
بقلم الكاتب الصحفي: محمد شمروخ
إنها المرة الأولى التى يدخل فيها الشيخ (ياسين التهامي) إلى مسرح التلفزيون ليحيي ليلة لم يسبقه إلى مثلها إحد من المنشدين.
القرار بدعوة الشيخ (ياسين التهامي)، كان كسرا لذلك الخمول البغيض الذي خيم على ماسبيرو في العشرية الأخيرة – لأسباب كثيرة – كذلك أزال الحاجز ما بين هذا اللون من الإنشاد، والذي كانت مسارحه الرئيسية في الموالد الكبرى وبين الإعلام الرسمي الذي لم يهتم كثيراً به.
ويمكننى أن أزعم أنه حتى لما دخل الشيخ (ياسين التهامي) الأوبرا المصرية، كان استقباله على ما أظن على سبيل التعامل مع هذا اللون على أنه (فلكلور) لأنه يلتزم بالزى الصعيدي بارتداء جلباب بلدى من قماش غليظ يسمى في الصعيد بـ (الزعبوط) وعمامة ملفوفة حول الرأس على الطريقة الأسيوطية.
ويلف حول رقبته في الصيف (لاسة مزركشة)، وفي الشتاء شال صوف داكن اللون، ليظهر كرجل عادى لاتكاد تميز طريقة ارتداء ملابسه بينه وبين كثير من جمهوره العريض والذى – أزعم مرة أخرى – أنه يفوق أى عدد لجمهور أى مطرب أو فنان عربي، مهما بلغ من الشهرة!
ومن لا يصدق فليتفضل بحضور أى ليلة من ليالي الشيخ (ياسين التهامي) سواءً في الموالد أو في أى مناسبة يحييها (التهامي) في أى مكان في بر مصر المحروسة.
أذكر أنه في بداية ثمانينات القرن العشرين، وصف تقرير لإحدى الوكالات الإعلامية العالمية الكبرى، الشيخ (ياسين التهامي) بأنه إله جديد في صعيد مصر – أستغفر الله العظيم – وذلك من هول ما عاينه مندوب الوكالة من افتتان جارف من الجماهير بهذا المنشد الشعبي.
فقد كانت تغلق الطرق والميادين المحيطة بساحة الإنشاد، في وجه المركبات وتقتصر فقط على المترجلين الذين يحتشدون وقوفاً، فلا مجال للجلوس لمقاعد او حتى على الأرض من هول الزحام العظيم!.

ليس كأى منشد عادى
لكن الشيخ (ياسين التهامي) ليس كأى منشد عادى ينفعل بأية أغانى أو ألحان ينشدها أو ينسج على منوالها مدائحه، فهو يتميز بأنه يغترف من شعر كبار المتصوفة العاشقين السالكين في الطريق بمل نا فيه من معانى عميقة ومتجاوزة للفهم المباشر.
فأنت تجده ينهل من أشعار أساطين التصوف الإسلامي كابن عربي والحلاج، ولابن الفارض عنده مكانة مميزة، جعلته حسب ما أخبرني الصديق الصحفي بالأخبار يوسف وهيب (وهو بالمناسبة مسيحي من محاسيب الشيخ ياسين): بأنه ذهب إليه ذات مرة في مسجد عمر بن الفارض بمنطقة الأباجية في سفح جبل المقطم، فوجده وقد شمر عن ساعديه وراح ينظف المكان وكأنه خادم الضريح!
وشرح ذلك ليوسف بأنه يفعله رداً لجمايل صاحب هذا المقام عليه، لأن قصائد ابن الفارض كانت في مقدمة أعماله، التى جعلت الجماهير تتعلق بهذا الفن من الإنشاد والذي يصعد بهم إلى درجات لم يألفوها في سماع كثير من المنشدين الآخرين!
﴿شَرِبْنَا على ذكْرِ الحبيبِ مُدامَةً
سكِرْنَا بها من قبل أن يُخلق الكَرْمُ
لها البدرُ كأسٌ وهيَ شمسٌ يُدِيرُهَا
هلالٌ وكم يبدو إذا مُزِجَتْ نَجم
ولولا شذَاها ما اهتدَيتُ لِحانِها
ولولا سَناها ما تصَوّرها الوَهْمُ﴾.
الله الله الله يا مولانا..
ونحن الآن في مسرح التلفزيون، وفي أثناء شدو الشيخ (ياسين التهامي) بمثل تلك القصائد خاصة قصيدة الحلاج:
(يا كل كلي وكـلُّ الكل مُلتبـسٌ
وكلُّ كلك ملبـوسٌ بمعنائي
يا من به علقت روحي فقد تلفت
وجدا فصرت رهينا تحت أهائي
أبكي على شجني من فرقتي عملي
طوعا ويسعدني بالوح تجاربائي
أدنو فيبعدني المزارعيني فيقلقني
شوقٌ قادر في مكنون أحشائي
حيث أصنع في حبٍّ كلفتُ بهِ
مولاي قد ملَّ من سقمي أطبائي
قال تداو به منه فقلت لهم
يا قوم هل يتداوى الداء بالداءِ
حبي لمولاي أضناني وأسقمني
ثم أشكو إلى مولاي مولآئي﴾.

مريدي الشيخ (ياسين التهامي)
إذا بأكثر الحاضرين يتعجبون من بعض مريدي الشيخ (ياسين التهامي) الذين حضروا معه الحفل وأكثرهم يرتدون الجلاليب البلدية، فإذا هم مع إنشاد الشيخ، يهبون واقفين من مقاعدهم في الصفوف الخلفية المرتفعة من مدرج القاعة أمام المسرح، يتراقصون بالطريقة المعهودة في حلقات الذكر غير كده ملقين بالاً إلى تنافر تلك الحركات مع المسرح.
وتسلطت عليهم كاميرات الموبايلات لالتقاط هذا التصرف غير المتوقع من غالبية الحاضرين!
لكنى لم أتعجب – على الرغم من أنى لست من أتباع اي طريقة صوفية – لأنى على دراية بأن هؤلاء لا يتحكمون في انفعالاتهم عندما يفتخ الشيخ في الإنشاد ويتسلطن في الأداء، بل إن هذه الحركات هى المكمل البصري المحسوس لإنشاد الشيخ ياسين، فهم لا يستغنون عنه وهو لا يستغنى عنهم في أى حفل!.
وكنت أود أن يتم إشراكهم في تلك الليلة بتخصيص مساحة لهم على المسرح ليؤدوا حركاتهم كأداء تعبيرى عن التأثر بما ينشد على المسرح!
كيف؟!.. إلى هذا الحد؟!
لكن ليس هذا هو الموضوع الآن، فالذي استفزنى لكتابة هذا المقال عن ليلة الشيخ (ياسين التهامي) في ماسبيرو، تداول سؤال بالقرب منى مع نظرات متعجبة لمحاسيب الشيخ ذوى الجلاليب البلدية:
(هل يفهم هؤلاء معنى ما يردده الشيخ (ياسين التهامي) في غناء قصائد عتاولة الشعر العربي، لاسيما أئمة التصوف الكبار الذي ملأوا الدنيا وشغلوا الناس بأشعارهم، والتى تصعد لمستويات فلسفية عليا، خاصةً في شعر هذا الثالوث الأكبر (بن عربى وبن الفارض والحلاج).
إنها معان قد لا يدركها كثير من المتعلمين، كيف يفهمون ما قال الحلاج: (رأيت ربي يعين قلبي)؟!
أذكر أن المرحوم (الشيخ كشك) هاجم الشيخ (ياسين التهامي) بسبب هذا القول وسخر منه (قائلاً: إياك شفته وأنت راكب الحمار في الحواتكة؟!).
و(الحواتكة هى قرية تابعة لمركز منفلوط بمحافظة أسيوط وهى مسقط رأس الشيخ ياسين التهامي).

مصطفى لطفي المنفلوطي
وعلى ذكر منفلوط فقد غنى (ياسين التهامي) قصيدة لبلدياته الأديب البديع (مصطفى لطفي المنفلوطي)، وبها بيت شعر يصعد بك إلى العنان: (فما زلتُ أبغي الحبَّ حتَّى وجدتُه.. فلما أردتُ القُربَ كان التمنُّعُ).
فكيف لأصحاب هذه الجلاليب الذين يتفعلون وراء الشيخ في الموالد (حى.. مدد) أن يدركوا هذه المعانى؟!
لكن في هذا السؤال، اختصار للهوة الواسعة ما بيننا وبين جمهور الشيخ (ياسين التهامي) خاصةً، وكذلك عشاق الشعر الصوفي عامةً!
فتلك هذه أسئلتنا نحن الذين يحكمون على الأمور بسطحية مفرطة وبغرور فاتر يأخذ الناس بمظاهرها، فقلت لأحد الأصدقاء بثقة: (ما رأيك لو اخترت لك اى شخص عشوائياً من بين محاسيب الشيخ هؤلاء، مهما بدا من بساطة هيئته أو مستوى تعليمه ولو كان أمياً، فأراهنك على أنك ستجده حافظاً لمئات القصائد وآلاف الأبيات الشعرية لكبار المتصوفة..
ليس فقط حفظ صم، لكنك لو طلبت منه شرح معانيها ومرامها وما يبغى منها قائلها، لأذهلتك إجاباته، ثم إن حفظه ليس فقط حفظ مباهاة، فالمريد الحق لا تجد المباهاة طريقاً إلى قلبه وإلا أفسدته!).
ولما تدخل أحد الأصدقاء ملمحاً إلى تجاوز بعض الأبيات الشعرية مثل (الحلاح وابن عربي) وغيرهما، فإذا قبلنا تشبيه (ابن الفارض) للتجربة الصوفية بالخمر بأنها على سبيل المجاز، فكيف نقبل وصف المحب الإلهي بالسقيم، وكأن حب الله تعالى مرض عضال؟!
كيف يمكن المبالغة باستخدام تعبيرات العشاق من الدلال والتمنع والهجر والصد وما شابه؟!
وماذا نقول في قول ابن عربي:
(لَقَد صارَ قَلبي قابِلاً كُلَّ صورَةٍ
فَمَرعىً لِغِزلانٍ وَدَيرٌ لِرُهبانِ
وَبَيتٌ لِأَوثانٍ وَكَعبَةُ طائِفٍ
وَأَلواحُ تَوراةٍ وَمُصحَفُ قُرآنِ
أَدينُ بِدَينِ الحُبِّ أَنّي تَوَجَّهَت
رَكائِبُهُ فَالحُبُّ دَيني وَإيماني
لَنا أُسوَةٌ في بِشرِ هِندٍ وَأُختِها
وَقَيسٍ وَلَيلى ثُمَّ مَيٍّ وَغَيلانِ).

رؤى أهل الظاهر
لكن كما قلنا هذه رؤى أهل الظاهر، فلا يمكن أن يقصد الصوفى الدلالة المباشرة للكلمات، ذلك لأن المعانى العظمى التى تتفتق عن خوض التجربة الصوفية، لا تجد في أبجديات اللسان ما يعبر عن الجنان، فاللغات تعجز عن وصف الجمال وما يشعر به الصوفي في أحواله التى تجرى عليه، فلا يملك دفعها وهو (مجذوب) إليها، لأن قوة الجذب هائلة والبحر عميق وكما قال البسطامى: (خضنا بحراً…..)
لا بلاش وكفاية قوى كده لأن الطريق صعب وطويل فأوغل فيه برفق، بل أدعوك بألا تفعل، والزم الظاهر لعلك تنجو فقد التمس الحلاح العذر لقاتليه لما سمعوا منه ما يحل دمه، فهذا الطريق كم ضل فيه من ضل ويكفى أن أقرر لم بأن (الضلال في الطريق شر من الضلال عن الطريق).
وكان خطأ (الحلاج) عند بعض شيخوخه أنه رآه تحدث بالأسرار وكشف ما لا يجب كشفه!.
ولنعد سريعاً للسؤال، من هؤلاء المحاسيب.
إنك ستجد فيهم (المهندس والصيدلى والطبيب والقاضى والأستاذ الجامعى ورجل الأعمال والبنكير)، بل من المحاسيب كذلك (علماء في الفيزياء والكيمياء وعلوم الكمبيوتر والاتصالات) بجانب فنانين من موسيقيين على ممثلين على رسامين.
يقفون بجانب الفلاحين والعمال والصننايعية والفواعلية والبوابين، منهم من يظهر لك، ومنهم من يأت متخفياً فالرجل منهم لا يحكم أو يهتم مثلنا، بالفرق ما بين أصحاب البدل والكرافتات والبيبيونات وبين أصحاب الجلاليب واللاسات والشيلان والعمم الصعيدى والطواقى الفلاحي!