بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
عندما ظهر (أحمد عدوية) في ساحة الغناء المصرى كان نجاحه لافتا للأنظار، ففي توقيت تستعد فيه مصر (لإزالة اثار العدوان) بعد نكسة عام 1967، وتحت ظل صيحة جمال عبد الناصر (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة) إذا بصوت هذا المطرب الشعبى القادم من الملاهي الليلية والكازينوهات يعلو فوق صوت الجميع ليصبح ظاهرة تستحق الدراسة.
في الحقيقة إن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد خدمت (أحمد عدوية) وكانت السبب الرئيسى في نجاحه، ففي فترة النكسة كان المجتمع المصرى قد اهتز بشدة وكأنه قد فقد بوصلته وتاهت معالم الطريق.
فمضى يبحث عن (مرجعية) يستند إليها وتعيد إليه توازنه المفقود: هل هى العودة إلى الماضى التي تمثلت فنيا في ظهور فرق الموسيقى العربية التي تغنى الموشحات وأغانى التراث العربى المختلط بسمات تركية تحيلنا الى عصور مجد الامبراطوريات الإسلامية؟
أم في الانطلاق إلى العالم الغربى المنفتح على التطور ويعلى من قيمة الفرد وحريته، أملا في الخروج من أسر الحكم الشمولى بتقليد ثقافة الغرب وفنونه، كما فعلت فرق الغناء الغربى مثل (البلاك كوتس) وغيرها؟، أم في العودة إلى الجذور شديدة الخصوصية وشديدة التميز وهو الفولكلور وفي القلب منها الغناء الشعبى؟
إلى حد ما كانت الغالبية مع الغناء الشعبى، فالأغنية الشعبية هى الأقرب لوجدان الناس البسطاء – وهم غالبية الشعب المصرى – يعكس همومهم وأحلامهم، وواقع حياتهم اليومية ويعتمد على الكلمات البسيطة، والألحان العفوية، والإيقاعات السهلة التي تتناسب مع المناسبات الاجتماعية مثل الأفراح وغيرها.
لذا كان ظهور مجموعة من النجوم مثل (ليلى نظمى وعايدة الشاعر)، إلى جانب من سبقوهم مثل (محمد رشدى ومحمد العزبى وعبد العزيز محمود ومحمد طه) وغيرهم، ولكن (أحمد عدوية) اختلف عن كل هؤلاء.
(السح الدح امبو)
مع أول شريط كاسيت يصدر لـ (أحمد عدوية) وهو (السح الدح امبو) حقق نجاحًا مدويًا، حيث لاقى رواجًا كبيرًا بين الجمهور، بسبب الإيقاعات المبهجة والكلمات العفوية التي لامست وجدان الطبقات الشعبية، لأنه اختلف عن بقية المطربين الشعبيين فقد خلق (حالة تمرد) على الأسلوب الشعبى التقليدي.
ولم يستعن بتراثه بشكل جامد بل أدخل عناصر جديدة على الأغنية الشعبية، مثل استخدام الآلات الموسيقية الحديثة وتوظيف الإيقاعات الديناميكية، مما جعل هذا اللون الفني أكثر جذبًا لجيل الشباب، إلى جانب ذلك، كان لعدوية تأثير كبير على لغة الأغنية الشعبية، حيث ابتكر تعبيرات وكلمات أصبحت جزءًا من الثقافة اليومية للمصريين.
ثم جاءت مرحلة الانفتاح لتعزز مكانة (أحمد عدوية)، و يصبح رمزًا لمرحلة جديدة في تطور الفن الشعبي.
فلقد شهدت سنوات السبعينات تطبيق سياسة الانفتاح الاقتصادي التي أدخلت تغييرات جذرية على الطبقات الاجتماعية، وظهرت فجوة كبيرة بين الطبقة الغنية والفقراء، مما جعل الطبقة العاملة والفقيرة تبحث عن صوت فني يمثلها.
ومع تزايد التحضر وانتشار العشوائيات، تغيرت بنية المجتمع المصري وأصبح هناك حاجة ملحة لفن يعبر عن القضايا اليومية والهموم البسيطة للناس، فالأفراح الشعبية والمناسبات الجماعية في تلك الفترة كانت تتطلب أغانٍ حيوية ومليئة بالطاقة، وهو ما ميز أغاني (أحمد عدوية) بلهجتها البسيطة وكلماتها العفوية.
باختصار يمكن القول إن (أحمد عدوية) جاء في وقت مثالي يعكس فيه فنه التحولات التي كانت تحدث في المجتمع المصري، مما ساهم في نجاحه الكبير واستمرار تأثيره.
ورغم الشعبية الجارفة التي حققها (أحمد عدوية)، إلا أنه تم منع أغانيه من الإذاعة والتلفزيون المصرى لفترة طويلة، و كان السبب الرئيسي وراء هذا المنع هو اعتراض بعض المثقفين والنقاد على محتوى أغانيه، حيث اعتبروا أنها (غير لائقة) و(تفتقر إلى القيمة الفنية)، و تمثل خطرًا على الذوق العام.
فعلى سبيل المثال انتقد الموسيقار محمد عبد الوهاب أغانى (أحمد عدوية) ووصفها بأنها (هدم للأغنية المصرية).
لكن برغم هذا المنع، استمر (أحمد عدوية) في تحقيق نجاحات كبيرة من خلال بيع ألبوماته وحفلاته التي كانت تجذب آلاف المعجبين، وأتاح انشار أجهزة الراديو كاسيت في أيدى الجميع – خاصة العمالة العائدة من العمل بالخارج – فرصة للوصول إلى جمهور أوسع بدون الحاجة إلى دعم رسمي من الإذاعة أو التلفزيون.
حققت شرائطه أرقاما قياسية
وكانت أغانيه تُسمع في كل مكان، من الأسواق إلى وسائل المواصلات، إلى المقاهي الشعبية والمحلات، وحققت شرائطه أرقام مبيعات قياسية لم يحققها نجوم الغناء الكبار في عصره، وظهر مجموعة من المطربين الشعبيين يقلدونه أو يقلدون أسلوبه، ويعتبرونه قدوة لهم .
و أثارت تجربة (أحمد عدوية) انقسامًا حادًا بين المثقفين في مصر، فبينما رأى البعض أنه يمثل انحدارًا في الذوق الفني، اعتبره آخرون رمزًا للأغنية الشعبية الحقيقية التي تعبر عن وجدان الشعب فقد دافع عنه الكاتب الكبير يوسف إدريس، مشيدًا بجماهيريته وقدرته على الوصول إلى قلوب البسطاء.
واتفق معه الكاتب الكبير جمال الغيطاني الذى قال أن (أحمد عدوية) نجح في خلق لغة خاصة به في عالم الغناء، لغة تجمع بين التراث الشعبي والتعبير عن الواقع الحديث.
وجاء رأى الأديب الكبير نجيب محفوظ ليصدم الجميع، حيث رأى أن عدوية يمثل صوت الشعب الحقيقي، وأن أغانيه هى امتداد لتقاليد الفن الشعبي الذي ينبع من وجدان المصريين، وأشاد محفوظ بقدرة عدوية على كسر الحواجز بين الفن والنخبة والجمهور البسيط، مما جعله فنانًا شعبيًا بمعنى الكلمة.
وبعد سنوات طوال صار أحمد عدوية (الفنان الكبير) ونجم الأغنية الشعبية الأول، و تبدل الحال وسقطت كل تحفظات المثقفين ضده، واليوم تظهر موجة جديدة يقف المثقفون ضدها أيضا وهي (أغانى المهرجانات) التي تكرر نفس التمرد على القوالب التقليدية للأغنية الشعبية.
لتقدم نوعية من الغناء يعبر عن طبقات بعينها معبرة عن أحلامها وآمالها و تكون صوتا لها، وكما (أحمد عدوية) تتميز بالبساطة والعفوية من خلال كلمات سهلة وتلقائية وألحان سريعة تحمل إيقاعات جذابة ومبتكرة وحققت انتشارا واسعا وجماهيرية عريضة.
وعلى الرغم من الاختلافات الزمنية، فإن (أحمد عدوية) وأغاني المهرجانات يشتركون في قدرتهما على التعبير عن نبض الشارع وكسر التقاليد الفنية بأسلوب يعكس روح العصر
فكم من السنوات سنحتاج لكى نتكلم عن مطربى تلك الموجة كما نتكلم عن (أحمد عدوية) الآن؟