بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة
ظني أن مسلسل (نقطة سودة) سيظل أسوأ ما قدمته الدراما العربية ليس في عام 2024 – 2025) بل في التاريخ العربي كله على مستوى الشكل والمضمون، فالمتابع للخمسين حلقة التي انتهت قبل أيام، لابد وأن لاحظ أسوأ قصة يمكن أن تنسف القيم العائلية في المجتمع المصري والعربي بصفة عامة، وتكسر جدار البيت العربي بصفة خاصة.
ربما استحسن البعض أداء غالبية فريق عمل مسلسل (نقطة سودة) وأنا معهم تماما، ولكن ماجدوى تجسيد الشر المطلق والتفسخ الأسري، وعلاقات الزنا والحقد المطلق الذي جعل مجمل أحداث المسلسل (نقطة سواء) في صلب الدراما العربية، التي على ما يبدو تجنح إلى تقليد الدراما الغربية والكورية في تقنية الشر والعنف.
الغموض والإثارة والتشويق التي جاءت في أحداث مسلسل (نقطة سودة) غرقت بنا في دهاليز شذوذ النفس البشرية بالخروج على المألوف من القيم والعادات والتقاليد التي تخاصم جوهر الدراما المصرية والعربية الحديثة، فلا مجتماعتنا بكل هذا التشوه النفسي، ولا التغيرات الطارئة على المجتمع العربي يمكن أن تصل بنا إلى هكذا حالة مزرية.
أحداث مسلسل (نقطة سودة) تدور حول عائلة (السيوفي) وأفرادها والعلاقات المضطربة بين أفرادها، وتتكون عائلة السيوفي في الأساس من (مختار السيوفي، أحمد بدير) الذي أسس شركة مع شقيقه الراحل (فريد)، ومختار متزوج من ناهد رشدي ولديهما ابن يدعى (علي/ أحمد مجدي).
وهو شاب يبدو مسالما، ولكنه غير مسئول، أما (فريد) فكان متزوجا من (سعاد/ وفاء عامر) ولديهما ابن يدعى (عمر/ أحمد فهمي) و(منال/ ناهد السباعي) وابنة ثالثة تدعى (صفا/ سماح السعيد)، وشهدت الأحداث أسوأ علاقات أسرية بين الأشقاء على صخرة القسوة والحقد الأعمي الذي يعكس التشوهات النفسية التي تعانيها تلك الشخصيات غير السوية.
المبالغة في الغموض
ويعتبر توجيه انتقاد (المبالغة في الغموض) كان أكثر الانتقادات التي تم توجيهها للعمل الذي يضم مجموعة كبيرة من النجوم في بطولته، حيث أن العمل منذ بدايته ويشهد قدرا كبيرا من الغموض الذي اعتبره البعض مبالغ به، وكان من الممكن موازنة حدته ليكون مقنعا وألا تحمل كل الحلقات كل هذا القدر من التشويق الذي يعتمد على اعتلال النفس البشرية.
ومن الانتقادات الأخرى للعمل أن كل شخصياته سامة وتكيد لبعضها البعض بالرغم من أنهم من عائلة واحدة ولا يوجد شخص واحد يكن لغيره الخير بصورة اعتبرها البعض (مبالغة) لا مبرر له على مستوى الحبكة الدرامية التي تعاني خللا واضحا يعكس ظلامية الشخصيات التي بالغت في الحقد والشر.
من أبرز ما يميز المسلسل هو الأداء المتميز من قبل الممثلين، وخاصة البطل (أحمد فهمي) الذي جسد الشخصية الرئيسية، فقد تمكن من تقديم شخصية مليئة بالعمق والطبقات النفسية المتعددة، مما جعلها من الشخصيات التي تترك أثراً طويلاً في ذاكرة المشاهدين، كما أن الممثلين في الأدوار الثانوية قدموا أيضا أداء رائعا، وكانوا جزءاً لا يتجزأ من نجاح العمل بحسب تصريحات فريق العمل.
يجمع المسلسل عددا كبيرا من النجوم أبرزهم (أحمد فهمي، أحمد مجدي، ناهد السباعي، سارة سلامة، وفاء عامر، أحمد بدير)، كما يشهد الظهور الأخير للفنان الراحل (أشرف عبد الغفور)، هو من تأليف الثلاثي (محمد السوري وأمين جمال ومينا بيبو)، تحت إشراف المخرج محمد أسامة ذو الرؤية الفنية الواضحة.
لابد وأن نعترف أن مسلسل (نقطة سودة) استطاع أن يقدم تجربة مرئية مثيرة للاهتمام، تم استخدام تقنيات تصوير مبتكرة تتناسب مع الطابع النفسي للدراما، مما أضفى بعدا إضافيا على الأحداث، التنقل بين الأماكن والأزمنة في القصة كان يتم بلي عنق الحقيقة، مما جعل التفاعل مع النص المشوه والشخصيات أكثر تأثيرا.
المسلسل تناول قضايا اجتماعية ونفسية مثل تأثير الصدمات النفسية على الفرد والعلاقات الإنسانية المكسورة، بالإضافة إلى التحديات التي يواجهها الأشخاص في التعامل مع ماضيهم.
ربما يحمل (نقطة سوداء) رسالة قوية حول أهمية مواجهة الذات وفهم الأسباب التي تؤدي إلى تشكل الأزمات النفسية، ويشجع على البحث عن حلول بدل الانغماس، لكن وقع في شرك التفسخ الأسري الذي لعبت عليه الدراما بطريقة فجة ومنفرة، على عكس ماجرى في أعمال سابقة لعبت على نفس الأوتار.
الدراما المصرية هزيلة
الحقيقة المرة التي يمكن أن نخلص إليها في مسلسل (نقطة سودة) أنه لم تزل الدراما المصرية هزيلة، على عكس الخليجية والسعودية تحديدا، ومنها (خريف القلب) الذي لم يعاني ذات الداء – رغم لعبه على علاقات الحقد بين أبناء الأسرة الواحدة – بل ارتقت لأن تصبح دراما منافسة على المستوى الإقليمي مقارنة بتركيا وإيران فضلا عن المستوى الدولي.
مشكلة الدراما المصرية كما جاء (نقطة سودة) أنها لا تحاكم وفق شروط الدراما التي تحدد النجاح والفشل، مشكلتها أن محاكمتها تأتي من معايير أخرى لا علاقة لها بالدراما الصحيحة، فمرة تحاكم دينيا وأخرى تحاكم سياسيا، وثالثة تحاكم اجتماعيا.
والذي يبدو أن كل هذه المحاكم الثلاث لا تريد أن تعترف بمكانة الدراما وحقها في فرض شروط عقلانية ينبغي أن تحاكم إليها، فالكل يعتقد أن أحكامه على الدراما لها الأحقية في التقدم والتأثير، بغض النظر عن سلامة رسالتها وأهدافها.
صحيح أن النقد داخل شروط الدراما يهدف إلى تعرية خطأ هنا، وتقصير هناك، بغض النظر عن حجم هذا الخطأ أو ذلك التقصير، المهم هو إظهاره وإبرازه وإيصاله للمشاهد ضمن الإطار الدرامي الذي اختاره صناع (نقطة سودة)، والمسألة شديدة الجلاء والوضوح داخل شروط الدراما.
ولكنها في (نقطة سودة) تصطدم بشروط ومعايير أخرى بحيث يصبح الأمر شائكا، ويتفنن صناع المسلسل في تحميل هذا النقد الدرامي كل المعاني السيئة والمشينة، وينتقلون بطرفة عين من الدراما المرئية إلى النوايا الخفية!
ما ينساه هكذا نقد، هو أن مجتمعا ضخما كالمجتمع المصري السعودي والخليجي يقارب مجموع سكانه أكثر من 430 مليون نسمة، فيه كل أصناف البشر من مفكر متميز إلى سياسي بارع إلى مدير ناجح، وفيه أضدادهم فاشلون وأغبياء وحمقى، وأصناف لا يطيق تنوعها واختلافها الحصر، ولا يستطيع أحد ضبط أنواعها وأشكالها.
الدراما في (نقطة سودة) حاولت دائما البحث عن المختلف والمغاير لا عن العادي والروتيني، وبمعنى آخر عن المثير للاهتمام إيجابيا كان أم سلبيا، لأن هذا ضمن شروط الدراما بحسب خيال كتاب الدراما الواهي، هو ما يجذب المشاهد ويضمن نجاح العمل.
يزيدون الواقع تعقيدا
حاول مسلسل (نقطة سودة) أن يحكي الواقع على جناح المبالغة – كما تقتضي الدراما – حينا، ويزيدون الواقع تعقيدا أكثر مما هو عليه لإيصال فكرتهم والوصول للمشاهدين.
في هوليوود نجد مئات الأفلام التي تمتلئ بالعنف والقتل وشتى الجرائم البشعة والمثيرة للاشمئزاز، فهل هذا يحكي واقع أميركا فعلا؟ بالتأكيد لا، ولكن لغة الدراما ومنطقها مختلف تماماً، وفي بوليوود نجد أنواع المبالغات والفانتازيا التي تجعل بعض الشعوب تسخر بها، ومنها دولنا العربية.
فحين نسمع قصة أو حدثاً مبالغاً فيه نصفه بـ (الفيلم الهندي)، وننسى أن معنى هذا هو أننا نشاهد الفيلم الهندي ونعرفه جيدا، وهذا بحد ذاته نجاح للدراما الهندية، ولكن هذا سر بعيدا تكماما عن ناقدي الدراما لدينا.
ياسادة: نحن بحاجة في بلداننا العربية لمزيد وعي بقيمة الدراما كفن راق ومستقل وذي معايير خاصة، وبحاجة أكثر إلى الوعي بأننا حين نريد صناعة دراما مؤثرة وفاعلة في العالم فعلينا وفقا لشروطها أن ندعمها بقدر ما نستطيع من العقل والمنطق الذي يراعي خصوصية مجتمنا العربي.
وأن نمنحها من الحرية المسئولة والمساحة على قدر ما نطيق، حتى تصل أعمالنا الدرامية للدول الإقليمية أولا وللعالم بأسره لاحقا، فبدلا من أن ندبلج مسلسلات إقليمية – أو نعربها – سيصبح للدراما العربية مجال أن تدبلج وتترجم للغات أخرى، ولنا في الدراما التركية المثل والقدوة.
ومن هنا نصبح مرسلين مؤثرين لا مجرد متلقين على مستوى الدراما، وهذا أمر يحتاج منا لفهم واقع الدراما وشروطها وتهيئة كل الظروف التي تساعدها على الإبداع والتطور.
إن تكلفة صناعة الدراما في العالم تقدر بالمليارات، وجمهورها الراغب والمتطلب لها يزداد كل يوم، ويرتفع كل ليلة، وبالتالي فمداخيلها تقدر بالمليارات كذلك، لكن يبقى الأهم تأثيرها الذي يسلب العقول ويمتلك القلوب، ويتحكم في الموقف من كثير من القرارات السياسية والأحداث التاريخية والحركات الاجتماعية.
مشكلة الدراما لدينا هى أن البعض يعتبرها تسلية فحسب، وتمضية للوقت لا أكثر، ويغفل عن قوة الدراما في التأثير على البشر والمجتمعات والدول، وأنها حين تخلص لمعاييرها وشروطها وفنها وإبداعها تصبح قادرة على إيصال الكثير من الرسائل النافعة والتأثير الجميل.
اختراق للخطوط الحمراء
مشاكل الدراما لدينا كثيرة ومتعددة، فالبعض يرى أن مجرد تناول موضوع ما – يستحق دراميا التناول – هو اختراق للخطوط الحمراء، والبعض يرى أن النقد الذي يمر عبر الدراما لا يعدو أن يكون تشويها متعمدا، والبعض يرى أن الدراما بحدّ ذاتها هي لهو ولعب وليس لها أي دورٍ ولا تأثير.
وبين هذه الاتهامات الثلاث تظل الدراما لدينا – مهما عانى القائمون عليها- مجرد تسلية وتمضية للوقت لا أقل ولا أكثر، وإن بقي الحال على ما هو عليه اليوم فسنظل في قعر القياس العالمي للدراما، متلقين ومتأثرين، لا فاعلين ومؤثرين.
لست أقصد مما سبق على الإطلاق التغطية على فشل القائمين على الدراما لدينا، الفشل الذي لا يحتاج لكثير تدليل، فهو مشاهد وملموس، ولكن السؤال المهم هو لماذا؟: ىلماذا هذا الفشل الدرامي لدينا؟
إن الجواب على هذا السؤال يتضمن عدة أسباب منها الكبير ومنها الصغير، فمثلاً نحن لم نهيئ بيئة صالحة لصناعة الدراما، فلا بنية تحتية لها، ولا استثمار حقيقي فيها، ولا اعتراف بأهميتها ودورها، مع ملاحظة مهمة هي أن أغلبنا يقضي الساعات في مشاهدة دراما غيرنا!
وبقية الجواب تكمن في القائمين على الدراما نفسها، فنحن بحاجة لصناعة كتاب دراميين متميزين، ولكننا لا نريد إعطاءهم حقهم لأجل التفرغ والجهد الذي يبذلون، فخسرنا كتاب الدراما لشحنا، ونحن ليست لدينا معاهد وكليات تخرج ممثلين مبدعين سوى من اجتهدوا بأنفسهم، فخسرنا اكتشاف الممثلين المميزين.
إصلاح المجتمع وليس هدمه
ونحن نستورد المخرجين لكل عمل لا نسعى لاستثماره في المخرجين المحليين الذين هم أدرى ببيئتنا وتفاصيلنا فخسرنا المخرجين، ونحن نبحث دائما عن الأسرع والأرخص، لأننا لا نملك نفسا طويلا في صناعة الدراما، فخسرنا طبخ الدراما على نار هادئة.. دراما جادة تسعى لإصلاح المجتمع وليس هدمه كما جاء (نقطة سودة).
وأخيرا: إذا كانت الدراما مع انتشار التليفزيون أصبحت ظاهرة ملفتة، فيجب أن ندرك أنها تعيد كتابة التاريخ الاجتماعي والثقافي والفني بشكل واضح في ظل تنامي دورها، ومدى تأثيرها في الأجيال الحالية.
والذي ينبع من أهميتها كمنتج إعلامي يعنى برصد الأحداث وتطوراتها وانعاكساتها على مجمل الحياة العربية العصرية، ومن ثم أصبحت الدراما كمعادل بصري وثيقة تاريخية ومستندا بصريا للتاريخ بتقلباته.
والسؤال: هل يعي صناع الدراما المصرية والعربية أنه بات لمفهوم الدراما دور محوري في حياتنا المعاصرة وسياقاتها الثقافية المجتمعية، حيث يعتبرها أغلب علماء علم الاجتماع المعرفي (ظاهرة من ظواهر التاريخ الأدبي، ووثيقة من وثائق التاريخ الإنساني).
وفي هذه المناسبة يقول أرسطو في كتاب الشعر: (إن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت، ولكن الدراما تكتب الأحداث كما كان ينبغي أن تقع)، ومنذ ذلك الوقت لم يتوقف البحث في العلاقة بين التاريخ والدراما، حتى أصبح المؤرخون وكتاب الدراما، لا يرون فروقا تذكر بينهما الآن.
ومن ثم لابد أن تسعى الدراما المصرية والعربية لتجميل الواقع وليس تشويهه على النحو المشين الذي يخرج أسوأ في أنفسنا.