الجزائر كانت بداية (وردة) مع الغناء، ونهايتها، وما بين الاثنين صنعت مجدها

كتب: أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى الثالثة عشر لرحيل أميرة الغناء العربي ووردة الغناء (وردة) التى أسعدني الحظ بالإقتراب من هذه العملاقة، في سنواتها الأخيرة، لكنني أعترف بإنني لم أسبر كل أغوار نبعها الفني الصافي حتى الثمالة.
وطوال سنوات معرفتي بها كانت مثالا للطيبة والصدق، والتواضع، وفي ذكرى رحيلها الثالثة عشر سنتوقف عند أغنيات (وردة) الوطنية للجزائر.
ومساعدتها لثورة وثوار بلادها، حيث أزاح الراحل (عبدالعزيز بوتفليقه) رئيس الجزائر السابق، في برقية تعزيتة إلى عائلة الفقيدة عن سر مجهول لا يعرفه أحد وهو دورها الوطني والمادي والمعنوي في (ثورة التحرير) .
المتابع لمسيرة (وردة) سيجد أن أول أغنية خاصة بوردة كانت عن الجزائر بعنوان (يا مروح لبلاد)، وآخر أغنية كانت أيضا عن الجزائر بعنوان (مازال واقفين) موسيقي وألحان بعزيز، وغنائها مع الشاب خالد، وبعزيز، حيث كان من المفترض أن تقدمها في الذكرى الخمسين لاستقلال الجزائر.
لكن القدر لم يمهل (وردة) حتى تقدم الأغنية في الاحتفالات الرسمية بتلك الذكرى، التى تعد محطة مفصلية في حياتها الشخصية، إذ أن الذكرى العاشرة للاستقلال عام 1972 كانت سبباً في رجوعها إلى الساحة الغنائية بقوة.

يا مروح لبلاد
في منتصف الخمسينيات كانت (وردة) تتعاون مع شركة (باتيه) التى أصدرت لها أول إسطوانة في باريس وكانت آنذاك لم تتجاوز السادسة عشرة من العمر، وكانت هذه الإسطوانة تحتوي على أغنية (ياظالمني) لأم كلثوم.
وتوالت الأسطوانات التى أعادت فيها أغنيات أم كلثوم، وكانت آخر أسطوانة مع الشركة تحمل أول أغنية خاصة بها، وتعبر عن شوق وعاطفة لبلدها الجزائر بعنوان (يا مروح لبلاد) التى يقول مطلعها
يا مروح لبلاد سلملي عليهم قتلني البعاد متوحش ليهم
يا مروح سلم جول للحبايب من البعد متألم وجسمي دايب
جولوا لحبيب يهنى الغريب، يرسله مكتوب يحكيله عليهم.

كلنا جميلة، وأنا من الجزائر
في عام 1958 اعتقل الفرنسيين المناضلة الجزائرية (جميلة بوحيرد) فسارعت (وردة) ابنة الثامنة عشر من العمر بغناء أغنيتها الحماسية (كلنا جميلة) كلمات الشاعر اللبناني عبدالجليل وهبي، وألحان فيلمون وهبه والتى تقول كلماتها : (كلنا جميلة البطلة النبيلة، كلنا فداها البطلة الجميلة).
وحققت الأغنية نجاحا ساحقا، فقدمت رائعة آخرى عام 1959 بعنوان (أنا من الجزائر) كلمات عبدالجليل وهبي، وألحان محمد محسن، والتى حققت لها شهرة مدوية حيث كانت بطاقة تعارف بينها وبين جمهور لبنان وسوريا وتقول في بدايتها:
أنا من الجزائر.. أنا عربية
أهلي الشعب الثائر، وبيطلب حمية
من الجمهورية المتحدة العربية..

الجزائر تحقق لها النجومية
بدأت الإذاعات العربية وتضامنا مع شعب الجزائر، تذيع أغنيتي (كلنا جميلة) و (أنا من الجزائر) للمطربة الجديدة (وردة)، مما لفت انتباه كبار الموسيقيين المصريين فى مصر، ومنهم المنتج والمخرج (حلمي رفله) الذي وقع معها عقد لبطولة فيلمها الأول (ألمظ وعبده الحامولي).
وبعد نجاح فيلمها الأول ودعما من المسئولين فى حفلات أضواء المدينة للجزائر وثورتها الفتية، إشتركت (وردة) فى كل الحفلات الغنائية.
وفى كل هذه الحفلات كانت تغني الجزائر، وفي حفل قاعة الإحتفالات بجامعة القاهرة، أنشدت الجزائر في أغنيتين الأولى أغنيتها الشهيرة (جميلة)، والثانية بعنوان (رسالة لعبدالناصر) وقدمها على المسرح الفنان كمال الشناوي يقول مطلع الأغنية:
من عند أخويا اللي في الجزائر/ وأهل كانوا في حيفا زمان
ومن مجاهد فى الكونغو ثائر، وأخ عربي فى عمان
أربع رسايل وصلوني ومكتوب عليهم للريس سري وعاجل
وفتحتهم من بعد أذنك، وقعدت أقرأ فى كل جواب
أكمنى عارفة إنى مافيش بينك وبين الشعب حجاب
كانت تحية، أعظم تحية بيهديها الشعب إلى قائد
من الشعوب اللي جمعها الهدف الواحد)…

عبدالناصر ووردة
فى هذه الفترة سمع الرئيس جمال عبد الناصر (وردة) في أغنيتي (كلنا جميلة) و(أنا من الجزائر)، فطلب أن يضاف لها مقطع فى أوبريت (الوطن الأكبر) يتحدث عن الجزائر، وفى أول حفل حضره عبدالناصر، وعندما نزل الفنانيين للتسليم عليه قال لوردة: (أهلاً يا جزائر يا صوت الثورة).
ولم تكتف وردة بهذه الأغنيات عن الجزائر، فغنت أيضا من كلمات صالح خرافي، وألحان الموسيقار رياض السنباطي (الصاعدون إلى الجبال) التى تقول فيها:
بين الروابي الغافية في صفح أطلسنا الحبيب
سهرت جفون دامية تخفو شبح غريب
ولنفس الثنائي أنشدت أيضا (نداء الضمير) الذى تقول فيها:
يا حبيبي ذكريات الأمس لم تبرح خيالي
كيف تغفو مقلتي عن حبنا عبر الليالي
لا تلمني إن ترامت بي أمواج البعاد
لا تلمني لم يزل يخفق للحب فؤادي
غير أن القلب هزته نداءات شجية
صعدتها فى دجي الليل قلوب عربية
وتراءت لي وراء الصوت أعلام البشائر
فوهبت الحب قربانا وبايعت الجزائر..

استقلال الجزائر ومليون شهيد
عندما أعلن استقلال الجزائر، سعدت (وردة) بانتصارات بلدها وطلبت من شاعرها المفضل (علي مهدي) صاحب رائعة (لعبة الأيام) أن يكتب لها أغنية عن كفاح شعب الجزائر، فكتب رائعته (مليون شهيد) التى لحنها عبدالعظيم محمد، ويقول فيها:
مليون شهيد من دمهم وبإسمهم
بينوروا الفجر الجديد يا جزائر
بعد وشاية كاذبة عادت (وردة) إلى وطنها الأصلي الجزائر الذي استقل عن الاحتلال الفرنسي، وتزوجت هناك من (جمال قصيري) وكيل وزارة الاقتصاد الجزائري، الذى أجبرها على اعتزال الفن.
وعلى مدى عشر سنوات هى عمر زواجها توقفت فيها عن ممارسة الفن لتتفرغ لعائلتها، وعاشت في قصرها كأي ست بيت وأم، وأنجبت طفلين.

بومدين يأمر بعودة (وردة)
في عام 1972 وبينما كانت الجزائر تحتفل بعيد استقلالها العاشر، طلب الرئيس الجزائري (هواري بومدين) من زوج وردة ومستشاره العسكري الضابط (جمال قصيري) مشاركة وردة في إحياء احتفالات الجزائر بعيد استقلالها العاشر.
ووافق الزوج على مضض، فأرسلت (وردة) إلى الموسيقار رياض السنباطي تدعوه للحضور إلى الجزائر لتلحين قصيدة وطنية عن تحرير الجزائر للشاعر صالح خرفي تحمل عنوان (أدعوك يا أملي).
والتى كان (السنباطي) شرع في تلحينها في الوقت الذي أبعدت فيه وردة عن مصر، فاعتذر السنباطي لظروفه الصحية ومرضه.
وذهب بليغ حمدي بدلا من السنباطي الي الجزائر مع الفرقة الذهبية بقيادة صلاح عرام، ومجموعة من المطربين المصريين لاحياء الاحتفالات التي اقيمت في ولايات الجزائر، ولحن قصيدة (أدعوك يا أملي) وقاد الفرقة الموسيقية بنفسه مع (وردة) عند غنائها للقصيدة.

عيد الاستقلال الـ 21
بعد زواج (وردة) من (بليغ حمدي) استقرت في القاهرة، وفي الذكرى الواحدة والعشرين لعيد الإستقلال عام 1983 غنت فى الجزائر، رائعتها (عيد الكرامة) كلمات الشاعر الغنائي عبد السلام أمين، ألحان الموسيقار حلمي بكر، والتى تقول في بدايتها:
عيد الكرامة والفدا يا عيد/ هليت على وطني بفجر جديد
يا أغلى من أعيادنا يا رمز لجهادنا / إحكي لأولادنا إحكي
وسمع لدنيا قريب وبعيد/ قصة كفاح أمة وشعب مجيد
قاسمت وردة الجزائر شعبها كل المراحل التاريخية التي مر بها، فكانت لسان الثورة الجزائرية منذ مطلع الخمسينات، لتتحول إلى سفيرة للمقاومة الجزائرية في العالم العربي، لهذا كانت حريصة في الثمانينات على الذهاب للجزائر، وتقديم أغنيات وطنية فى كل مناسباته.
وفي عام 1984 تنشد واحدة من أجمل أغنياتها للجزائر وهي (الصومام) كلمات مصطفى التومي، الحان الشريف قرطبي، والتى تقول فيها:
اليوم آن الأوان أحكى الزمان يا ما كان
وأحكي المكان يا زمان، يا ماكان
وأغرس ورود في ديوان الأغاني
احكي اليتيم، احكى السجين، احكي الشهيد …
وتحكى عن كل واحد من الذين ذكرتهم ومدى تضحيته للجزائر، خاطبت ورده في الشعب الجزائري، روحه الطيبة، ودعت فى أغنياتها لكي يعم السلام كل ربوع الوطن.
وكانت تسعد بأغنياتها للجزائر، وإذا لم تجد ما يتناسب مع عظمة الثورة، كانت تعود لقديمها الوطني، أو أغنيات التراث مثل أغنية ” (وهران) التى غنتها في العديد من الحفلات.

بلادي أحبك
رغم مرض (وردة) الشديد عام 1995 لكنها تحدت المرض للمشاركة فى الذكرى الـ ( 33 ) لثورة الجزائر، وقدمت أغنية (بلادي أحبك) من إلياذة (مفدي زكرياء)، وإشترطت على الملحن الجزائري (محمد بوليفه) أن يكون الإيقاع جزائريا، بما أن الكلمات لشاعر الثورة مفدي زكرياء، والألحان لجزائري.
وطلبت من الملحن أن يغير اللحن ويجعله جزائريا مائة بالمائة’، وتقول بداية كلمات هذه القصيدة :
بلادي أحبك فوق الظنون وأشدو بحبك في كل نادي
عشقت لأجلك كل جميل وهمت لأجلك في كل وادي
فياأيها الناس هادي بلادي ومعبد حبي وحلم فؤادي
وإيمان قلبي وخالص ديني ومبناء في ملتي واعتقادي

بوتفليقة يهديها وسام الشهيد
بمناسبة الذكرى 50 للثورة التحرير الجزائرية عام 2004 شاركت (وردة) في أوبريت (نوفمبر مسيرة الكرامة) وقد كانت هذه المشاركة أول عمل فني لها بعد عودتها من رحلة مرضية صعبة.
وقد شدا صوتها في نفس الاحتفال برائعتين للثورة، الاولى (بلادي الامان) هذه الابيات مأخودة من قصيدة الالياذيه من كلمات شاعر الثورة موفدي زكرياء، والحان صلاح الشرنوبي.
والثانية بعنوان (جاية الجزائر) من كلمات الشاعر المصري جمال بخيت، والحان صلاح الشرنوبي، وقد شاركها الغناء مجموعة من المطربين الجزائريين من امثال، (عبدو درياسه ومحمد امين وغيرهم وتقول فيها:
جاية الجزائر جاية بلاد النور والوطنية
شمس بتملي الكون أفراح عدل وحب وحرية..
فى عام 2009 وقع إختيارها على قصيدة الشاعر سليمان جوادي (وتبقى الجزائر) لتقدمها في أول نوفمبر بقاعة الأطلس مع فرقة موسيقية جزائرية بمناسبة مرور 55 سنة على الثورة التحريرية، وتعتبر آخر أغنية وطنية أدتها على المسرح من تلحين وتوزيع الملحن المصري خالد عز، ويقول مطلعها:
مين كان يظنك يـــــا أمي من بعد الظلمة تصفى لي
تلمي أولادك وتضمي وتطوي الصفحة ونتساي
يا أم السادة والأحرار يا أمي انت يا كبيرة
يا قلب العالم يا جزاير يا معدية الهموم الكثيرة

الرحيل المفاجئ
ظلت (وردة) تحمل الجزائر في قلبها ودمها إلى آخر نفس، وكانت لا تتأخر عن تلبية نداء بلدها الجزائر، ومشاركتها الدائمة له في مختلف أفراحها وأتراحها، كانت حاضرة دائما ومعتزة ببلدها، وقدمت آخر شيء قبل الرحيل وكان للجزائر أغنية (ما زال واقفين).
لهذا لم يكن غريبا أن يحتشد العشرات من الفنانين والمسؤولين داخل القاعة الشرفية لمطار الجزائر الدولي (هواري بومدين)، لاستقبال جثمان الفقيدة، التي قدمت الكثير للفن، وكانت أحسن سفيرة للجزائر في العالم العربي.
وعلى الرغم من رحيلها عن عالمنا بجسدها، فمازال عبق أريج فنها الرومانسي الحالم فواحا نديا يجوب الآفاق، ويظل بنفس الزخم العاطفي يشق صدر سماء النغم الغائم، فتفيض أضواء المعاني بألوان قوس قزح المستمدة من رحيق ألوان زهورها المتنوعة.