
بقلم الإعلامي: شريف عبد الوهاب *
في جوهر السينما الواقعية، تبرز الأفلام كمرآة تعكس الصراعات الأزلية بين الظلم والمقاومة، بين السلطة الغاشمة وصوت الشعوب، ويأتي (فيلمان) من كلاسيكيات السينما المصرية ليجسدا هذه الجدلية بعمق ووضوح، وهما (شيء من الخوف)، و(الزوجة الثانية).
هذان الـ (فيلمان)، رغم اختلاف قصتيهما، يقدمان رسالة واحدة: إرادة الإنسان أقوى من الطغيان، والمقاومة بأشكالها المختلفة قادرة على تغيير المعادلة، مهما بلغت قوة الجلاد.

الطغيان والمقاومة في السينما
أولى الـ (فيلمان): في (شيء من الخوف)، يتجسد الاستبداد في شخصية (عتريس)، الذي يفرض جبروته على أهل القرية، مستندًا إلى سطوته الشخصية وتسلطه المطلق. يعتقد (عتريس) أن القوة هى الوسيلة الوحيدة للسيطرة والبقاء، لكنه يواجه تحديًا عندما تتوحد الإرادة الشعبية لمواجهته.
الفيلم يوضح كيف أن الطغيان، مهما بدا قويًا، يظل هشًّا إذا ما أدركت الجماعة قوتها الحقيقية وقررت الوقوف ضده. لحظة الوعي الجماعي هذه، حين يصرخ الجميع (جواز عتريس من فؤادة باطل)، هي اللحظة الفارقة التي تحول ميزان القوى لصالح المظلومين.
أما ثاني الـ (فيلمان): في (الزوجة الثانية)، فالطغيان يأخذ شكلاً أكثر تعقيدًا، إذ لا يعتمد على البطش المباشر، بل يتخفى خلف القوانين والأعراف الاجتماعية. العمدة، الذي يريد فرض سيطرته على فلاحة متزوجة، لا يلجأ إلى العنف الصريح، بل يستخدم نفوذه لتطليقها من زوجها بالقوة ليتزوجها.
هنا يبدو أن المقاومة لا تأتي في صورة تمرد مباشر، بل تتجسد في ذكاء المرأة التي تخوض معركة صامتة، تستخدم فيها الحيلة والخداع حتى تهزم العمدة في لعبته نفسها. (الزوجة الثانية) يعكس فكرة أن المقاومة لا تكون دائمًا بالسلاح أو بالمواجهة الصريحة، بل قد تتخذ أشكالًا خفية تتسرب ببطء، لكنها في النهاية تهدم أركان الطغيان.

بين السينما والواقع: فلسطين نموذجًا
حين ننظر إلى الواقع الحالي، نجد أن هذه القضايا التي طرحت في الـ (فيلمان) لا تزال قائمة، لا سيما في القضية الفلسطينية، الفلسطينيون الذين يعانون من الاحتلال الإسرائيلي، يعيشون تجربة مشابهة لما قدمته السينما. في غزة، على سبيل المثال، نرى مقاومة مستمرة أمام قوة غاشمة تتصور أنها تستطيع فرض سيطرتها للأبد، تمامًا كما اعتقد (عتريس) والعمدة في الفيلمين.
ما يميز الاحتلال الإسرائيلي هو استخدامه مزيجًا من البطش المباشر والأدوات القانونية لفرض سيطرته، تمامًا كما فعل العمدة في الزوجة الثانية. فالاحتلال لا يعتمد فقط على القوة العسكرية.
بل أيضًا على قوانين ظالمة، وقرارات تهدف إلى طمس هوية الفلسطينيين وإخضاعهم. ومع ذلك، فإن المقاومة بأشكالها المختلفة، من المواجهة المباشرة إلى التحدي القانوني، تظل حاضرة، مما يعيد إنتاج السيناريو الذي رأيناه في الفيلمين.
في هذا السياق، يبرز دور القيادات السياسية في تحديد مواقفها من الطغيان والمقاومة. عندما قرر أهل القرية في شيء من الخوف أن يواجهوا عتريس، كانوا يمثلون نموذجًا للتضامن الشعبي الذي لا يمكن قهره. في الواقع العربي اليوم، هناك تساؤلات عن مدى إمكانية حدوث موقف مشابه تجاه القضية الفلسطينية.
موقف الرئيس عبد الفتاح السيسي الرافض لتهجير أهل غزة يعكس دورًا سياسيًا يعيدنا إلى تلك اللحظة في الفيلم، عندما قرر أهل القرية التصدي لعتريس. لكن السؤال الأهم: هل يمكن للعالم العربي أن يتخذ موقفًا موحدًا كما حدث في نهاية الفيلم، أم سيبقى البعض مترددًا، غارقًا في حسابات المصالح الضيقة؟

دروس السينما والمستقبل
ما تؤكده هاتان الـ (فيلمان) اللذين يعدان تحفتان سينمائيتان هو أن الطغيان، مهما بلغ جبروته، لا يستطيع الاستمرار إلى الأبد، الشعوب، متى أدركت قوتها، قادرة على فرض إرادتها. المقاومة ليست دائمًا عنفًا أو مواجهات مباشرة، بل قد تكون وعيًا جمعيًا، أو حتى خداعًا ذكيًا كما فعلت الزوجة الثانية.
لهذا، فإنني أقترح إرسال نسخ من هذين الفيلمين إلى جميع محطات التلفزة العالمية، وخصوصًا في الولايات المتحدة، ليشاهدوا كيف تتحدث السينما عن إرادة الشعوب. قد لا يكون فيلما سينمائيا قادرًا على تغيير واقع، لكنه بلا شك يستطيع أن يلقي الضوء على الحقيقة، ويمنح الأمل بأن المقاومة هى الطريق الوحيد لحرية الشعب الفلسطيني.
* الكاتب الإذاعي – رئيس الشعبة العامة للإذاعيين العرب – رئيس الشبكة الثقافية بالإذاعة المصرية الأسبق