلّما صمت، تكلّمت ملامحه، وكلّما نطق، تجلّى صدق التجربة.
برز (أديب قدورة) بوجهٍ سينمائي فريد تُدرّس تعبيراته في معاهد أوروبيّة، وجعل من أوّل أدواره في فيلم (الفهد) مدخلاً إلى الخلود الفنّي.. تنقّل بين السينما والمسرح والتلفزيون، لكنّه بقي وفيّاً لقضايا أمّته، لا سيّما القضيّة الفلسطينيّة، التي تبنّاها فنيّاً وسلوكاً.
الراحل (أديب قدورة) كان حالة فنيّة تتجاوز التصنيفات، فنّاناً عابراً للحدود الجغرافيّة والأسلوبيّة، جمع بين الأصالة والتجريب، وبين الممثّل المثقّف والمقاتل على خشبة الفنّ.
كان فيلم (الفهد – 1972) نقطة تحوّل حاسمة في مسيرة (أديب قدورة)، لعدّة أسباب فنّيّة وتاريخيّة جعلته لحظة استثنائيّة في تاريخ السينما السوريّة وتاريخ الممثّل نفسه، فقد كان أوّل بطولة مطلقة له، حيث غامر المخرج السينمائي نبيل المالح في منحه الثقة ليتصدّر بطولة عمل سينمائي كبير لأوّل مرّة.. هذه الخطوة جريئة جدّاً بمقاييس أيّ سينما، وجاءت لتُبرز موهبته الكامنة.
لن ننسى قوّة الشخصيّة الدراميّة في (الفهد)، (التي اقتُبست عن رواية الكاتب السوري حيدر حيدر) والتي تمثّل إنساناً بسيطاً يُسحق تحت وطأة الفقر والظلم ثمّ يتحوّل إلى رمز للمقاومة والتمرّد، جسّد (أديب قدورة) هذه التحوّلات النفسيّة بانضباط داخلي وأداء شديد الواقعيّة، ما جعله يخطف أنظار النقاد والجمهور معاً.
أيضاً الفيلم نفسه يُعدّ من أولى التجارب الجادّة في السينما السوريّة التي تمزج بين البُعد السياسي والفنّي بلغة بصريّة حديثة.. وجود هذا الفنّان المختلف في قلب هذا التحوّل منحه قيمة تاريخيّة، فهو أصبح وجهاً لنهضة فنّيّة وليست مجرّد قصّة نجاح فرديّة.
تشير التوثيقات بأنّ الفيلم عُرض في مهرجانات دوليّة، ما أتاح لأديب قدورة أن يُعرف خارج سوريا.. لم يكن هذا مألوفًا حينها، وهو ما أعطى انطلاقة دوليّة رمزيّة لمسيرته لاحقاً، خصوصاً مع مشاركته في أفلام أوروبيّة بعدها.
نقطة أخيرة مهمّة جدّاً وهي تجذير صورته كرمز شعبي فـ (الفهد) لم يكن فقط بطل رواية أو فيلم، بل تحوّل إلى رمز شعبي للتمرّد والكرامة. وهذا ارتبط في الذاكرة البصريّة بوجه أديب قدورة، مما أعطى صورته الفنّيّة بعداً أعمق من مجرّد ممثّل يؤدّي دوراً.
وبعد مرور أكثر من خمسين عاماً على طرح فيلم (الفهد) نال درجة أفضل فيلم في مهرجان بوزان للسينما الخالدة، وتمّ وضع صورة أفيش الفيلم في متحف السينما العالميّة في ألمانيا والتي تحمل صورة أديب قدورة.
بكلمة واحدة: (الفهد صنع أسطورة قدورة)، لأنه كشف عن نجم نادر في لحظة كانت السينما العربيّة تبحث عن وجوه تمثّل نبض الإنسان المكافح.
حين جلستُ مع (أديب قدورة) في لقاء لم أنشره بعد، لمستُ في عينيه شيئًا نادراً: فنّان يعرف أنّ الفنّ ليس زينةً للحياة، بل سلاحها ووجعها.. حدّثني عن دوره كقائد للعمليّات الفدائية في الفيلم الإيراني (نار تحت الرماد) الذي يتناول القضيّة الفلسطينيّة، كأنما ما يزال يعيش المشهد في قلبه، لا على الشاشة.
لكن تبقى أزمة عدم توثيق العديد من إنتاجات السينما في مرحلة سبعينات وثمانينات القرن الماضي مشكلة بارزة نعاني منها لدى البحث عن إنتاجات السينما في عدّة دول عربيّة، وفي إيران تحديداً.

بصمة سينمائيّة لا تنسى
شارك فهد الشاشة (أديب قدورة) في أكثر من 40 فيلماً، منها: (بقايا صور، رحلة عذاب، رجال تحت الشمس، الحسناء وقاهر الفضاء، غوار جيمس بوند)، كما شارك في الفيلم الإيطالي E di Saul e dei sicari sulle vie di Damasco (الطريق إلى دمشق) للمخرج الإيطالي (جياني توتي) في العام 1973.
أمّا في التلفزيون، فظهر في أكثر من 60 عملاً دراميّاً، من أبرزها: (عز الدين القسام، الدخيل، الحب والشتاء، سفر، شجرة الدر)، ومسلسلات كتبها مثل (ذئب السيسان، تحت السماء الزرقاء، حارة الصيادين، وغيرها.
على خشبة المسرح، قدّم أعمالاً مثل: (هبط الملاك في بابل، مأساة جيفارا) التي عُرضت في مصر، و(السيد بونتيلا وتابعه ماتي) وغيرها.
تمّ تدريس أداء (أديب قدورة) في معاهد السينما الأوروبيّة، وتحديداً في معهد السينما في روما، حيث كان المخرج الإيطالي (جياني توتي) يعرض فيلمه (الطريق إلى دمشق)، ويشرح للطلاب تفاصيل أداء (أديب قدورة)، خاصّة تعابير وجهه، كأمثلة على الأداء التمثيلي المميّز، حيث لعب دور القائد الروماني في الفيلم.
هذا التقدير يعكس مدى تأثير (أديب قدورة) في الساحة الفنّيّة، حيث وصفه الممثّل الفرنسي (جورج ويلسون)، الذي شاركه في ذات الفيلم، بأنّه “أوّل ممثّل يقف أمامي بطريقة صحيحة.
كما أطلقت عليه الصحافة الأوروبيّة ألقاباً عديدة، وأشادت بأدائه في عدّة مناسبات.
هذا التكريم الأكاديمي والفنّي يؤكّد أنّ (أديب قدورة) لم يكن فقط ممثّل محلّي، بل رمز فنّي تجاوز الحدود، وأصبح جزءاً من ذاكرة السينما العالميّة.
شارك الفنّان السوري أديب قدورة في السينما المصريّة، في أفلام كثيرة، حيث ظهر في فيلم (الغجرية العاشقة) العام 1974، الفيلم من إنتاج مصري، أخرجه رضا ميسّر، وشارك فيه نخبة من النجوم، منهم (سميرة توفيق، نجوى فؤاد، وصباح الجزائري) وغيرهم.
كما يُعدّ هذا العمل من الأمثلة النادرة على التعاون المثمر بين الفنّانين السوريين والسينما المصريّة في تلك الفترة، ويُظهر تنوّع أدوار أديب قدورة، وقدرته على التكيّف مع مختلف البيئات الفنّيّة.
وعلى الرغم من أن مشاركته في السينما المصريّة لم تكن واسعة، إلا أن هذا الدور يُبرز مكانته كفنّان عربي تجاوز حدود بلده، وترك بصمة في أعمال متعددة الثقافات.
يُعتبر (أديب قدورة) المولود عام 1948 في بلدة (ترشيحا) بفلسطين من مؤسسي نقابة الفنّانين السوريين، عاش مع عائلته مدينة حلب السوريّة، التي نزحوا إليها، حيث نشأ وتلقّى تعليمه فيها.
وبدأ مسيرته الفنّيّة بدراسة الفنّ التشكيلي، وعمل كمهندس ديكور في المسرح، مما منحه فهماً عميقاً لتفاصيل الإنتاج الفنّي، وترك إرثاً فنياً غنيّاً ومتنوّعاً. تميّز بأدواره الجريئة والمعبّرة، وساهم في إثراء الفن العربي بأعماله المتنوّعة.