بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
ظل (عباس المغربي) على عادته في الزيارات المستمرة لعنبر اليهود.. لاهثا وراء المزيد من المجلات الجنسية.. كان معظمهم قد وقعوا على إقرار بالموافقة على الهجرة إلى فرنسا بخروجهم من معتقل (طرة) مباشرة الى المطار حيث الطائرة تنتظرهم بشرط وقعوا عليه أيضا في الإقرار، وهو تنازلهم عن كل ممتلكاتهم في مصر بما فيها جنسيتهم المصرية..
إن (عباس المغربي) في البداية يتخفى في التسلل إليهم لكنه بعد ذلك صار يزورهم علنا أمام أعين الجميع .. حتى أمام أعين عنبر المكفراتيه اللذين استغلوه لقضاء حوائجهم المختلفة بما فيها تنظيف دورات المياه الاعتداء على الإخوان المسلمين بالتجريح بأفحش الألفاظ ..
كنت أتابع تحول (عباس المغربي) في عنف تماما كما كنت أتابع تحول شرنقة دودة الحرير منتظرا خروج فراشة، لكن شرنقة (عباس المغربي) أخرجت خنفسة سوداء تأكل الروث و تشرب المهانة..
كنت أتذكر المنديل المحلاوى الذى كان يعلو رأسه فأشعر بأنه قد انفصم عن نفسه غير مدرك لما أصبح عليه من شخص آخر.. إنه حتى لا يقدر خطورة ما صدر ضده من اتهام في قرار جمهورى باعتقاله لخطورته على الأمن العام..
كنت أتحاشى التشابك معه في أي حوار بعد أن تراكمت كراهيته نحوى خاصة بعد أن طلب نصيحتى بفعل شيء ما يهون عليه مدة بقائه فأخبرته أن يزرع شجرة خوخ أمام زنزانته.. وأن يتعهدها بالعناية حتى تثمر..
ليجيئنى بعد أيام متوجسا وهو يقول : أنا سألت و لقيت ان شجرة الخوخ بتطرح بعد 15 سنه (لأبادره قائل) وانت ضامن يا (عباس المغربي) انك هتخرج من هنا قبل كده، ليدخل في نوبة هياج لم ينسها لى ..
غادر (عباس المغربي) زنزانته الانفرادية واستقر في عنابر المكفراتية يلقون اليه بالطعام الذى يعوضه عن الطاقة التي يستنفذها اثر إدمانه للاطلاع على المجلات الجنسية.
تهتز أركان المعتقل بصراخه
مع ذلك كان ينسحب في بعض الليالى الى زنزانته الانفرادية ليبدأ في اللطم والبكاء حتى تهتز فجاة أركان المعتقل بصراخه المتلاحق المشحون بكل الألم والمرارة والضياع.. كنت حزينا من أجله.. أتابع غروب شمسه و أفوله المتسارع ..
بعد أيام كنا نستيقظ كل صباح على جثث للقطط السيامى ملقاة أمام الزنازين.. جميعها مقتولة بنفس الطريقة.. ضربة آلة ثقيلة وحادة يخرج لها المخ من أعلى أو من خلف الأذن.. بعدها لاحظت هروب القطط فزعة تتسلق الجدران او تختبئ خلف أرجل الواقفين بمجرد ظهور (عباس المغربي) باطلالته الصامتة في الساحة ..
كانت الشكوك قد بدأت تصبح يقينا بعد أن استيقظ السماوى وأيقظنا معه على صراخ ملتاث يختلط فيه صياح الدجاج بنعيق البط و صراخ الإوز.. كل الطيور مصابة بإسهال شديد تحول الى إعياء تام و تلاحق موت كل طيور (السماوي)..
شعرت بالسماوى قد فقد كينونته التي اكتسبها من تسميم أعدائه في المعتقل بدعوتهم على مأدبة عامرة بهذه الطيور.. تعقب الجميع أثر (عباس المغربي) لتحرى الحقيقة التي ظهر سرها أثناء زيارة زوجته له.. كانت تمده بسم الفئران بحسب تبريره لها بامتلاء الزنزانة بجموعها..
أدرك (عباس المغربي) انكشاف أمره وأن الجميع يترقب محقق أمن الدولة للتحقيق معه.. في الليل هاجم (عباس المغربى) العنبر الذى نقيم فيه ليغرق كل برش بالجاز الذى كان يسكبه من جركن ضخم عجبت لكيفية حصوله عليه.. تحلق الجميع حوله و شلوا حركته قبل أن يشعل أعواد الثقاب..
أسلموه لقائد المعتقل اللواء (عبد العال سلومة) ليأمر بإيداعه زنزانة انفرادية قيد لها حراسة مشددة لأيام.. بعدها تم إحالته الى عنبر الحالات الخطرة بمستشفى المراض العقلية تحت حراسة أخرى لمنعه من إيذاء نفسه و الآخرين ..
بعد خروجى من المعتقل و في أول زيارة لى للقاهرة توجهت الى مستشفى الأمراض العقلية أسأل عن (عباس المغربي).. لم يدلنى أحدهم على معلومة.. طلبت زيارة عنبر الحالات الخطرة فسخروا منى و احالونى لنائب المستشفى الذى رحب بى..
أخبرنى أن عنبر الحالات الخطرة لا يقترب منه أحد .. بما فيهم الأطباء أنفسهم.. زنزاناتهم لا تفتح أبدا.. يتم دس الطعام لهم في أدراج تدفع داخل مجرى خاصة.. زنازينهم تنضح بالعفونة..
أحيانا لا توجد وسيلة لتهدئة بعضهم من حالة هياج إلا تعريضه لصدمات عصبية قوية تقضى على قوته ليمكن التعامل معه.. أو أن يتم ضربه بواسطة حراس أشداء بهراوات ضخمة ضربا قد يفضى الى الموت و دفنه في مقابر الصدقة..
وجه (عباس المغربي)
خرجت مغادرا المستشفى.. و أنا أمر في الساحة كنت أتفقد الوجوه على أعثر على وجه (عباس المغربي) دون جدوى.. لكننى تعجبت للوجوه التي تنضح حبا و هدوءا لمجاميع من المرضى هم غاية في الرزانة و اللطف.. يتحلقون حول ماتش مصري أو أجنبى..
يتبادلون الآراء حول مجريات السياسة والاقتصاد والظواهر الاجتماعية بحرية تجعل للمنطق المطلق سطوة دون أى اعتبارات أخرى من خوف أو خجل أو خشية انتقاد.. المنطق والمنطق فقط .. عند الباب وقفت أمام لوحة مستشفى المجانين مترددا أقاوم بداخلى رغبة هائلة أن أدير ظهرها ناحية الشارع الذى خرجت لأذوب في زحامه.
…………………..
نكسة ووكسة للجميع
و مصيبه للبلد الأمين
قصقصت في زهور الربيع
واللى ما قالش لك آمين
…………………..
ايه ذنب عباس الفقير
تكسر في روحه و تكسره
عنك (جاهين) قال الكتير
شوهت شكله ومنظره
…………………..
يا ليل يا كاسر في القلوب..
يا سارق الفرحة الحلال
وصلت روحنا الغروب..
وطعنت فينا بالضلال
…………………..
يا ليل..و يتمت الصغار..
وحرمت روحنا م الحياة
جوه عنيك تل الغبار..
ولا خوفت لحظه م الإله
…………………..
ناصر يا فرعون البلاد..
يا سيف مسلط ع الرقاب
رمز الضغينه و الفساد..
واللي قفل ع الكل باب
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد