
بقلم الكاتب السوري: عامر فؤاد عامر
في زمنٍ تتغيّر فيه الوجوه لكن لا تتغيّر فيه المعارك، تظهر (سلاف فواخرجي) كفنّانة لا تُشبه أحداً إلا نفسها، عبر مسيرةٍ غنيّةٍ ومتقلّبةٍ، أدّت أدواراً نسائيّة معقدة، جسّدت فيها (سلاف فواخرجي) شخصيّات نساء حالمات، متمرّدات، أحياناً ضحايا، وأحياناً أخرى ناجيات.
لكنّ ما يثير التأمّل فعلاً، هو كيف تداخلت حياتة (سلاف فواخرجي) الفنّيّة مع محطّاتٍ من سيرتها الشخصيّة، لتبدو بعض أدوارها كأنّها تعكس قصّتها الخاصّة لا سيّما حين جسّدت شخصيّة (توتة البهبهان) في مسلسل (ليالي روكسي) الذي أذيع في رمضان 2025.
قدم مسلسل (ليالي روكسي) رحلة إلى الماضي، إلى ما يقارب القرن من الزمان، وبالتحديد عام 1928، ليؤرخ لعملية إنتاج أول فيلم سينمائي سوري، وهو فيلم (المتهم بريء).
غير أنه خلال الـ 30 حلقة التي يتكون منها المسلسل، استعرض كل ما حول هذا الفيلم من تفاعلات، كما لو أنه رسم لوحة للمجتمع السوري بدايات القرن العشرين.
(ليالي روكسي)، من إخراج محمد عبد العزيز، وتأليف ورشة كتابة تحت إشرافه، وبطولة (سلاف فواخرجي)، و(دريد لحام ومنى واصف وأيمن زيدان وعبد الفتاح المزين).
أما الشخصيّة الثانية التي جسدتها (سلاف فواخرجي) فهى مسلسل (أسمهان) في مسلسلٍ حمل ذات الاسم، والذي قدم حياة (أسمهان) بما تحمله من العديد من الألغاز.
وهى الأميرة (آمال الأطرش) ووالدها الأمير فهد الأطرش من عائلة الدروز بسوريا، وشقيقاها هما الموسيقار الكبير فريد الأطرش وفؤاد الأطرش، ونزحت والدتهم الأميرة (علياء المنذر) إلى مصر بعد وفاة زوجها بعد نشوب الثورة الدرزية، لتبدأ رحلة الفن فى حياة (فريد وأسمهان).

(توتة) والريادة المحرّمة
المهم أننا هنا، نجد ثلاث نساء، من عصور مختلفة، اجتمعن على ذات المصير: صوتٌ نسائيٌّ حرّ، أراد أن يقول، فواجه صمتاً قسريّاً.
في مسلسل ليالي (روكسي)، تُقدم (سلاف فواخرجي) شخصية (توتة)، المستوحاة من حكاية أوّل امرأة سوريّة حاولت اقتحام عالم السينما في عشرينات القرن الماضي خلال فترة الانتداب الفرنسي لسورية، وقد كانت امرأة عاديّة، من خلفيّة بسيطة، لكنّها امتلكت حلماً غير عادي، تجسّد في وقوفها أمام الكاميرا لكي تُمثّل.
تبدأ حكايتها بخروجها من السجن، بعد اعتقالها بسبب صفعها لفتاةٍ فرنسيّةٍ، في دلالة رمزيّة على تمرّدها المبكر، وما أن تبدأ بتلمّس حلمها الفنّي، حتّى تواجه عراقيل لا تتعلّق بالموهبة، بل بالجندر، والتطرّف الديني، والتقاليد، والسياسة.
وهكذا تُستبعد من أوّل فيلم سوري، على الرغم من كونها صاحبة الفكرة ومصدر الإلهام.
هنا لا يعود دور (توتة) مجرّد تمثيل، بل تماهٍ مع واقع (سلاف فواخرجي) نفسها، التي استُبعدت يوماً من نقابة الفنّانين السوريين، على الرغم من تاريخها الفنّي الطويل، وكأنّ المؤسسة الرسميّة قد قالت: (صوتك يا سلاف لا يليق بنا).

الصوت الذي أرعب السلطة
حين اختيرت (سلاف فواخرجي) لتجسيد شخصيّة (أسمهان) الشهيرة، لم يكن الأمر اختياراً فنّيّاً عاديّاً، بل تحدّيّاً وجوديّاً، (أسمهان) الأميرة والفنّانة، كانت امرأة لا تنتمي تماماً لأيّ مكان، لا في السياسة، ولا في الفنّ، ولا في المجتمع. كانت المرأة التي غنّت بعذوبة، وتحرّكت بحريّة، ودفعت ثمن حريّتها بموتٍ اتسم بالغموض في حادث سيّارة، بقي حتّى اليوم محلّ شبهة وتوجّس.
هنا أيضاً تتشابه سيرة (أسمهان) مع (سلاف فواخرجي)، في أبعد من مسألة التمثيل فقط، فكلتاهما اخترقت جدران الصمت بأنوثةٍ واعيةٍ، وروحٍ قلقةٍ، واستقلال لا يُروّض.
كلتاهما، لحظة أنّ خرجتا عن النص، وقررتا صناعة لغتهما الخاصّة، تمّ إسكاتهما؛ فواحدة بالموت، والثانية بالإقصاء المؤسسي.

الفنّانة التي لا تُطوّع
في زمنٍ تُكافأ فيه الطاعة، ويُقصى فيه الصوت المختلف، بقيت (سلاف فواخرجي) صوتاً خارج السرب، صاحبة رأيٍّ حين يصمت الجميع، وما تعرّضت له من شطب قيدها في نقابة الفنّانين لم يكن إلا نتيجة لتمسّكها باستقلالها المهني والفكري معاً.

ثلاثة وجوه ومرآة واحدة
حين ننظر إلى (توتة، وأسمهان، وسلاف)، لا نرى ثلاث نساء فقط، بل ثلاث مراحل من القهر، والرفض، والمقاومة، نرى كيف كانت الكاميرا يوماً ما مُحرّمة على النساء، وكيف ظلّ الصوت النسائي مهدداً دائماً بأن يُخرَس، إن هو خرج عن الإيقاع المرسوم له.
لكن رغم كلّ محاولات الإقصاء، بقيت تلك الأصوات تُسمع، في مشهد، في أغنية، في موقف، أو حتّى في صمتٍ يفضح كلّ ما يُصاغ وينسجُ حوله.

فنّانة وصاحبة صوت
في النهاية، تترك لنا (سلاف فواخرجي) سؤالاً كبيراً، يتجاوز شخصها، ويمتدّ إلى كلّ فنّانة تحلم بأن تكون صادقة مع نفسها.
هل يُسمح للمرأة أن تكون فنّانة وصاحبة صوت؟، أم أن عليها أن تختار أحدهما؟
هذا السؤال، لا تزال الإجابة عنه تتأرجح بين الشجاعة والخسارة، بين الحضور والمنفى.. وبين الفنّ والواقع.