بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
لم تكن التغيرات المرعبة على شخصية (حلمي شرشر) تنال منه وحده.. فمن قبله كان (عباس المغربي) التي انتهت به انهيارات جبال الإرادة بداخله الى سفح الجنون.. بعد أن وشى به أحد أعضاء منظمة الشباب بعد أن زج به الى السجن للتخلص من ديون كانت عله للمغربى ..
وقد غاب مصيره الذى حاولت تقفيه في مستشفى المجانين بعد خروجى من المعتقل دون أن أعثر له على اثر .. كذلك تابعت نهاية (حلمي شرشر) الذى دفعت به وشاية احد المتسلقين من الأرياف في منظمة الشباب..
أيضا بعد ان رفض (حلمي شرشر) دفع ثلاثه تعريفه بدلا من قرش في المترو في اسكندريه ليتم الزج به هو الآخر الى المعتقل و هو مدرس كرمه الوزير بحصوله على المعلم المثالى ..
وقد عصفت الحياة في المعتقل بعقله تدريجيا فبدأ في العيش مع هلوسات بأنه كان صديقا لعبد الناصر و فوجئنا يوما رغم انه مدرس انه بدا في تعليم نفسه القراءة من جديد وهو يمسك بكتاب و كأنه يذاكر فيه مرددا طول الوقت (شرشر نط.. أكل البط.. فلفل قال.. عال العال )..
مستمرا على ترديده هذه العبارة طوال النهار.. حتى في الليل كنت أدخل عنبر النشاط المعادى فأجد (حلمي شرشر) ينام بعكس اتجاه النائمين .. مسندا قدميه الحافيتين على الحائط الخرساني..
بينما يداه متشبثتان بالكتاب المنكفئ على صدره وقد غلبه النعاس أثناء ترديده (شرشر نط.. أكل البط.. فلفل قال.. عال العال).. كان أثناء نومه يرتفع شخيره عاليا ليتداخل مع شخير بقية النائمين لترتفع في العنبر سيمفونية تذكرنى بسيمفونية (بيتهوفن) السابعة التي وضعها وهو أصم..
أتامل شعر (حلمي شرشر)
أتامل شعر (حلمي شرشر) وقد اصبح أشعثا وذقنه كغابة من صبار.. حزنت وأنا أتذكر هيئته المنمقة عند وصوله إلى هنا.. محملا بجاتوهات عيد ميلاده حيث كانت خطيبته تنتظره مع أسرته للاحتفال سويا ..
على صفارات الحراس في السادسة صباحا يصحو (حلمي شرشر).. هيّ الساعة التي يفتح فيها الباب الرئيسى الذى يفصل العنابر عن الساحة الكبيرة.. كنت أسارع في هذه اللحظة بتوصيل السلك الخاص بالراديو الموجود في الممر بين العنابر فتتوالى علينا نشرات الأخبار تحيط عبد الناصر بهالة الزعامة العربية.
بينما تتابع الأغانى بالتمجيد بصوت (عبد الحليم) وخلفه كلمات (الأبنودي و صلاح جاهين) ..
حينما يستيقظ (حلمي شرشر) يبدأ بخلط كميات هائلة من العسل الأسود مع الجبن القديمة ويلف الخليط في عدة أرغفة بائتة ليلتهم هذه القنبلة المحشوة فيظل يطلق مخلفاتها متتالية طوال الليل أثناء نومه.. كنت أحتاج إلى قناع الحرب الكيميائية للاقتراب من منطقة نومه ..
كان صياحه في البداية بـ (فلفل نط.. أكل البط) تصيبنا بنوبة ضحك.. ضحك من النوع الذى نخادع به أنفسنا أن ما نراه يدعو بالفعل للضحك لا للبكاء.. لكننا في النهاية استسلمنا لحقيقة مشاعرنا حقيقية مانرى حلمى عليه من تداع..
فأصبحنا نتابعه في وجوم.. و نتحسس رؤوسنا كأننا نطمئن على الأرصدة المتبقية لعقولنا.. حتى النزلاء الجدد كانوا يجدون في (حلمي شرشر) وصياحه تسرية في البداية.. وبمجرد سماعهم لقصته كانوا يشاركوننا الوجوم.. ثم تنهمر دموع الخوف من المصير القادم..
بينما كنت أنا مشغولا بسؤال داخلى لماذا اختار (حلمى شرشر) هذه العبارة؟.. و لماذا شرشر أكل البط بالذات؟.. و لماذا فلفل قال.. عال العال ؟
رغم برد الشتاء القارس الذى كان نوعا إضافيا من العقاب ووسائل التعذيب لاحظت أن (حلمي شرشر) يظل فقط ببنطلون المعتقل يعلوه فانلة داخلية خفيفة متهدلة تظهر أكثر مما تخفى..
بعد فترة لم يعد (حلمي شرشر) يرتدى البنطلون وإنما يتحرك فقط بالملابس الداخلية المتربة.. أيام أخرى ونحن نرتعد في أركان العنبر من البرد نرى (حلمي شرشر) بالسروال فقط و قد نض عنه الفانلة الداخلية.. بل وتخلص منها فلم نعثر لها على أثر لنعيدها عليه..
لم يمض أسبوع آخر حتى كان (حلمي شرشر) يسير عاريا تماما في أرجاء المعتقل.. صائحا بنطة شرشر عند البط وإعجاب فلفل بالموضوع لينضم إلى عشرات الحالات الغريبة التي تعودنا على زيادتها كل يوم داخل معتقل طره السياسى..
تشخيص لحالة (حلمي شرشر)
سألت أحد أطباء النفس المعتقلين معنا عن تشخيصه لحالة (حلمي شرشر) والعلاج.. بأستاذية فرويد و بكلمات ممزوجة بالمصطلحات العلمية الفوقية، أكد الدكتور أن مشكلة (حلمي شرشر) تكمن في الكتاب الذى لا يفارقه.. ولو أن هذا الكتاب اختفى فسيلازم (حلمي) البرش الذى ينام عليه ويستعيد بعضا من سلامه الداخلى..
تطوعت لتنفيذ توصيات الدكتور ودسست لحلمى بعضا من الحبوب المهدئة في زمزمية المياه التي يشرب منها لينام بالفعل عميقا وهو على عريه التام، واستطعت في النهاية سحب الكتاب من بين يديه و إخفائه..
في الصباح التالى استيقظنا على هياج (حلمي شرشر) صارخا يسأل عن الكتاب.. تطور هياجه بأن ظل يقذف بالأقفاص المتكومة عند نهاية كل برش على وجه النائمين ليفزع كل منهم فيسأله عن الكتاب..
ظل (حلمي شرشر) يصرخ منتحبا متقافزا في أرجاء العنبر.. حاول البعض الإمساك به دون جدوى حيث كان ما يزال عاريا تماما.. انطلق حلمى بعريه وصراخه الفزع هائجا يهاجم العنابر الأخرى تباعا..
ينشب أظافره التي تفوق طول أظافر الغوريلا في وجه من يعترضه أو حتى يحاول تهدئته.. استطاع البعض أخيرا إحكام السيطرة عليه واقتياده عاريا إلى عبد العال سلومه) الذى امر فورا بتوثيقه بالحبال و إحاطة معصميه و قدميه بالكلبشات الحديدية وإيداعه زنزانة انفرادية شديدة الحراسة..
كنت أتعمد المرور إلى جانب زنزانته أتسمع صوته يهمهم خفيضا بأكل شرشر للبط وانبساط فلفل.. بعد فترة لم أعد أسمع له صوتا فاطمأننت إلى استسلامه لواقعه و هدوءه..
كنت أسأل نفسى والمحيطين بي: هل أخطئت بسحب الكتاب من (حلمي شرشر) ليأتينى الرد أنى نفذت توصية أهل العلم.. والمسؤولية يتحملها ضمير الطبيب..
ذات صباح بلغ العسكرى المكلف بحراسة زنزانة (حلمي شرشر) موت أمه.. أسرع العسكرى إلى قريته دون أن يبلغ أحدا ليحل محله.. بعد أيام انبعثت رائحة كريهة من زنزانة (حلمي شرشر)..
كنت لا أتعجب أن يصل تراكم الغازات التي لا ينقطع عن إطلاقها طوال الليل إلى هذا الحد.. وحينما أصبحت الرائحة لا تطاق تحمل معانى أخرى مرعبة تم فتح البوابة.. كان (حلمي شرشر) ليس بالداخل.. على الأرض كان هيكلا عظميا ممدا تعلوه بقايا لحم تنتن.. بينما الذباب كبير الحجم يحوم أن فوقه في جماعات يطن..
كنت اسمع الذباب في طنينه يردد أن (شرشر أكل البط.. وفلفل قال.. ما فيش أمل).
……………………….
و
السجن كان هو المصير..
والأمن دولة في كل شئ
تقارير كتير من غير ضمير..
والسحل كان هو الطريق
……………………….
وصلت روحنا للهلاك..
مليون شيطان داخل عنيك
نافقوك وقالوا عليك ملاك..
غشوك و قالوا بنحمي فيك
……………………….
قصيت جناح قلب الحبيب..
القائد.. الحر.. الهمام
طبع الخيانة النجسة عيب..
ومفيش علي الخاينين ملام
……………………….
غني حليم.. والوهم زاد..
والكل صدق كدبتك
كل الوعود صبحت رماد..
وبلدنا..كانت عزبتك
من كتاب (..مدد مدد)
سيرة ذاتية لبلد