رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(ياسر جلال).. فنان ساحر يغرد خارج السرب بعذوبة الأداء

(يارسر جلال) هنا يريد توصيل رسالة مفادها أن الواقع الاجتماعى فى الحيّز الدرامى الحالي يضيق علينا

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة

فى ماراثون رمضان للدراما التليفزيونية هذا الموسم، لاحظت أن النجم (ياسر جلال) استطاع أن يفرض سطوته في الأداء العذب مغردا كعادته خارج سرب العنف والفوضى والعشوائية، من خلال مسلسله (جودر) الجميل شكلا ومضمونا في جزئه الثناني علي جناح (فانتازيا) راقية تجنح نحومناطق دافئة من الخيال الساحر.

عبر أداء يتسم بالقوة والعذوبة استطاع (ياسر جلال) أن ينتشلنا من الفوضى الدرامية  إلى واقع افتراضى، لكنه يشى، وربما يحاكى ليبنى منظوراً مختلفاً لإشكاليات وتناقضات، بما يعنيه من انتباه لشرط إنسانى فى واقع متغير.

وكأن (يارسر جلال) هنا يريد توصيل رسالة مفادها أن الواقع الاجتماعى فى الحيّز الدرامى الحالي يضيق علينا، كثير عندما لجأنا إلى العنف سبيلا للتعبير عن هذا الواقع.

ربما أراد (أنور عبد المغيث) لبطله (ياسر جلال) في مسلسل (جودر) أن يؤسس للحظة الدرامية المناسبة حين تنفتح على إبداع الثقافة الدرامية وإبداع خصوصيتها، وهو ما تجلى فى جوهر الرسالة التى أرادها السيناريو الذي حلق بنا في عوالم من السحر المحبب.

وعلى الرغم من أن (أنور عبد المغيث) لا يعد واحدا من أهم كتاب السيناريو المشهورين، لكنه اتسم بالوعى والثقافة والجدية، ولديه إيمان عميق بأن الدراما لا تقل أهمية فى فعلها عن كل الاختراعات التى طرأت فى حياتنا الإنسانية والفكرية.

فقد أبدع فى رسم ملامح الشخصيات المحورية والثانوية في (جودر) وربطها بخيوط درامية مشدودة على وتر حساس جدا، من خلال قصة (قديمة جديدة) بها أحداث كثيرة مشوقة، جمع فيها بين فانتازيا جميلة جدا تجمع التراجيديا والأكشن والرومانسية، فى سياق فنى يحقق أقصى درجات المتعة والتسلية طوال 15 حلقات.

(ياسر جلال في (جودر) بأدائه الهادىء جدا إلى حد الحساسية المرهفة والشعور الذي يتدفق كماء رقراق

حد الحساسية المرهفة

ولعل (ياسر جلال في (جودر) بأدائه الهادىء جدا إلى حد الحساسية المرهفة والشعور الذي يتدفق كماء رقراق عذب الشراب، كأنه يحاكى مقولة (ألبرت آينشتين): (أعلى مستوى فى الإبداع ينكشف من خلال التسلية).

ومما لاشك فيه أن وجود المخرج الرائع (إسلام خيري) على رأس أسرة (جودر) كان من أهم أسباب نجاحه، حين تعامل بحرفية شديدة مع نص متماسك وفكرة جيدة، واستطاع أن يقدّم صورة مريحة للعين بإدارة جيدة لفريق العمل.

ولأنه يدرك أن فن التمثيل يحتاج إلى مناخ صحى حتى يقوم برسالته على أتم وجه، فقد وفر البيئة المناسبة التى تكفل الأداء الجيد، فكان التوفيق حليفا لـ (جودر/ ياسر جلال) فى رحلته الطويلة نحو تحقيق الحلم، وهو في ذات الوقت مسلح بإيمان عميق مستمد من أخلاقيات (ياسر جلال) الحياة، لذا فإنك تصدقه في صمته وحركته.

وحرص (ياسر جلال) أن يقف كممثل فى تواز غير مخل بين مهابة الملك (شهريار)، واضعا فى اعتباره أنه يقف أمام عمالقة الأداء (رشوان توفيق، أحمد بدير، عبد العزيز مخيون، وفاء عامر)، وهى شخصيات عبرت بصدق عن حالات القسوة والحب والخير والشر بمشاهد تعكس خبرتها فى تجسيد حالات الصراع والرومانسية والحزن. فى مزيج من القسوة مع نفسه والطيبة المفرطة، بدا لي (ياسر جلال)، الشخصية الحببة للجمهورالمصري والعربي، وقد أظهر براعة  فى التودد والظهور بالولاء والطاعة للوصول إلى غايته.

يبدو لي (ياسر جلال) مؤمنا بمنهج (ستانسلافسكي)، الذي يقول (إن على الممثل وفقا أن يؤلف فى ضوء ما لديه من معطيات سيرة كاملة للشخصية التى يؤديها، وأن يجعل فى ذهنه صورة حسية دقيقة لسائر ظروفها المرتبطة بما يجرى على الشاشة، ولو ارتباطا غير مباشر.

وهذه مهمة صعبة، ولكنها ممكنة إذا اكتملت فى الممثل شروط الإعداد المهني الجيد، والمعرفة الدقيقة لجوهر فن التمثيل الحقيقي – وهو ما أعرفه جيدا عن (ياسر جلال) – وعلى أساس هذه المعرفة يستطيع الممثل أن يكمل النص بشتى الوقائع بمخيلته وما تحفل به ذاكرته من صور وانطباعات.

وقد تستلزم طبيعة الدور أن يخرج الممثل إلى المجتمع ليراقب عن قرب أناسا يماثلون بطله فى المهنة أو الوضع الاجتماعى أو الحالة الصحية وغير ذلك، وهنا على مايبدو أن (ياسر جلال) قد درس شخصيتي (الملك شهريار، وجودر المصري) ومزج بين القراءة والتأمل لكلا الشخصيتين وفقا للأعمال السابقة في مجال هذه اللون الفنتازي.

تصدى (ياسر جلال) بحرفية متقنة لشخصية تتمتع بكاريزما خاصة جدا

حرفية متقنة لشخصية (جودر)

تصدى (ياسر جلال) بحرفية متقنة لشخصية تتمتع بكاريزما خاصة جدا، وكأنه يقول لنا: إن الهدف الأساسى الذى يهدف إليه فننا هو خلق الحياة الداخلية للروح الإنسانية والتعبير عنها بصورة فنية، ولكن التعبير عن حياة باطنية ولا شعورية دقيقة لابد أن تكون لك السيطرة التامة على جهازك الجسمانى والصوتى.

ومن هنا فلم يلجأ إلى استخدم القوالب الجاهزة التى تؤدى إلى الآلية كما جسدها نجوم كبار لشخصية (شهريار)، تماما كما فعل في لعب هذا الدور الذي يعد نقطة تحول في حياته المهنية، فليس أصعب على الممثل من أن يجسد شخصيتين من روح ولحم ودم عاشت إحداهما في خيال المؤلفين ولم نعاصرها أم نلمس جانبا من حياتها.

فإن تجسد شخصيات تاريخية قديمة أمر صعب، ولكن أن تجسد أحداثا تاريخية مع شخصيات موجودة بالفعل فى أرض الواقع أمر فى غاية الصعوبة، خاصة تجسيد شخصية (جودر المصري) وهو فى موقعه من الأحداث.

إن عين الممثل المبدع (يسر جلال) التى تنظر إلى الشىء وتراه تجذب انتباه المشاهد وتستطيع بذلك أن تكون علامة تحدد للمتفرج ما ينبغى أن يراه وما يسعى إليه الممثل، أما العين الفارغة فعلى العكس تماما من ذلك فهى تشتت انتباه المتفرج وتصرفه عن المشهد، فلابد أن يكون الممثل فطنا يقظا.

ولهذا كان أمام (ياسر جلال) تحد كبير، في إما أن يعيش داخل نفسه أو خارجها، إنه يعيش إما حياة واقعية أو متخيلة، وهذه الحياة المعنوية تقدم موردا لاينضب من مادة التركيز الداخلى، لذا تراه سهلال سلس الأداء، فقد تخلص من كافة التقلصات التى بلا داعى، وطور ذلك بالتدريبات حتى يصبح الاسترخاء عادة له من عادات عقله الباطن. وليس هذا فحسب بل إنه جعلها عادة مألوفة لا فى الأجزاء الأكثر هدوءا فى دوره، بل بصفة خاصة الأجزاء التى يبلغ فيها المجهود العصبى والجسمانى أقصى مداه، إذ لا ينبغى على الممثل أن لا يوتر عضلاته، فقط بل ينبغى أن يبذل مجهودا أكثر لارتخائها وذلك بالإكثار من تمارين الاسترخاء.

وشيئا من هذا قد بدا لي في (ياسر جلال) من خلال تجسيده شخصية (جودر) على نحو مخالف لكل التوقعات بأداء يلفت إليه الأنظار من أول حلقة، وهو ما يثبت أنه ليس فنانا موهوبا فحسب، بل يمتلك كل مقومات النجومية التى تأخرت عنه طويلا، فضلا عن وصوله لمرحلة النضج الفنى – كما لاحظنا مع تطور الأحداث من حلقة لأخرى – حيث يزداد تألقه.

امتلك (ياسر جلال) نوعا من القوة الهادئة التى تعينه فى تجسيد شخصيتين

القوة الهادئة التى تعينه

رغم المنغصات التي تعترض مسار حياة (جودر)، امتلك (ياسر جلال) نوعا من القوة الهادئة التى تعينه فى تجسيد شخصيتين إحداهما شعبية تميل إلى الطاعة والهدوء النفسي بالأساس، وملك معروف بغزواته النسائية الذي يبطش بهن قبل أن يصيح الديك معلن صبا يوم جديد.

ومع ذلك كان (ياسر جلال) يبدو طوال الوقت هادئ الطبع – كما هو في حياته الشخصية – رغم البركان الهادر الذى يغلى بداخله بسبب الظلم الواقع على عاتق (جودر)، لكنه كعادته يدير معركته بسيطرة كاملة فى رحلة التحرى والبحث عن الخلاص.

وكأن (ياسر جلال) هنا يطبق مبدأ (ستانسلافسكى) فى تذكير الممثل بالصفة المعاكسة للدور، قائلا: (عندما تؤدى دور الشرير، ابحث عن الجانب الطيب فيه، وعندما تلعب دور العجوز ابحث عن الجانب الفتى فيه)، وهو ما بدا واضحا في أداء (ياسر جلال) على مدار حلقات (جودر).

الأمر المؤكد أن (ياسر جلال) يختار بعناية فائقة ما يطل به على شاشة رمضان في كل عام، ويضع شروطا دفينة في نفسه لا يعلنها على الملأ، بل يحس ويشعر بها الجمهور من خلال تجلياته الفنية المبدعة والرسائل التي يبثها عبر الأحداث على كثرتها.

وربما هذا كان دافعا أساسيا أمام (ياسر جلال) لتغريده خارج السرب، معلنا انحياز إلى ما يجلب البهجة لجمهور أتعبه شقاء مسلسلات العنف والقسوة والجبروت، فأراد أن يحلق بنا في عوالم من السحر والخيال والرومانسية التي تقوى على أنقاذنا من براثن الدراما السوداء التي تروج للعنف والقتل والدمار النفسي.

ولهذا فإن (جودر)، ذلك العمل الذى قدمه بشكل خاص نتيجة عدة عوامل، أولها الورق وهو ما وجده فى سيناريو الكاتب (أنور عبد المغيث)، بالإضافة إلى وجود مخرج يتمتع بخبرة واسعة في البناء الدرامي للنص مثل (إسلام خيري).

وبالطبع شركة إنتاج سخية بحجم سينرجى، بجانب كوكبة من النجوم والزملاء،وهى عناصر كانت جاذبة لخوض التجربة والخروج منها بنتائج طيبة تسحرنا وتبرهنا ونستمتع بها طوال 15 حلقة من الجزء الثاني لمسلسل (جودر).

وإضافة إلى كل ما سبق فإن شخصية (جودر) نفسها تبدو مختلفة عن الشخصيات التي لعبها من قبل، كما بدت لي ولغيري من المشاهدين في شكل علاقته بالأب والأم التي تتمتع بقدر من الحنو والنعومة والشدة واللين في آن واحد.

بدا مثل فارس يمتطي جوادا عربيا أصيلا دخل في سباق من نوعية (القدرة والتحمل)

القدرة والتحمل في الأداء

تمتعت حلقات (جودر) بجزئه الثاني بقدر كبير من الإثارة والتشويق في ظل أداء احترافي من جانب النجم (ياسر جلال) الذي بدا مثل فارس يمتطي جوادا عربيا أصيلا دخل في سباق من نوعية (القدرة والتحمل).

وللعلم فإنه في هذا النوع من السباقات يصل الفائز إلى خط النهاية من خلال تحكمه في ثلاثة عناصر، أولها نبض الحصان، والثاني الزمن الذي يقام فيه السباق، والثالث وعورة الأرض التي يسير عليها الحصان.

ومن هنا فقد اجتاز (ياسر) العناصر الثلاثة بامتياز، وفي قدرة فائقة استطاع التحكم في نفسه (الانفعال الذي يشبه العاصفة، والهدوء الذي يتسم بالحكمة في الشدائد والأزمات)، وقد تم  ذلك عبر التعبير بالإيحاء والدلات والإشارات عن الصبر على الظلم، وبالعيون في نظرته الحانية إلى المظلوم ليطمئنه على استرداد حقه المهدور.

وحتى في قشعريرة الجسد التي صاحبتها غصة في القلب يحس بها المشاهد جراء الكادرات القليلة ذات الصبغة الإنسانية في لقاءاته مع (زوجته وأمه الكفيفة) طوال الوقت.

اجتهد (ياسرجلال) كعادته في دراسة الشخصية على مستوى البعد المادي المتمثل في الشكل الخارجي والجسماني وشكل الوجه، والبعد الاجتماعي والذي يتعلق بوضعه في المجتمع.

ولأن (ياسر) جزء من نسيج هذا المجتمع المصري العريق في أصالته، حيث الغالبية العظمى منه محافظون ومتدينون وعلى خلق، لم يلجأ إلى أن يجرح مشاعرهم، أو تقديم شىء غير أخلاقى أو مسف.

وتعمد دائما أن يترجمه كل هذا بأدائه السلسل بنوع من الجمالية والإمتاع البصرى والذهنى والروحى، ومن فوق كل ذلك السمو فى المشاعر والأخلاق التي يستمدها من واقع حياته التي تتسم بالهدوء والأخلاق الرفيعة.. تحية تقدير واحترام للنجم (ياسر جلال) الذي وضع نفسه داخل برواز خاص عنوانه (الأصالة في ثوب الإنسانية).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.