
بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
منذ بداية شهر (رمضان) المعظم و انا أحاول تجنب صديقى الغاضب دوما والذى لا يعجبه العجب أو الصيام في رجب، فالشهر الفضيل هو شهر التوقف عن المشاحنات و الانفعالات، ولذا آثرت الابتعاد عنه حتى أننى ذهبت إلى مسجد آخر غير الذى تعودت أن أصلى فيه خشية لقائه.
بل إننى – سامحنى الله – لم أعد ارد على مكالماته وأكتفى برسالة اعتذار تحت دعوى الانشغال، وهى ليست رسالة كاذبة فأنا منشغل فعليا بسلامى النفسى بعيدا عن عصبيته المفرطة، ومصمم على الابتعاد عن اى مشاكل .
لكن ذات مساء فوجئت بصديقى يطرق بابى دون موعد مسبق، فلم يعد أمامى سوى استقباله، وبعد التحيات المعتادة جلست صامتا أدعو الله أن تمر الليلة بسلام، و عندما لاحظت أنه سيتكلم قلت له على الفور: تشرب كركديه عشان تبقى هادى أو ينسون ؟ فقال في ابتسامة: أنا هادى جدا والحمد لله، وتلك من كرامات شهر(رمضان) الفضيل.
ارتحت وارتخت أعصابى بعد توترها، وحمدت الله حمدا كثيرا، و بعد أن تناول قدرا من حلويات الشهر الشهيرة قال فجأة: بتشوف مسلسلات ايه في (رمضان)؟ وايه اللى عاجبك فيهم؟
رأيت أن السؤال مجرد فخ لاستدراجى حتى يخرج غضبه في مسلسلات (رمضان)، فقررت الهروب قائلا: لم أتابع مسلسلا بالكامل، بل رأيت شذرات من هنا وهناك، وبالتالى لن أحكم عليها، كما أنه ليس من اللائق أن تشغلنا المسلسلات كل عام ولا نجد موضوعا نتكلم فيه إلاها، حتى أن البعض على وسائل التواصل ينصب لها محاكمات حتى قبل أن تنتهى!
قال في هدوء: لقد خسرت كثيرا بعدم المشاهدة، فلقد كان هذا الموسم من أفضل المواسم منذ عشر سنوات تقريبا من حيث جودة الموضوعات وتنوعها، و يبدو أن السر في اللجوء للمسلسلات القصيرة (15 حلقة) فقدأنقذتنا من المط والتطويل، كما أتاحت لجيل جديد من الكتاب والمخرجين والممثلين الظهور وتحقيق نجومية تؤهلهم لتصدر المشهد الأعوام القادمة.

عودة الدراما المصرية
لم أصدق ما سمعت، هاهو يرضى أخيرا عن شيئ ويعبر عن إعجابه به، فقلت له: ان شاء تبقى فاتحة خير للسنين القادمة وتعود الدراما المصرية للتصدر والريادة، ولكنه رد بغضب مكتوم: منين ؟ انت مش عارف اللى حصل، السيد الدكتور رئيس الوزراء عمل لجنة عشان تعدل حال الدراما!
جايين في أحسن موسم ويقولوا يعدلوا حال الدراما في (رمضان)!، سايب السنين اللى صوتنا اتبح فيها من سوء المستوى ودلوقت لما الدنيا بدأت تتعدل يقولك هنعدلها، هو السيد الرئيس لما يقول (انه سمع) ان الدراما مش بتعبر عن الناس يبقى لازم نجرى ونعمل لجان وكل لجنة تفتى؟
قلت له: وماله؟ ما هي أكيد اللجان دى متخصصة وهتقول اللى فيه الخير، قال وقد بدأ صوته يعلو ويصبح أكثر حدة: اللجان دى هتعمل توصيات مش هيتنفذ منها غير بند واحد هو تشديد الرقابة، قلت له: بلاش تشاؤم.
قال: تشاؤم ايه يا أبو تشاؤم؟ انت مش عارف ان الدراما المصرية تدهورت من ساعة هيمنة شركة واحدة للإنتاج الدرامى في مصر، وأن التحسن ظهر لما الشركة دى بدأت تفك ايدها شوية؟ المنافسة أهم عامل لتحسين الإنتاج، دى قاعدة معروفة.
كان لازم رئيس الوزراء يقول للرئيس: (يافندم احنا كنا غلطانين لما الدولة حاولت تهيمن على الإنتاج الدرامى، كان المفروض نسيب الناس تنتج واحنا نختار اللى نعرضه على قنواتنا..
وان الدولة تنتج بس الأعمال الكبيرة اللى مايقدرش حد تانى ينتجها زى (الاختيار، هجمة مرتدة، الحشاشين)، النوعية دى محتاجة الدولة مش أفراد ومش المفروض تكسب من وراها).
قلت له بدهشة شديدة: (انت عاوز رئيس الوزراء يقول لرئيس الجمهورية احنا كنا غلطانين؟)، فقال في حدة: (ما هما أمثالك اللى مضيعين البلد، يا أستاذ يا مرتعش السيد رئيس الجمهورية وقف بنفسه و قال احنا كنا غلطانين لما بنينا مدينة الأثاث في دمياط ولم نراعى طبيعة السكان..
كمان الرئيس عارف ان فيه مشكلة بدليل انه عتب على الاعلام كذا مرة، و بدليل إن قيادات الشركة المهيمنة اتغيرت 4 مرات في 8 سنين، كان لازم رئيس الوزراء يقول للسيد الرئيس: يا فخامة الرئيس هما 4 أو 5 مسلسلات اللى التقارير بتتكلم عنهم و منهم مسلسلات مش انتاجنا أصلا، لكن عندنا أكثر من 15 مسلسل تانى مستواهم ما بين الممتاز والجيد).

الدولة كانت خاطئة
قلت له: (يا سيدى إهدأ، ماهو جايز اللجنة اللى اتشكلت لما تجتمع تقول كده، رد في سرعة: لكنها لن تقول ان الدولة كانت خاطئة في الهيمنة، وان علينا اننا نفتح الباب أكتر، إذا كان ممنوع على أي حد ينقد مسلسلات الشركة في جرايدها أو محطاتها أو مواقعها، عاوز الشركة نفسها تقول الاحتكار غلط؟..
وبعدين أي لجنة هتيجي هتحط شوية معايير هتبقى زى الوصاية على الناس، مش عارفين إن خلاص عصور الوصاية خلصت لأن السماوات المفتوحة هتخلى الناس تهرب من الوصاية و تلجأ لبديل أسوأ، ثم ان الناس قادرة على فرز الجيد من السيئ).
قبل أن أعترض قال: (الناس هى اللى خلت المسلسلات الجيدة تنجح وتبقى ترند، الناس هى اللى خلت مشاهدات برنامج (قطايف) لسامح حسين تعدى المليار ونص، وهو مالوش دعاية على الاطلاق، انت لازم تراهن على وعي الناس وإلا تبقى بتخالف رأى الرئيس اللى في كل مناسبة بيمدح المواطن المصرى اللى واقف ورا بلده، و كل ده بسبب وعيه زى ما الرئيس قال)
قلت: (لن أخالف رأى السيد الرئيس، ولكن نحتاج لمزيد من الوعى، قال : لازم انت الأول يبقى عندك وعى ان فيه منظومة متكاملة بتصنع الوعى مش المسلسلات بس و لا الإعلام بس، عاوز تعمل وعى بجد اهتم بالتعليم، وفر له كل الإمكانيات ورجع حصص النشاط، التعليم هو الأساس..
واحنا بقينا قاعدين نجرب في الطلاب من غير أي دراسة علمية، وبعد ما تهتم بالمدرسة والجامعة اهتم بالجامع والكنيسة والنادى، وفر فيهم كتب وندوات ومناقشات، دول أهم صناع الوعى قبل الإعلام، و الاقتصاد كمان له دخل كبير في تشكيل الوعي، أو زي ما قال واحد مسرحى كبير: ما تكلمنيش عن الأخلاق وفيه فقر!).
قلت له: (عندك حق، لازم الدولة تعمل مجلس كبير ينسق بين الوزارات المسئولة عن صياغة الوعى وتحط استراتيجية).
قاطعنى في حدة: (مجلس ايه يا أبو مجلس، كفاية مجالس بقى.. ما انت عندك (المجلس الأعلى للثقافة) اللى بيجتمع مرة واحدة في السنة عشان بس يوافق على جوايز الدولة، وكل لجانه المتخصصة رأيها استشارى فقط !!
وعندك (المجلس الأعلى لمقاومة الإرهاب) اللى ما اجتمعش ولا مرة، وعندك (الحوار الوطني) اللى مات بالسكتة القلبية، و(لجنة الدراما) هتحصلهم قريب ان شاء الله، يا سيدى افتح المجال و بلاش هيمنة وأكيد العملة الجيدة هتطرد الرديئة ، حتى ولو بعد حين..
كل اللى عليك انك تشجع المنتج الجيد زى ما الرئيس عمل كده مع (سامح حسين)، اعمل جوايز للشركات اللى قدمت أعمال درامية جيدة من غير مجاملات و لا حسابات ولا شللية ولا وسايط أو قدم لهم تسهيلات أكبر في الموسم اللى بعده وانت تشوف نتيجة مبهرة بدل مهرجانات المصالح و التربيطات).
حاولت إنقاذ نفسى من هذا الجدل بتغيير الموضوع: بس ايه رأيك في أنواع الكنافة اللى ظهرت جديد في (رمضان)؟ هنا انفجر في وجهى قائلا: ازاى يلعبوا في الثوابت، ازاى يشوهوا تراث الفاطميين العظيم.
و لم أعرف كيف أسكته بعدها..