رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(البودكاست).. ظاهرة سلبية تجتاح المنصات الرقمية العربية

سهولة صناعة (البودكاست) جعل الكثيرين ينظرون إليه باعتباره صناعة محتوى جيد

بقلم الكاتب الصحفي: محمد حبوشة

انتشرت في الآونة الأخيرة برامج (البودكاست) بصورة كبيرة، ومع اختلاف المحتوى الذي تقدمه ومجالاتها المتعددة، باتت تشكل ظاهرة لافتة أراها سلبية تخلو من أية شإيجابيات كما ينظر البعض لها، ولقد اندهسشت حقا من إطلاق (الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية) 17 (بودكاست) في إطار ما تدعيه من تطوير المحتوى الرقمي.

ظني أن شيوع (البودكاست) في العالم العربي، وانتشاره بإفراط أخيرا، جعلاه موضع ابتذال، بحيث يسعى كل من هب ودب بصناعة (بودكست) خاص بهربما يرجع ذلك إلى  أن إنجاز (البودكاست) عملية بسيطة، لا تتطلب تعقيدات المونتاج، وغرف التصوير، ورؤية إخراجية وما إلى ذلك، إضافة إلى سهولة تحميل الملف السمعي الذي لا يتجاوز حجمه 100 ميغابايت بحال كان في أفضل جودة.

سهولة صناعة (البودكاست) جعل الكثيرين ينظرون إليه باعتباره صناعة محتوى يتيح لهم فرصة التعبير عن أفكارهم وعن وجهة نظرهم، وأن يدر عليهم ربحا ماديا في المقابل، مع أن كل من يقدمونه عبارة سذج يطلق عليهم مؤثرين، ولست أدري في أي مجال هم مؤثرين بتلك التفاهات التي يتشدقون بها في فضاء يتسم بالفوضى وعدم المسئولية.

وبما أن غالبية المستهلكين العرب الذين سيصيرون فيما بعد منتجي محتوى، لا يملكون أموالا كافية لاقتناء ستوديو على قدر عال من التجهيز، يسمح لهم بتسجيل محتوى مرئي جيد، صار (البودكاست) باعتباره عاملا سهلا، البديل الذي سيقدم لهم ما يطلبونه.
على المستوى السيكولوجي، يغازل البودكاست غريزة تعليمية بدائية عند الإنسان الأمر الذي سمح بتفشيه السريع، نتحدث عن فكرة التلقين، والتعلم عبر السمع والاستماع، ومن ناحية أخرى، فقد حضر (البودكاست) كوسيلة للتسلية.

إذ جاء كثرثرة محض أحيانا، لكن في الحالتين كان البودكاست أشبه بقصة تنتقل وتتناقل شفهياً، لقد نشأ الإنسان وترعرع على سماع القصة، بدأ يسمعها قبل أن يراها في الكتب المصورة ثم في المسارح والسينما.

لذلك، يحث (البودكاست) في داخلنا حنينا نوستالجيا إلى زمن نظنه أصيلا، يتجسد بعالم الراديو الذي يذكرنا بمنزل الجد والجدة.. الراديو التي ظلت مكانتها راسخة رغم تطور المعدات الإلكترونية بفضل التكنولوجيا، ودائماً ما يتذكر الإنسان أجداده حين ينظر إلى الراديو.

على تخوم الكوارث والمصائب، تولد ظواهر وتنشأ، و(البودكاست) كان إحداها

في زمن الحجر المنزلي

على تخوم الكوارث والمصائب، تولد ظواهر وتنشأ، و(البودكاست) كان إحداها.. حين اجتاحتنا الكورونا، تعرضنا في الوقت عينه لغزو (البودكاست)، فقد جاء البودكاست في زمن الحجر المنزلي، وشهد حينها ارتفاعا مهولا في عملية إنتاجه.

بما أن الالتقاء بالأشخاص ومسامرتهم عن بعد كان الحل الوحيد في ذلك الوقت للاتصال والتواصل، فقد قدم البودكاست هذه العلاقة، كما أن ميزات عدة يمتاز بها جعلته يتفوق على كلا التلفزيون والراديو.

ذلك أنه يتيح للمستمع أن يختار الموضوع الذي يريد الاستماع إليه، إضافة إلى عدم اشتراطه الإنترنت لتشغيله عبر خدمة التحميل المسبق.. بفضل تلك الخصائص والمزايا، انتشر (البودكاست) مثل الجائحة، وبات وسيطا سمعيا محببا، يستهلك أثناء قيادة السيارة، أو المشي، أو قبل النوم، أو بعد النوم أي لحظة الاستيقاظ، صار بمعنى ما، رفيقً.

في موقع (البودكاست العربي)، وهو الموقع الإحصائي شبه الرسمي لعدد البودكاست العربي، نجد عبر الرسم البياني أن المرة الأولى التي برز فيها (البودكاست) العربي كان عام 2007 واحتوى آنذاك على ثلاثة برامج فقط.

بقي البودكاست حتى عام 2016 خجولاً، وبرامجه طفيفة، إذ وصل عددها إلى 36 برنامجاً فقط، إنتاج البودكاست شهد تحسنا منذ عام 2018، حتى بلغ السهم البياني ذروته بشكل أشبه بالانفجار عام 2020 أي في زمن كورونا.

منذ عام 2020 والبودكاست العربي بحالة تزايد، حيث ينشط 458 بودكاست بينما توقف 1072، يسجل الموقع أيضاً ما يقرب من 70 ألف حلقة بودكاست، وهذا خير تعبير عن زيادة ثقافة البودكاست في الوطن العربي في السنوات الأخيرة، علماً أن هناك بعض البرامج غير المسجلة على الموقع.

يحظى (البودكاست) القائم على المواضيع الاجتماعية أو على الحوار بأعلى نسبة استماع مع فارق بسيط يفصله عن (البودكاست) من النوع (التعليمي الثقافي)، وهذا هو جوهر ما يصبو إليه (البودكاست) العربي، وهو في الآن عينه النقد الذي يوجه إليه.

الظاهرة السلبية هنا: أنه أصبح (البودكاست) فسحة لثرثرة غير مفيدة، رغم ما يمكن أن يوفره من فرص ثقافية وتعليمية خفيفة ومدخلية، نلحظ هيمنة (البودكاست) في الخليج العربي، في دولتي الإمارات والسعودية تحديدا، وربما يرجع ذلك إلى فلسفة خدمة أهداف الدولة. 

عبارة عن برامج (حكي)

ومن ملاحظاتي الدقيقة لظاهرة (البودكاست)، لم يخرج البودكاست العربي من تهمة (النخبوية) إلا بتنوع مواضيعه، والأهم جاء بخروج مواضيعه عن الثقافة والأجواء الثقافية، حتى أصبحت غالبية (البودكاست) العربي عبارة عن برامج (حكي).

هناك الكثير من البرامج العربية التي تقوم على فكرة استضافة المذيع شخصا للحديث معه عن حياته وعن مجال عمله، هذا النوع من المحتوى، أي (الحكي) من أجل الثرثرة، يساعد صاحب (البودكاست)، إذ إنه يحرره من مهام الإعداد التحريرية للحلقة.

والبودكاست في تلك الحالة، يراهن على قدرة الضيف في السطو على اهتمام المستمع، يحدث ذلك عبر الحديث عن تجربته، وفلسفته في الحياة حتى لو كانت فلسفته فارغة وتجربته جوفاء، لكن كون امتلاك الضيف منبرا يستقبله ويعطيه الفرصة للكلام، فذلك باعتقاده يخوله إسداء النصائح وتقديم الإرشادات.

هناك آفة كبيرة تصيب (البودكاست العربي)، وواقع وجود هذه الآفة، يخرج ربما عن إرادة القيمين على (البودكاست) داخل الوطن العربي، فتنسب هذه الآفة إلى المنتج.

حال (البودكاست) العربي كحال الكلمة الحرة والصوت الحر، المقموعين سواء في السينما أو الأدب أو البحث العلمي.. الآفة تبدأ بالانعطاف الذي أصاب البودكاست ومساره.

بينما كان هدف (البودكاست) خلق إعلام بديل، وتعددية في الآراء والأصوات، إلا أن السياسة لا تزال تشكل (بعبعا) لمقدمي البودكاست.

في الخليج مثلا، يستخدم (البودكاست) للترويج لسياسة الدولة، ولتسويق توجهاتها، في السعودية مثلا نجد أن بودكاست (فنجان) التابع لمنصة (ثمانية) مصبوب على (التحديث) الذي يشغل تلك الدولة، ومواضيع (ثمانية) مطروحة وفقا لوجهة نظر الأمير محمد بن سلمان.

خلال الفترة الماضية كثر الحديث عن (البودكاست) في شبكات التواصل الاجتماعي، ودوره في تكوين رأي عام محدود في الشبكات الرقمية، ورصد حديث متكرر في المجتمعات بأن البودكاست بديلا للإذاعة.

هناك اختلافا كبيرا بين البودكاست (إذاعة تحت الطلب) والإذاعة من حيث خصوصية المحتوى

جمهور الإذاعة تحت الطلب

رغم يقين كثير من الأشخاص أن هناك اختلافا كبيرا بين البودكاست (إذاعة تحت الطلب) والإذاعة من حيث خصوصية المحتوى؛ فمثلا (البودكاست) متخصص بموضوع معين ويناقش ظاهرة أو قضية محددة، فيما الإذاعة هي محتوى متنوّع من البرامج.

وكذلك من حيث جمهور الإذاعتين مختلف أو جزء من الآخر كتوصيف أكثر دقة، وذلك أن جمهور (البودكاست) هو جزء من الجمهور الكلي للإذاعة الحالية، لكن هل يمكن أن يكون جمهور الإذاعة تحت الطلب رأيا عاما في شبكات التواصل الاجتماعي؟

ربما ما يميز البودكاست عن الإذاعة هو سهولة إنتاجه، فلا يتطلب ستوديو أو تحضيرات مكلفة من حيث الإعداد والتنسيق والإنتاج، وكذلك غير مرتبط (البودكاست) بجمهور محلي؛ لعدم ارتباطه بموجة إذاعية معينة.

لكن بإمكان (البودكاست) أن يصل لجميع مستخدمي التقنيات الحديثة حول العالم، ما يتوجّس منه البعض أن يكون البودكاست وسيلة لتمرير معلومات خاطئة أو غير صحيحة مما يتسبب في تأجيج الرأي العام وإثارته سلبا، أو يتم استخدامه للإساءة لشخصيات معينة أو التقزيم من حجم الجهود الوطنية.

لذلك أرى أنه ينبغي فرض شروط محددة للحصول على ترخيص لإجراء (البودكاست) ورصد ما يتضمنه من معلومات وأطروحات ونقاشات للتعامل معها لحظيا في حال عدم دقتها حتى لا تنتشر بين الجمهور وتكون رأيا عاما مبنيا على معلومات مضللة أو غير دقيقة.

وكون أن الرأي العام – يعبر عن اتجاهات الناس إزاء قضية ما في المجتمع المحلي – وهو مجموعة من الآراء الفردية مستندا إلى جمهور معين حسب اتجاهاته وتوجهاته وميوله تجاه الجدل المثار عن موضوع معين.

كل ما أرجوه هو الانتباه لما يطرح ويناقش من موضوعات وقضايا في (البودكاست)؛ لضمان عدم تأجيج الرأي العام الإلكتروني أو الرقمي بسبب دغدغة عواطف الناس ومشاعرهم تجاه بعض الأحداث التي ما تزال تفاصيلها غير واضحة للجمهور.

لأن (البودكاست) يركز على الأحاديث والأطروحات وليس على الأشخاص، لكنه في الآونة الأخيرة بدأ في التراجع في ظل تنامي شبكات التواصل الاجتماعي وتنوعها، وهذا يمثل تهديدا للبودكاست في عمل استمراره أو تأثيره على الرأي العام رغم عدم حداثة ظهوره.

أصبح ضروريا الآن الحد من ظاهرة (البوكاست)، فقط يمكن توظيف فوائده في العملية التعليمية

الحد من ظاهرة (البوكاست)

أصبح ضروريا الآن الحد من ظاهرة (البوكاست)، فقط يمكن توظيف فوائده في العملية التعليمية مثلا عبر توفير أسلوب مفيد وشائق ومبسط لاكتساب المعلومات الجديدة دون الحاجة إلى التقيّد بجدول زمني محدد، وكذلك يتيح للمتعلمين استكشاف موضوعات جديدة تسهم في توسيع آفاقهم المعرفية.

أو تكوين مجتمعات ذات اهتمامات مشتركة يشجعها على التفاعل مع موضوعات محدّدة، لذلك من الضروري الاستفادة من الفرص التي يوفرها البودكاست مع عدم الإغفال عن دوره في تحريك الرأي العام الرقمي على أقل تقدير وإن كان في غالبية الأحيان يكون اتجاه عام ذات بعد إنساني وعاطفي بهدف جذب المستمعين ومشاعرهم.

وفي النهاية لابد من تحرك فوري من جانب (المجلس الأعلى للإعلام) في مصر، وجهات الإعلام العربي الأخرى، لتنظيم فوضى (البودكاست) بعد أن انحرف عن مساره الطبيعي في جعله (إعلاما بديلا) أو على الأقل مفيدا بعيدا عن الثرثرة التي لاتجدي سوى مزيد من التفاهة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.