




بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
في حلقة الأمس فتحنا هذا الملف الشائك بتفاصيله المرعبة حتى تكون (الدراما) طوق النجاة والخلاص، وتجسد لنا ملحمة رد الاعتبار للشاشة الفضية المصرية، التي كانت يوما صاحبة الريادة، ومنبرا حرا للتنوير، ووسيلة نظيفة للمتعة والتسلية والتسرية التي لاتخدش الحياء في جلها، بقدر ما تجنح نحو آفاق تربوية تثقيفية بوعى من ضمير.
وقد بنيت وجهة نظري على الدروس المستفادة من موسم رمضان 2025، فقد احتوى هذا الموسم على عدد من المسلسلات ذات الـ (15 حلقة) مثل (النص، الشرنقة، قلبي ومفتاحه، إخواتي، ولاد الشمس، 80 باكو، جودر 2، الأميرة، لام شمسية، قهوة المحطة، عايشة الدرو، حسبة عمري، منتهي الصلاحية)، وغيرها القليل من نوعية الـ 30 حلقة.
واليوم نستكمل الملف بالعودة إلى الخلف قليلا: وفي هذا الصدد نتحدث عن حالة مصرية خالصة في تجارب (الدراما) التي رسخت للقيمة والمعني، وكيف نتعامل مع التجارب القادمة، كي تكون كأداة للتغيير الاجتماعي
إن أعمالا مثل (محمد رسول الله، ليالي الحلمية، المال والبنون، زيزينيا، أرابيسك، لن أعيش في جلباباب أبي، الليل وأخره، الخواجة عبد القادر، الرحايا، دهشة) لم تكن مثار اهتمام المواطن المصري وحده ، بل تجاوز الأثر حدود مصر وذهب إلى كثير من دول العالم وتفاعل معه الوطن العربي بكامله، رغم أنه كانت يتحدث عن حالة مصرية خالصة، ويستعرض ما طرأ عليها من تقلبات، ومن هنا كان المسلسل سفيرا للإنتاج الدرامي في المنطقة العربية.
لأنه باختصار عمل كان يحلق فيه الكاتب المخرج والممثل نحو آفاق رحبة من الإبداع عبر (الدراما) في نسيج فني متكامل،لأن المسألة بصراحة تعتمد على خيال مؤلف يملك قدرا من الوعي ومعرفة بواطن ما يدرور داخل مجتمعه.
ومن هنا يندر أن نعثر على أكثر من اثنين في قائمة تضم 20 مؤلفا جديدا، ولعله ما يتجلى لنا في أعمال رديئة تدعوك للذهول متسائلا: كيف يكون حال الدراما المصري هكذا؟ طالما أن الكتاب الموهبين في الظل.




الدراما والفن صناعة
صحيح أن (الدراما) في المقام الأول والأخير هى صناعة، والفن في مجمله هكذا أيضا، ومن ثم فهو يتأثر بتلك الصناعة بحسب جهة الإنتاج، ولعل حالة التراجع الحالية في عديد من المسلسلات يعود إلى أن بعض الزملاء من الكتاب والمخرجين، وحتى الممثلين، يستسلمون لمايريده المنتج، لا من يريده الجمهور.
ولإصلاح حالة كتلك فإن الأمر يتطلب دعم الدولة ماديا ومعنويا لإنقاذ الوضع الحالي من حوارارات وأحداث لم تعد تحتمل في قلب ساحة (الدراما) المشغولة بالاستهلاك، والعنف والإرهاب السحر والشعوذة كما جاء سابق في (كفر دلهاب)، و(سلسال الدم) وصولا إلى (المداح) حاليا.
ناهيك عن قتل الآباء كما جاء منذ البداية في (السبع وصايا) وحرق الآباء والعنف والعشوائية وغيرها من موبقات الدرما، كما في (ابن حلال، والأسطورة، نسر الصعيد، زلزلال، وصولا إلى (نسل الأغراب، جعفر العمدة، ملوك الجدعنة، العتاولة، سيد الناس، فهد البطل، حكيم باشا)، فضلا عن انتهاك صورة المرأة في موسم رمضان 2025.
وكذا أيضا التعبير بشكل سلبي مبالغ فيه عن دور الشرطة، وكلها أعمال – للأسف – تقلل من شأننا الدرامي بعد سنوات طويلة من الريادة والتألق في هذا الفن الرفيع.
هل يعقل أن يكون سب الأمهات هو النموذج الدرامي المثير؟، وأن تكون (الدعارة) سيدة المشهد في بعض مسلسلاتنا؟ مثل (إش إش)، وغيرها، وهل من المنطقي أن التليفزيون المصري، ومن بعده الشركة (المتحدة) كانوا يتلقفون تلك النوعية من الأعمال، والغريب أنهم يشترونها ويدعموا توجهاتها السيئة لتعرض للناس على شاشته التى كانت يوما حافظة للقيم والعادات والتقاليد.
خاصة أنه كان لسان حال أمة قدمت أروع الأمثلة الدرامية عبر قرن مضى، وكان شعبها دوما ملهما لكل الشعوب الأرض قاطبة على كافة المستويات، تماما كما في إبداعه الدرامي؟، إنه وضع مقلوب – للأسف – يشير إلى أننا بحاجة ماسة وسريعة إلى ثورة ثقافية بدعم من الدولة لإنتاج جديد من شأنه تحسين تلك الصورة المشوهة. بحيث يكون لدينا (الآن الآن وليس غدا) استراتيجية محددة في شكل أجندة درامية تعني بالقيمة التي تدعم الدراما كأداة للتغيير الاجتماعي.


أمن الوطن والمواطن
تماما كما نقوم بعمل استراتيجيات سياسية وعسكرية، لأن الدراما تدخل في نطاق الحفاظ على الهوية المصرية، بل تصب في خانة الأمن القومي المصري، والتوقيت الآن مهم للغاية لدعم الجيش والشرطة في سعيهما الدؤوب نحو الحفاظ على أمن الوطن والمواطن، وحتى إذا كان هناك بعض السلبيات من جانب الشرطة، ينبغي أن ننحي ذلك جانبا الآن حتى ننتهي من حرب الإرهاب.
ربما تكون سيطرة الإعلانات تعد من أهم العراقيل التي تواجه المنتج الحالي، لأنه يجعل الممثل متحكما أكثر من أي عنصر آخر في الصناعة، وهذا لاينفي أن التمويل مهم جدا في واحدة من الصناعات الاستثمارية، خاصة أنها صناعة ربحية بالدرجة الأولى.
بل أن دورة رأس المال في سنة بالنسبة لمسلسل أفضل بكثير من أي صناعة أخرى، فضلا عن كونها صناعة غير تنافسية إذا تم الاهتمام بها على مستوى الجودة، ولعل المناخ الحالي يعد مناسبا في ظل عودة الاستثمارات العربية، وأصبح حري بنا أن نرتقي بصناعة (الدراما)، نحن تفوقنا فيها لقرون عديدة حتى تكون فرصة جديدة للاستثمار واستعادة دور مصر التنويري.
لابد أن تكون (الدراما) مشروعا قوميا، مثل مشاريع البنية الأساسية التي تعمل عليها الدولة، ولا أخفي تشاؤمي في إصلاح حال الدراما المصرية ومعالجة تصدعاتها الحالية، وقد يساور البعض الشك في قلة إيماني بحرية التعبير والديمقراطية، ولكني أشبه التشدق بحرية الإبداع بمسرحية هزلية.
فلماذا نطالب ونصر دائما بالحرية في (الدراما) على مستوى السلبيات، ولانهتم بالجدية التي تصنع الإيجابيات، نحن في النهاية نريد أن نصنع فنا يعزف على روح القيم ويسمو بالروح التي من شأنها تهذيب السلوك، وهذا لايتأتي دون أن يستند المنتج الدرامي إلى رسالة.
وبعد ذلك يحتاج إلى وسيلة للعرض تعتمد المعايير الصحيح للانفتاح على الناس، وذلك من خلال مجلس وطني حقيقي للإعلام تكون له اختصاصات فعلية، ويكون تابعا لوزارة الإعلام التي انسخلت من التشكيل الوزاري الأخير في غيبة من الوعى.
والآن تريد الحكومة أن تعلق تبعية المجلس الجديد على شماعة المجلس النيابي القادم ووالله أنه نوع من العبث، لأنه مجلس النواب بطبيعته معنى بالتشريع والمراقبة، وليس معنيا بوضع سياسات واستراتيجيات للعملية الإبداعية.
الواقع الدرامي ياسادة يعاني من أمراض مستعصية، وهو مافرض نوعا من الأزمات التي أنكهت عملية الإنتاج بشكل كامل، خاصة أن هناك معضلات تسمم المناخ العام، وتبعدنا تماما عن المواصفات القياسية لدى (الكاتب – المخرج – الممثل).


المنتج في ثوبه الجديد
ولعل المنتج الدرامي في ثوبه الجديد أصبح الأسوأ في ظل حالة الانفلات التي أعقبت ثورة 25 يناير، بعد أن خضعت العملية الإنتاجية لـ (الإعلان وتحكم النجم في آن واحد)، وكذلك شركة واحدة تختار على هواها وليس على هوى المشاهد الذي هو حجر الزاوية في قضية (الدراما) الحقيقية.
بحيث لحقت الصناعة كثير من المخاطر، فمن يكون لديه القدرة على التحكم في الإعلانات يكسب رهان السباق، وهذا أمر يستدعي تدخل الدولة لدعم مثلث الصناعة حتى يتسني لنا إنتاجات درامية جادة وهادفة تواكب التطورات المذهلة في الحراك الاجتماعي والسياسي المصري.
إنه أمر ضروري من شأنه أن يحد من ظاهرة (الدراما) الربحية التي تدعي عبثا إنها متطلبات السوق هكذا، ولا يهم في ذلك إذا كان العنف سائدا، والجنس ترتعد له فرائس الجمهور.
ظني أن كثير من كتابات الأجيال الحالية: غالبية الكتاب فاقدي الأهلية، وينقصهم الكثير من الجدية والضمير المهني السليم، أين بعض من أصحاب الأعمال الجادة الذين قدموا لنا مسلسلات تعد علامات مهمة في الشق الاجتماعي في مصر.
لقد اختفت تلك المواهب المبشرة منذ عشر سنوات، نعم يوجد حفنة قليلة من المؤلفين الجادين، لكن عددهم قليل بالنسبة للمعروض والمتاح، على عكس غلبة أصحاب الإنتاج الرديئ الذين تروج له بعض وسائل الإعلام، ولايسترعي انتباهها المؤلفين القدمى، ممن شيدو تجارب مهمة في تاريخ الدراما.
وحتى نستعيد هؤلاء – الذين يعدون عاطلين الآن – لتحسين المناخ العام لابد من وجود الدولة على رأس الصناعة ترعى شركاتها الأم مشاريع إنتاجية من الوزن الثقيل، بأساليب جديدة ومبتكرة يمكن أن تعيد الريادة الأولى.
على مستوى النص الجيد أولا، ثم المخرج الواعي لدوره ثانيا، وثالثا الممثل النجم الذي يقبل بعدم التفرد بالبطولة وحده، بل لديه إيمان كامل بأهمية العمل الجماعي، ولعلها كانت ظاهرة إيجابية في موسم دراما رمضان 2025 من خلال مسلسلات الـ (15 حلقة).

ضرورة تدخل الدولة
طالما أن الأمر أصبح متروكا للقطاع الخاص لايمكن أن نرتجي القيمة الفنية العالية التي يمكن أن تحمي المجتمع، لأن هؤلاء يعملون بحسابات المكسب فقط ، ويلجأون إلى نوعية الأعمال التي تجنح نحو العشوائيات، أوالقصور ذات المقاعد الوثيرة والمخادع المخملية التي تخاطب الاستهلاك في استعلاء لايدنو من بسطاء هذا البلد.
وهو ما يحتم ضرورة تدخل الدولة بشكل أكبر من أي وقت مضى لإعلاء شأن (الدرما)، باعتبارها سلاحا مهما الآن لحماية المجتمع من فكر المشاحنة والغضب، فضلا عن دورها في التنوير بعد تراجع القراءة.
لهذا نأمل في عودة مثل تلك الأعمال، وفي الوقت نفسه اللجوء إلى نوعية المسلسل التاريخي والاجتماعي والكوميدي الذي يكسر حدة الطوفان الهادر من القنوات الفضائية، بعدما أصبحت ساحات مفتوحة على مصرعيها ، لكن بشرط ألا تكون مجرد ساعات درامية لملئ الفراغ فحسب.
بل تملك تلك الأعمال القدرة على انتشالنا من حالات الفوضى والعشوائية والحلول الفردية والألفاظ التي لاتليق بجمال الفن، مع قدر من الكشف غير المخجل عن أكبر سوءات حياتنا، في إطار حلول تناسب العقل الجمعى بقدر من العقلانية والمنطقية التي لاتحيد عن المثل العليا للمجتمع.
نحن نقصد من وراء أي عمل درامي بالأساس إلى أساليب وطرق وأسس للتربية والتنشئة الصحيحة القائمة تضيف المخرجة الكبيرة، وهو ما يدفعنا إلى استخدام لغة الخيال الموحي الذي يحنو ولا يجرح، كي تغرس في نفوسنا الأخلاق والمثل بما يتناسب مع مطالب الرئيس من مراعاة الضمير.
وأن نكون إيجابيين كي نقاوم ما يتجسد من أعمال، أخجل من ذكرها، ويتناولها الإعلام بقدر من التهليل، وذلك بتفعيل دور إنتاج الدولة بدعم مادي واضح مباشر، حتى يتمكن المسئولين في قطاع الإنتاج وصوت القاهرة والمدينة من الاختيار الجيد الذي يبث روح الوعي وغذي عقل ووجدان المشاهد.
فالكتابة الآن غريبة ومريبة، والمنتجون يلهثون وراء كل موضة جديدة تستطيع أن تدر أرباحا كبيرة، حتى لو كانت على حساب القيمة بأعمال البلطجة والعنف والتعبيرات المشينة، على الرغم من الآداء التمثيلي الجيد في غالبها.
ولا بأس من استخدام أساليب مبتكرة في الإخراج لصناعة صورة مبهرة، لكن دون استخدام تكنيك السينما في علو شأن المشهد الدرامي الذي أرفضه تماما لأن ماتعرضه السينما في النهاية يتم داخل قاعة محدودة العدد، أما مايأتي على شاشة التليفزيون يتعرض له الملايين من مختلف الأعمار.