رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

المتمرد و العصفوره (5).. (علي إسماعيل).. أحاسيس وطن

شاركه في السقوط على منحدر الإحباط (صلاح جاهين)

بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد

داهمت (علي إسماعيل) الأزمة القلبية الأولى خلال فترة اكتئابه وإيداعه المصحة النفسية بعد صدمة هزيمة 67 .. قبلها كان يلحن الأغانى الوطنية الملتهبة بالحماسة و هو يصدق كل حرف و نغمة فيها.. مؤمنا بقرب تحقيق الحلم.. شاحنا موسيقاه و ألحانه بيقين الأمل و الشعور بالكرامة فتتلقفها نفوس المصريين.

شاركه في السقوط على منحدر الإحباط (صلاح جاهين) والذي لازمته بعد ذلك حالة الاكتئاب حتى مماته، والذى برغم غزارة كتابته لهذه الأغانى الملتهبة حماسة قبل هزيمة 67  فانه بعدها كان مستعدا إذا ما طلبت منه كتابة أغنية وطنية أن ينهال عليك ضربا في هياج أو على الأقل أن يقطع علاقته بك إلى الأبد.

بدأت رحلة (علي إسماعيل) مع الأغانى الوطنيه على أثر احساسه بالخيانة الدولية للعدوان الثلاثى عام 56 .. لينقل غضبه الى موسيقى مشتعلة صبها في كلمات الشاعر كمال عبد الحليم:

(دع سمائى فسمائى محرقة

دع قنالى فمياهى مغرقة

واحذر الأرض فأرضى صاعقة

هذه أرضى أنا

وأبى ضحى هنا

و أبى قال لنا

مزقوا أعدائنا)

فور انتهائه من اللحن اتصل بزميلته السابقة في معهد الموسيقى (فايدة كامل) لتعبر بصوتها النسائي القوي عن شخصية مصر.. رغم الحشد العسكري والدبابات المتزاحمة على كوبري قصر النيل انطلقت (فايدة كامل) في سيارة أخيها وبصحبته لتصل إلى الإذاعة ليجدا (على إسماعيل) في الاستوديو في انتظارها منهمكا في إنهاء ترتيبات التسجيل لتنطلق الأغنية لهيبا فنيا.

فيتلقفها الفدائيين في بورسعيد نشيدا لهم يدورون به في الشوارع والبيوت.. صادحا من مكبرات صوت تعلو السيارات لترفع من الروح المعنوية للفدائين فتزيد من بأس مقاومتهم وينضم اليهم المزيد من أفواج الأهالى.. أدركت القيادات الإنجليزية ما لهذا النشيد من أثر فأمرت طائرة انجليزية بالطواف في سماء المدينة بشكل مستمر لتقصف مباشرة أي سيارة تحمل مكبرا لصوت ينشد (دع سمائى).

عبد الحليم حافظ

حكاية شعب

عام 1960 وزع (علي إسماعيل) موسيقى أغنية (حكاية شعب) التي لحنها الصديق الأقرب له منذ زمالة معهد الموسيقى (كمال الطويل) ليغنيها زميل المعهد أيضا (عبد الحليم حافظ)..

قاد (علي إسماعيل) في الحفل  فرقة موسيقية ضخمة وكورسا هائلا من الرجال والنساء والأطفال. .موليا ظهره للجمهور والكاميرات.. مستغرقا في مخاض العمل دون بحث عن مكافأة من مجد أو مدح..

كانت الأغنية نادرة في لونها.. تقوم على بناء مسرحى ضخم يتناوب فيه (عبد الحليم) الحوار مع الكورس وجماهير الصالة المتفاعلة وبقية الشعب أمام الشاشات:

الكورس: قلنا هنبنى وأدى احنا بنينا السد العالي

عبد الحليم: اخوانى.. تسمحوا لى بكلمة؟

الكورس  الجمهور: هييه

عبد الحليم: الحكاية مش حكاية سد.. حكاية الكفاح اللي ورا السد.. حكايتنا إحنا.. تسمعوا الحكايه؟

الكورس: بس قولها من البداية

عبد الحليم: هيّ حكاية حرب ونار بينا وبين الاستعمار

انبهر (محمد عبد الوهاب) بالتوزيع الموسيقى لـ (حكاية شعب) فيستدعى على الفور (علي إسماعيل) ليقوم بتوزيع موسيقى (أوبريت الوطن الأكبر)، يشارك فيه عبد الحليم وشادية وصباح ونجاح وورده وفايدة كامل ليصبح امتدادا للنجاح..

في عيد الثورة يوليو 1964 والتي أقيمت له حفلة ضخمة بنادي الضباط حضرها (عبد الناصر) ومجلس الثورة، غنى عبد الحليم وخلفه فريق أوركسترالي ضخم يقوده (علي إسماعيل) في أغنية: (ريسنا قال لنا.. ثورتنا ملكنا).. أعجب (عبد الناصر) بفن (علي إسماعيل) وطالبه بوضع لمساته على توزيع الأغانى الوطنية.

عبد الرحمن الأبنودي

بحلف بسماها و بترابها

بعد خروجه من المصحة النفسية على أثر صدمة هزيمة 67 واستعادته بعضا من توازنه مع كلمات (عبد الرحمن الأبنودي) له بأنهم كفنانين لم يهزموا وإنما من هزم هي القوات العسكرية.

وأن عليهم كفنانين أن يلهموا الشعب وأن يستعيدوا الروح من حالة الاحتضار.. كتب (الأبنودي) في فترة حرب الاستنزاف 24 أغنية لكمال الطويل ووزع موسيقاها (علي إسماعيل) منها:

أغنية عبد الحليم: (ابنك يقول لك يا بطل هات لى نهار.. ابنك يقول لك يا بطل هات لي انتصار).

وأغنية (باحلف بسماها وبترابها.. أحلف بدروبها وأبوابها.. أحلف بالقمح وبالمصنع.. بأولادى بأيامى الجاية.. ما تغيب الشمس العربية.. طول ما أنا عايش فوق الدنيا)..

وأغنية (بالدم هناخد تارنا.. بالدم نعود لديارنا)..

وكانت هذه الأغاني محاولات قوية لمسح بقع الظلام عن وجه الشمس ليعود الدفء إلى قلوب المصريين لتضخ في عروقهم دماء الحياة..

محمود درويش

الصوت الموسيقى لفلسطين

من أهم الأغانى الوطنية  التي وزعها (علي إسماعيل) كانت أغنية (المسيح) من تلحين (بليغ حمدي) والتي كتبها (الأبنودي) على لسان أحد أبناء فلسطين في موازاة بين مأساته و مأساة المسيح:

(يا كلمتى لفي و لفي الدنيا وعرضها

وفتحي عيون البشر للى حصل على أرضها)

وزعها (علي إسماعيل) بشكل أوبرالى ضخم ممزوج بالحزن العربي ..مما جعلها تحقق نجاحا هائلا عند عرضها في قاعة (ألبرت هول) بانجلترا.. وتم التبرع بكامل إيراداتها للمجهود الحربى.

طوال حرب الاستنزاف كانت وسيلة الشحن الأبرز للجنود على الجبهة وفي الخنادق هى أجهزة (الترانزيستور) التي يتم من خلالها بث الشحنات الحماسية الفنية البالغة الإحساس والحرفية، لتفتت في صدورهم صخور اليأس وترفع من روحهم المعنوية إلى الدرجة التي تعوض تفوق السلاح الإسرائيلي كما و كيفا.

غرست القضية الفلسطينية أشواكها في الكيان الفني لـ (علي إسماعيل).. وحينما تم عرض نص مسرحية (النار والزيتون) عليه لوضع موسيقاها التصويرية، وتلحين أشعار (محمود درويش) بها طلب (علي إسماعيل÷ أن يقوم بمعايشة الفلسطينيين في مخيماتهم.

بالفعل تمت معايشته لهم لأشهر عدة تشبع فيها هناك بأحزانهم وآلامهم وصمودهم وأحلامهم.. ليبث كل هذا المزيج من المشاعر في موسيقى المسرحية وأغنياتها، والتي أدتها المطربة الأوبرالية (سهير حشمت).

تخلل المسرحية نشيد (فدائي) والذى قررت منظمة التحرير الفلسطينية فور سماعه اتخاذه نشيدا وطنيا وشعارا موسيقيا للمنظمة تفتتح به كل اجتماعاتها.. و (نشيد فدائى) يختلف عن (أغنية فدائى) التي وزع موسيقاها أيضا (علي إسماعيل) للحن (بليغ حمدي).

وغناها عبد الحليم من كلمات محمد حمزه: (فدائى فدائى فدائى.. أهدى العروبة دمائي.. وأموت أعيش.. مايهمنيش.. و كفاية أشوف علم العروبة باقى).

ورغم كل هذه الأغانى النارية التي وضع لها (علي إسماعيل ألحانه أو توزيعه لألحان آخرين فقد انعكس اضطرابه النفسى على أثر صدمة الهزيمة باضطراب فنى عانى منه العديد من الفنانين في حلكة هذه الفترة البغيضة.

قد ظهر ذلك الاضطراب في تلحينه لبعض أغاني مثل (الطشت قال لى.. يا حلوة يا اللي.. قومى استحمي).. كما انعكس هذا الألم وتسرب اليأس من النصر والتخلص من الفساد الضارب في كل أنحاء المجتمع في الموسيقى التصويرية التي وضعها لفيلم (ثرثرة فوق النيل).

نبيلة قنديل

رايات النصر تخفق قبل الحرب

جاء موعد حرب أكتوبر مفاجئا.. استمعت (نبيله قنديل) في سيارتها للبيان الأول عن النصر لتسارع بالوصول الى المنزل وفتح التليفزيون لعلى إسماعيل فيقفز فرحا.. لم يكن الوقت كاف لترجمة فرحته الى عمل فنى.

لكنه من عام و بحدسه الفني الذى اشتم فيه رائحة النصر كان قد وضع اللحن لأغنية (رايات النصر) في فيلم (العصفور) ليوسف شاهين، ليطلب من زوجته (نبيلة قنديل) أن تضع كلمات الأغنية بحيث تصور جنودنا ذاهبين بالسلاح وعائدين بالنصر فكتبت:

(رايحين رايحين… شايلين في ايدنا سلاح

راجعين راجعين.. رافعين رايات النصر)

تم الانتهاء من تصوير الفيلم عام 1972 لكن تم منعه من العرض.. أسرع (علي إسماعيل) إلى (يوسف شاهين) يطلب نسخه من الأغنيه لينطلق بها إلى (وجدي الحكيم في الإذاعة وليكون هو أول نشيد يتم بثه معبرا عن نصر أكتوبر.. تهنئة فنية حماسية  للجنود على الجبهة على ما قاموا به محفزا لهم على المزيد.

بعدها لحن لشادية من كلمات (نبيلة قنديل) أغنية هى تعبير عن الفرحة بعد النصر واستعادة الأرض والكرامة والأخذ بالثأر:

(رايحه فين يا عروسة يا ام توب أخضر؟.. رايحه أجيب الورد وأجيب سكر

تعملي إيه يا عروسه بالسكر؟.. أعمل شربات ورد مكرر

وأصبه في دوارق فضة.. و بايدى أوزعه ع الحتة).

شريفة فاضل

أم البطل

في الحرب استشهد ابن الفنانة (شريفة فاضل) طيار (سيد سيد بدي).. كما أغتيل بعده بسنوات أخرى ابنها الثانى العالم النووي (سعيد السيد بدير).. كانت شريفه فاضل ترتبط بصداقة قويه مع (نبيله قنديل) التي ذهبت لعزائها في بيتها.

ولاحظت أنها طوال العزاء تضرب على صدرها في رفق تكرر بصوت خفيض ذاهل: (ابني.. حبيبي.. يا نور عيني.. لتنفرد نبيله بنفسها في إحدى غرف منزل شريفة وتكتب الأغنية وتدفع بها بعد عودتها للمنزل إلى (علي إسماعيل) فيسهر في تلحينها طوال الليل.

وفي اليوم التالى يحجز في الإذاعة ستوديو لتسجيلها.. اتصل (علي إسماعيل) بشريفه فاضل لكنها سألته مستنكره (أغني إزاى؟)، لكنه أصر على أن تؤدى الأغنيه بكل ما يحمل صوتها من لوعة ودموع لتخرج برائعتها المعبرة عن حال كل أم شهيد بطل:

(ابنى .. حبيبى .. يا نور عينى .. بيضربوا بيك المثل

كل الحبايب بتهنينى .. طبعا ما أنا أم البطل).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.