
بقلم المفكر الكبير الدكتور: ثروت الخرباوي
ذات يوم من سنوات بعيدة كلمني الفنان (عبد العزيز مخيون) تليفونيا – عن طريق أحد الأصدقاء – يسألني عن أمر قانوني متعلق بقضية خاصة به بحسب أنني رجل قانون أمارس المحاماة منذ تخرجي من كلية الحقوق.
وقد لفت نظري أثناء المكالمة طبقة صوته المميزة والمحببة، وكنت بالطبع قد شاهدت الكثير من أعماله، ولكن الصوت النقي عندما يصل إلى أذنك مباشرة يعطيك ترجمة لشخصية المتحدث معك.
أما عن (عبد العزيز مخيون) الممثل فإنني سأتناول أداءه من خلال ما قدمه في مسلسل (جودر)، إذ قدَّم لنا شخصية الدرويش الصوفي صاحب البركات، الدرويش الذي يستطيع أن يتشكل في الهيئة التي يريدها من أجل أن يدافع عن الخير، درويش لديه كرامات تُعد من الخوارق ولكنه يستعملها في الخير ومن أجل الانتصار على الشياطين.
وهو ساحر أيضا يستعمل السحر لينتصر للحق، نعم هناك بعض الأمور التي سنكتب فيها عن هذه الشخصية من حيث صياغة المؤلف ورسم ملامحها ولكننا الآن في قراءة مخيون لهذه الشخصية وكيفية قيامه بتجسيدها، إذ استطاع أن يُشَكِّل وجهه وصوته بالطريقة التي تتناسب مع هذه الشخصية.
واستطاع أن يرسم الابتسامة المحببة على وجهه لنرى الوداعة والطيبة، ولكن المؤلف لسبب لا نعلمه جعله غير قادر على نصرة الحق في بعض الأحيان رغم أن رسم الشخصية يوحي لنا بهذه القدرة.
نعم هو ممثل متمكن – (عبد العزيز مخيون) وليس الدرويش -، وطريقته في التمثيل تؤكد موهبته، وقدرته على استخدام طبقات صوته تدل على تميزه، ليس هذا في دوره في جودر فقط ولكن هو هكذا في كل أدواره، ولك أن تعلم أن طبقة صوته تدل على أنه ينتمي لطائفة المثقفين والمفكرين.

أبناء الطبقة المتوسطة
هو رجل من أبناء الطبقة المتوسطة، أو هو شيخ طيب، أو درويش صوفي، لا أتصوره أبدا من خلال طبقة صوته التي تعودنا عليها على أنه واحد من أبناء الشوارع، صنايعي أو قهوجي أو بلطجي أو جزار أو غير ذلك.
الذي يدل من خلال ملامحه وطبقة صوته على هذه الفئات قديما عدد كبير من الفنانين أبرزهم على سبيل المثال عبد الفتاح القصري، ومحمد رضا، ومحمد شوقي، وعبد الحميد زكي، وحسين اسماعيل، وعبد الغني النجدي، وهكذا وصولا إلى علي الشريف ونجاح الموجي ويوسف عيد وسيد حاتم ومطاوع عويس.
وأخيرا وعلى سبيل المثال نصل إلى (محمد لطفي، ثم أحمد العوضي، ومحمد رمضان، وباسم سمرة) وغيرهم، وهؤلاء بسم الله ما شاء الله أصبحوا يقومون بأدوار بطولة أو أدوار ثانية في الدراما على أساس أن أدوار البلطجة تحكمت في مسار الدراما المصرية.
نعم هناك من أدى ببراعة شديدة دور الباشا الكبير، أو رئيس مجلس الإدارة وأدى أيضا بنجاح مذهل دور المعلم البلطجي، وتاجر المخدرات القاتل عدد قليل جدا من الفنانين أولهم وأبرزهم القدير زكي رستم، وأيضا العبقري عدلي كاسب ولكن هذا الرجل لا يتكرر كثيرا.
وهناك من أدى أدوار الموظف والطبيب والمهندس والقائد العسكري وضابط البوليس الكبير والباشا السابق، وأبرز من قام بهذا الفنان الكبير (أحمد مظهر)، نعم أعرف أنه أدى أيضا دور سائق القطار، واللص، والنصاب، ولكنه كان يؤدي هذه الشخصيات بشياكة كبيرة.
هذا هو سائق القطار الذي يأكل بالشوكة والسكينة ويعرف أصول الإيتيكت، وحتى عندما أدى دور اللص في فيلم لصوص لكن ظرفاء، أو النصاب في فيلم (العتبة الخضراء) نجح فيه بشكل كبير بالرغم من أنه قدمه بصورة مختلفة تماما عن اللص التقليدي، ولكنه قدمه مثل لصوص السينما الفرنسية الذين قدموا أدوار اللص الظريف (أرسين لوبين).

نبرة صوت الفنان
ولا شك أن نبرة صوت الفنان إن استطاع التحكم فيها وتلوينها تساعده كثيرا في أداء كثير من الأدوار المتباينة.
نعود إلى (عبد العزيز مخيون) ودوره في (جودر) ونعتذر له أن تركناه في الاستطراد السابق، لنقول إن نجاحه الكبير يعود إلى تحكمه في طبقة صوته وتطويعها وفقا لطبيعة الشخصية التي يؤديها.
وقد قلت هذا في المقال السابق عن الفنان (ياسر جلال)، ولكن خبرات (عبد العزيز مخيون) أكبر، ودراسته للمسرح وعمله في الإخراج المسرحي بالإضافة إلى بداياته في الأعمال الدرامية بالإذاعة منذ أواخر الستينيات قد ساعدته على أن يجعل صوته مريحا لأذن من يشاهده ويستمع إليه، ولكن الصوت وحده لا يكفي.
ولا أخفيكم سرا أن مثلا مثلا الفنان الكبير (محمود المليجي) وهو واحد من عباقرة الفنانين المصرية كان أداؤه الصوتي عاديا، وتستطيع القول إنه كان جيدا، ولكن عبقرية المليجي كانت في قسمات وجهه وقدرته على تغييرها في نفس المشهد، بالإضافة إلى حركة جسده ويديه، ويقظة عينيه، وبريقهما.

التحكم في طبقة الصوت
كان المليجي ممثلا حركيا لا مثيل له عندما تشاهده، ولكنك عندما تستمع إلى أعماله في الإذاعة تجده عاديا، فهو ممثل يُرى.
أما (عبد العزيز مخيون) الذي نتركه في هذا المقال كثيرا فإن الله سبحانه وتعالى أعطاه قدرة التحكم في طبقة الصوت وتلوينها وفقا لطبيعة الشخصية التي يؤديها، وأعطاه ذكاء دراسة الشخصية وأبعادها النفسية، كما أعطاه وجها مريحا يصلح لتقديم الشخصيات الطيبة، سواء كان شيخا أو درويشا، أو موظفا أو فقيرا.
حتى الشخصيات التي أداها وظننا في بدايتها أنه رجل شرير اتضح أنه شخص طيب، ولذلك استطاع مخيون أن يقدم لنا شخصية الدرويش الصوفي المنقطع عن الناس، والذي يظهر لمواجهة الشر وحماية جودر الذي سخرته الأقدار لمواجهة شياطين عصره.
لم يكن صوت (عبد العزيز مخيون) وحده وتحكمه فيه هو سبب نجاحه، ولكن قسمات وجهه الطيبة وابتسامته الآسرة التي توحي لنا أنها ابتسامة طفل وديع هي أيضا التي تجعل المشاهد مشدوها له مندمجا مع أداءه.
ولكن، وألف آه من لكن، كانت هناك بعض مشاكل في الكتابة، سيأتي دورنا في الكتابة عنها، فأغلب الظن أن كاتبنا الكبير (أنور عبد المغيث) أراد أن ينتهي سريعا من الكتابة فتوالت الأحداث بشكل ساذج جدا وكأننا نشاهد مسلسل كارتوني.
وبسرعة تم التخلص من الناس الطيبين في القصة، (الشيخ عبد الأحد)، والحطاب الدرويش (عبد العزيز مخيون)، حيث وقعوا صرعى بيد المؤلف ليبقى جودر وحده ليواجه الشيطان ويقضي عليه بحيلة ساذجة، ولكن هذا أمر يطول الحديث فيه.
ونحن في المقالة القادمة سنكتب عن (مجدي فكري) أحد علامات الشر في المسلسل، و(محمد التاجي) الذي أطلقت عليه (عبقري اللحظة واللقطة)، ومن بعد سنكتب عن التأليف والتوليف فانتظروني في المقال القادم.