
بقلم الإعلامي: شريف عبد الوهاب *
ليس كل قديم يُهدم، وليس كل ما هو حديث يُعتد به، بل علينا دائماً أن نعيد بناء الماضي بروح العصر، وأن تكون رؤيتنا للمستقبل مستمدة من تاريخنا، فمن قرأ التاريخ أضاف أعماراً إلى أعمارِه.
في لحظة طال انتظارها، أعلن معالي الوزير (أحمد المسلماني)، رئيس الهيئة الوطنية للإعلام، عن حدث يعيد بريق ماسبيرو ويحيي ذكرى واحدة من أعظم رموز الفن العربي، خمسون عامًا مرت على رحيل كوكب الشرق أم كلثوم، لكن صوتها ما زال يتردد في الأفق، كأنه يتحدى الزمن ليظل خالدًا في الوجدان العربي، متجاوزًا الأجيال والحدود.
وكما كان ماسبيرو يومًا القلب النابض للإعلام المصري والعربي، تأتي هذه المناسبة لتعيد إليه مكانته وريادته، عبر احتفالية استثنائية جسّدت عودة الروح إلى هذا الصرح الإعلامي العريق بقيادة (أحمد المسلماني).
لم يكن صوت أم كلثوم مجرد أداة للطرب، بل كان رسالة ثقافية وسياسية وحدت الشعوب العربية من الخليج إلى المحيط، فجمعتهم حول معاني الفن الراقي، وجعلت من الغناء سلاحًا للقوة الناعمة قادرًا على طي الخلافات وإحياء الأمل.
لم تكن أغانيها مجرد ألحان وكلمات، بل كانت ذاكرة وطنية تختزن مشاعر الانتماء والقوة، وكانت سلاحًا يواجه الأزمات والمحن، ففي نكسة 1967، لم تكتفِ بالغناء، بل سخّرت فنها لخدمة الوطن.
فجمعت التبرعات وأحيت حفلات لدعم المجهود الحربي، لتصبح صوت الجماهير، تعكس آمالهم وآلامهم، وتحمل على عاتقها مسؤولية الوقوف بجانب مصر في أصعب أوقاتها، وهكذا، لم تكن مجرد مطربة، بل أيقونة وطنية، جسّدت روح مصر الصامدة وعزيمتها التي لا تنكسر.

ذكراها بعد نصف قرن
واليوم، ونحن نستعيد ذكراها بعد نصف قرن مع (أحمد المسلماني)، تتحول المناسبة إلى نقطة انطلاق جديدة، ليس فقط لإحياء إرث أم كلثوم، بل أيضًا لاستعادة بريق ماسبيرو، الذي كان يومًا القلب النابض للإعلام العربي.
في خطوة لافتة، جاء الاحتفاء من خلال حفل غنائي استثنائي، أحيته الفنانة ريهام عبد الحكيم، التي قدمت أداءً أعاد للأذهان أمجاد الزمن الجميل، وكأن روح (أم كلثوم) كانت حاضرة في كل نغمة وكلمة.
اختيار مسرح التليفزيون لاستضافة هذا الحفل لم يكن مجرد مصادفة، بل كان تأكيدًا على أن ماسبيرو يستعيد مكانته من جديد، ويعود كما كان رمزًا للإعلام المصري والعربي.
لحظة تاريخية تجسدت عندما تلألأ برج القاهرة بعبارة (عودة ماسبيرو)، فأيقظت في النفوس مشاعر متباينة بين الحنين إلى الماضي والتفاؤل بالمستقبل.
بعض الحاضرين لم يتمالكوا دموعهم وهم يسترجعون أيامًا كان فيها (ماسبيرو) القائد الأول للإعلام العربي، بينما امتلأ آخرون حماسًا وأملًا بأن تعود هذه القلعة الإعلامية إلى سابق عهدها.
لم يكن هذا الاحتفال مجرد تكريم لذكرى أم كلثوم، بل كان رسالة واضحة بأن مصر، بتاريخها العريق وإعلامها القوي، قادرة على استعادة مكانتها، تمامًا كما بقي صوت (أم كلثوم) خالدًا رغم مرور العقود.

(أم كلثوم) نموذجًا فريدًا
لقد كانت (أم كلثوم) نموذجًا فريدًا للفنانة التي جمعت بين الإبداع والرسالة، بين الوطنية والتأثير العابر للحدود، واليوم، تأتي ذكراها لتؤكد أن الفن الأصيل لا يموت، وأن الأصوات التي تحمل قضايا أوطانها تبقى خالدة.
إن إعادة إحياء ذكرى (أم كلثوم) بهذه الطريقة لم تكن مجرد احتفال، بل كانت خطوة جادة نحو إعادة بناء الهوية الإعلامية المصرية، واستعادة الدور الريادي لماسبيرو في صناعة الوعي والثقافة.
فكما كان صوت (أم كلثوم) يجمع العرب ويوحدهم، يمكن للإعلام المصري أن يكون مرة أخرى القوة الناعمة التي تصل إلى قلوب الجماهير، حاملةً معها صوت الحقيقة والجمال.
إن الاحتفال بمرور خمسين عامًا على رحيل (أم كلثوم) في ظل هذه العودة لماسبيرو يعكس رؤية جديدة للإعلام المصري، رؤية تقوم على استعادة الأصالة والانطلاق نحو المستقبل في آنٍ واحد.
فلم يكن ماسبيرو مجرد مبنى، بل كان رمزًا للهوية الثقافية والوطنية، وشاهدًا على محطات هامة في تاريخ الإعلام المصري والعربي. واليوم، تعود الأضواء إليه، لتعيد إليه بريقه، مستندةً إلى إرثه العريق، ومستعدةً لمواكبة العصر بكل تحدياته.
كل الشكر لمعالي الوزير (أحمد المسلماني)، الذي أحسن استثمار هذه الذكرى، ليس فقط للاحتفاء بأم كلثوم، بل أيضًا لإعادة ماسبيرو إلى الواجهة، ليظل صوت مصر حاضرًا ومؤثرًا، ويعيد للإعلام المصري مكانته المستحقة في العالم العربي.
إنها ليست مجرد عودة للاحتفاء بالماضي، بل انطلاقة نحو مستقبل يليق بتاريخ مصر الفني والإعلامي، مستقبل يعيد للأصوات الصادقة تأثيرها، وللمؤسسات العريقة دورها، وللفن الأصيل مكانته التي لا يجب أن تغيب.
* رئيس الشعبة العامة للاذاعيين العرب – رئيس الشبكة الثقافية بالإذاعة المصريه الاسبق