
بقلم الكاتب الصحفي: محمود حسونة
بدأ (لام شمسية) وانتهى (لام قمرية)، بعد أن صار المخفي منطوقاً والمستخبي مكشوفاً والمستور مفضوحاً، أبكانا وأمتعنا، شاهدناه ولن ننساه، كشف خبايا نفوس بعض من يعيشون بيننا وهم يدمرون أولادنا ومستقبل مجتمعنا، ليكون فخر لنا وفخر صناعة الدراما في مصر، ليس خلال الموسم المنتهي فقط ولكن خلال سنوات حاصرونا خلالها بدراما البلطجة والتفاهة.
مسلسل تجاوز كل مألوف، فقد اعتدنا أن تركز الدراما على الصراع على المال أو السلطة، والصراع بين طبقات اجتماعية، والصراع على امرأة أو متعة، ليأتي (لام شمسية)، صراع بين النقاء والنجاسة، بين العتمة والنور، دراما الغوص في النفس البشرية لكشف دناءتها وخداعها وعدم سويتها.
لم يتجاوز (لام شمسية) الترفيه والتسلية وكل الوظائف المعروفة للدراما فقط، بل جاء كما الصدمة التي تستهدف إفاقة المجتمع من غيبوبته المتعمدة تجاه قضية مسكوت عنها رغم أنها تهدد سلامة الناس النفسية، وتخلّف وراءها أمراضاً وعاهات نفسية تطارد البعض على مدار مراحلهم العمرية المختلفة.
وهى قضية التحرش وخصوصاً التحرش بالأطفال التي يُفضل من تعرض أبناؤهم لها دفن رؤوسهم في الرمال خشية نظرة المجتمع لهم ولأطفال تم استدراجهم إليها من دون رغبتهم، يستدرجهم كبار يعيشون بينهم، بل ومقربون منهم ومن أهلهم، لتسبب لهم عقداً نفسية وتحولهم إلى كائنات معقدة مدى الحياة، وبدلاً من مواجهتها يلتزم الجميع الصمت تجاهها.
ويكون الشغل الشاغل هو تحريم الكلام عنها وترك الذئاب التي ترتكبها يسرحون في المجتمع ناقلين عقدهم وأمراضهم النفسية إلى الآخرين من دون ردع ولا عقاب، وللأسف أن المتحرش لا يكون ضحيته طفل أو اثنان أو ثلاثة، بل أطفال وأطفال يحبسون أنفسهم في سجن الخوف، الخوف من والديهم ومن أقاربهم ومن أصدقائهم وزملائهم ومن المجتمع بكامله.

كل ذلك وأكثر
تفرد مسلسل (لام شمسية) ليس فقط في القضية التي يطرحها وجرأة التناول وحرفية الكتابة ووعي الاخراج وموهبة الفنانين ولكن في كل ذلك وأكثر، ابتداء من اختيار الاسم، الذي تشرح مغزاه أغنية:
(لام شمسية ولام قمرية واحدة نقولها وواحدة خفية..
القمرية زى ما هي..
زى الباب والعين والقلب..
والشمسية متخبية زي السر وزي الذنب..
والقمرية لام منطوقة موجودة في كل الأحوال..
والشمسية لام مسروقة مش كل المكتوب يتقال).
ليس (لام شمسية) مجرد مسلسل نشاهده ونتجاوزه ثم يسقط من الذاكرة مثل مئات المسلسلات التي لاحقتنا من قبل، ولكنه جلسات علاج نفسي لمجتمع يعاني أمراضاً عديدة ويتجاهلها، علاج على يد طبيب يعي كم الخلل النفسي الذي يعانيه الناس.
ويشبه في طريقته للعلاج وعي وفهم الدكتور الذي عالج الطفل يوسف في المسلسل والذي جسده الفنان (علي قاسم) في مشاهد محدودة ليقول من خلالها رسائل كثيرة عن أهمية الطب النفسي.
في كنف قضيته الرئيسية، التحرش، يناقش الخيانة الزوجية، التعاسة الزوجية، من خلال علاقة (طارق ونيللي)، الكذب الوقح الذي نعايشه من خلال (وسام وطارق ونهال).
الانفصام وتعبر عنه شخصية (نهال)، العنف النفسي الذي يمارسه وسام على زوجته رباب، هو أيضاً من الأعمال الدرامية النادرة التي تنصف زوجة الأب وزوج الأم اللذين يتم تصويرهما دائماً بشكل سلبي، وذلك من خلال (نيللي) التي تخاف على (يوسف) وترعاه نفسياً وحياتياً أكثر من أمه هبة، وكذلك زوج هبة الذي آزر زوجته وابنها في محنته بما يستطيع.
(مريم نعوم) ومساعدوها آلمونا وأدخلونا مع الأبطال شركاء في (لام شمسية)، نبكي معهم، بل قد نكون أكثر منهم كراهية لشخصية المتحرش، والذي حرصوا على تقديمه من خلال شخصية أستاذ جامعي والابن الوحيد لسيدة تمتلك مدرسة دولية ويركب أفخم السيارات وينال تقدير واحترام وخشية المحيطين به.


قضية حساسة جداً
فالتحرش مرض لا يستوطن فئة اجتماعية دون أخرى، وكذلك الكذب والخيانة وكل فصيل الصفات السيئة، قضية حساسة جداً قدمها فريق التأليف في سيناريو وحوار راقي جداً من دون كلمة واحدة تخدش المشاهد صغيراً أو كبيراً.
كريم الشناوي علا وارتفع وموهبته حلقت في الفضاء بعد أن قدم تحفة فنية لا يتباهى بها وحده كمخرج، ولكننا نتباهى بها جميعاً ونفتخر أنها صناعة مصرية، مشاهد مرسومة بدقة، حركة كل ممثل أو ممثلة وموقعه داخل الكادر له معنى، الصمت الرهيب والكثير في الحلقات أبلغ من الكلام.
ورغم طول مساحات الصمت وتسيد الأداء إلا أن المشاهد يحس أن الإيقاع سريعاً والأعصاب مشدودة كل الوقت وخلف هدوء الأداء بركان من الغضب داخل الشخصيات نجح المخرج في نقله إلى المتابعين.
وكذلك الإضاءة والظلال واختيار أن ترى (نيللي) ما حدث بين الطفل ووسام من خلف زجاج مغبش للتعبير عن ضبابية الحقيقة، كل المفردات الإخراجية تؤكد أن وراء هذا العمل مخرج بارع دمج بين الاحساس والمشاعر والموهبة.
ومثلما شاهدنا إبداع مؤلفة كبيرة وورشتها (سرد) وإبداع مخرج متفرد، فقد تابعنا مباراة في التمثيل بين فنانين يؤكدون أن مصر ستظل غنية بفنانيها، وكل منهم يستحق الكثير من التصفيق والتقدير على ما قدمه في هذا العمل الذي كتب ميلاداً جديداً لـ (محمد شاهين)، وأكد موهبة (أحمد السعدني).
وفيه واصلت (أمينة خليل) إدهاشنا باختياراتها الدرامية الهادفة التي تؤكد أنها ليست من النجمات اللامعات من الخارج الخاويات من الداخل، و(يسرا اللوزي) من خلال (رباب) تحدثت قليلاً ولكنها عبرت كثيراً بصمتها وعينيها وملامح وجهها.
وثراء جبيل عبرت عن تناقضات وعقد بعض الفتيات المصريات، وكذلك تألقت (أسيل عمران وصفاء الطوخي وياسمينا العبد وفاتن سعيد) والكبير في دور صغير (كمال أبورية).
مفاجأة المسلسل الكبرى هى الطفل (علي البيلي)، الذي جسد شخصية (يوسف)، وهو البطل الحقيقي للأحداث والذي دارت في فلكه باقي الشخصيات، موهبة فطرية نجحت في التعبير عن خوف وغضب وتشوش وحيرة الطفل المتحرَش به، ليكون نداً لباقي الأبطال بخيراتهم الطويلة.