بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
المفارقة الكبرى، أن يوم نشر مقال (ليفي) في صحيفة (هآرتس)، كان ذات اليوم الذي شهد واقعة استشهاد خمسة من (الصحفيين الفلسطينيين)، فجر ذات اليوم، جراء استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية سيارة البث التابعة لقناة (القدس اليوم) أمام مستشفى (العودة) في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة.
صباح السادس والعشرين من شهر ديسمبر 2024، نشرت صحيفة (هآرتس) الإسرائيلية، مقال رأي للكاتب (جدعون ليفي)، سخر فيه من عدم قدرة رئيس الوزراء (بنيامين نتنياهو) عن السفر إلى بولندا لحضور الحفل الرئيسي بمناسبة الذكرى الثمانين لتحرير معسكر الموت في (أوشفيتز).
بسبب المخاوف من احتمال اعتقاله على أساس مذكرة الاعتقال الصادرة ضده من قبل المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي.
(ليفي) والمعروف بتوجهاته المعادية والمضادة لسياسات إسرائيل العدوانية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، قال ساخراً: (مفارقة مُرة، أن من بين جميع الشخصيات والدول، يُمنع رئيس وزراء إسرائيل وحده من حضور النصب التذكاري لأفراد شعبه بسبب تهديد القانون الدولي الذي يلوح فوق رأسه، ويقبل حضور المستشار الألماني.
فقبل 80 عاما، عندما تم تحرير (أوشفيتز)، مُنح اليهود الاختيار بين أمرين (لن يواجه اليهود أبدا خطرا مماثلا، ولن يواجه أي شخص في العالم أبدا خطرا مماثلا)، ولكن إسرائيل اختارت الخيار الأول، مع إضافة قاتلة، بعد (أوشفيتز) يُسمح لليهود بفعل أي شيء).
خط وهمي للموت
(ليفي) واصل حديثه: (طبقت إسرائيل هذه العقيدة في العام الماضي كما لم تفعل من قبل، ولعل هروب رئيس الوزراء من حفل (أوشفيتز) هو المثال الأكثر فظاعة على ذلك، وحقيقة أن (أوشفيتز) هو أول مكان يخشى (نتنياهو) الذهاب إليه من بين جميع الأماكن في العالم.
تصرخ بالرمزية فضلا عن العدالة التاريخية، ومع أن المسافة بين (أوشفيتز) وغزة مع توقف في لاهاي، لاتزال هائلة، فإن المقارنة بينهما لم تعد سخيفة، فعندما يكون هناك خط وهمي للموت في غزة المحتلة، وكل من يعبره محكوم عليه بالموت، حتى لو كان طفلا جائعا أو معوقا، تبدأ ذكريات (الهولوكوست) في الهمس.
وعندما يتم تنفيذ التطهير العرقي في شمال غزة، مع علامات واضحة على الإبادة الجماعية في جميع أنحاء القطاع، فإن ذكرى (الهولوكوست) تدوي بالفعل.
من ثم خلص (ليفي) بقوله: (يبرز السابع من أكتوبر 2023 كنقطة تحول مصيرية على غرار حرب عام 1967 حيث فقدت إسرائيل تواضعها، واليوم فقدت إنسانيتها، وفي كلتا الحالتين حصل ضرر لا رجعة فيه)، داعياً إلى وجوب تأمل المناسبة التاريخية واستيعاب أهميتها، فالاحتفال بإحياء الذكرى الثمانين لتحرير (أوشفيتز) يسير فيه زعماء العالم في صمت ومعهم آخر الناجين الأحياء.
ويصبح مكان رئيس وزراء الدولة التي نهضت من رماد (الهولوكوست) شاغرا، إذ لن يكون (نتنياهو) في (أوشفيتز)، لأنه مطلوب في لاهاي بتهمة ارتكاب جرائم حرب).
تكمن المفارقة الكبرى، أن يوم نشر مقال (ليفي) في صحيفة (هآرتس)، كان نفس اليوم الذي شهد واقعة استشهاد خمسة من (الصحفيين الفلسطينيين)، فجر ذات اليوم، جراء استهداف الطائرات الحربية الإسرائيلية سيارة البث التابعة لقناة (القدس اليوم) أمام مستشفى (العودة) في مخيم النصيرات، وسط قطاع غزة.
ما يرفع عدد الصحافيين الذين قتلتهم قوات الاحتلال الإسرائيلي إلى 201 منذ بدء حرب الإبادة على القطاع في السابع من أكتوبر 2023.
جريمة القتل في هذا اليوم طالت كل من (الصحفيين الفلسطينيين): (فيصل أبو القمصان)، و(أيمن الجدي)، و(فادي حسونة)، و(محمد اللذعة) و(إبراهيم الشيخ علي)، وكأن آلة القتل والدمار الإسرائيلية لا تصغي ولا تلقي بالاً لما ينشر في بعض وسائل الإعلام الدولية والإسرائيلية ولا تكترث به ولا تعطيه في الأصل أي أهمية.
بل تمضي قدماً في تنفيذ جرائمها الواحدة تلو الأخرى، لتؤكد معها إن استهداف (الصحفيين الفلسطينيين)، ليس أمراً عشوائيا، بل هو نهج وهدف واضح ومحدد يرمي إلي تصفية الإعلام الفلسطيني وكأنه إبادة ممنهجة خطط لها سلفاً.
إبادة جماعية للصحفيين
تضاف هذه الجريمة لسلسة طويلة من الجرائم الإسرائيلية بحق (الصحفيين الفلسطينيين) طيلة الحرب علي غزة بدء من السابع من أكتوبر 2023، وحتي يومنا هذا، وهو ما رصدته العديد من المؤسسات الحقوقية والصحفية حول العالم، ومطالبتها بإدانة هذه الجرائم الممنهجة ضد الصحفيين والإعلاميين في قطاع غزة).
مع تحميل الاحتلال والإدارة الأمريكية والدول المشاركة في جريمة الإبادة الجماعية، مثل المملكة المتحدة بريطانيا وألمانيا وفرنسا، المسؤولية الكاملة عن ارتكاب هذه الجرائم النَّكراء الوحشية.
ويعلم الجميع أن استهداف (الصحفيين الفلسطينيين) يأتي في سياق الاستفراد بالضحية، وتغييب نقل وقائع الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال ضد المدنيين في قطاع غزة، فقبل تلك الجريمة قتلت طائرات حربية إسرائيلية بصاروخ مصور قناة الجزيرة وسط قطاع غزة (أحمد بكر اللوح).
ومن قبله بيوم، قتلت قوات الاحتلال الصحفي ومراسل قناة المشهد الفضائية (محمد بعلوشة) باستهداف في حيّ الشيخ رضوان شمالي مدينة غزة. وبالقرب من مكان استشهاده في 12 ديسمبر، استشهدت الصحفية (إيمان الشنطي) من قناة الأقصى وأطفالها الثلاثة وزوجها.
ولا يزال الاحتلال الإسرائيلي يمعن في اتباع سياسة ممنهجة للقضاء على (الصحفيين الفلسطنيين) في قطاع غزة، كجزء لا يتجزأ من جريمة الإبادة الجماعية، من خلال الاستهداف المباشر وعدم إعطاء أي اعتبار للشارة الصحفية”، علماً أن هناك صحفيين قتلوا خلال ارتدائهم زي الصحافة المميز، ويباشرون أعمالهم، وفي مكان معروف لقوات الاحتلال.
196 صحفي في 2024
خلال عام 2024 وحده، ارتفع عدد الشهداء من (الصحفيين الفاسطينيين) والعاملين في وسائل الإعلام منذ بدء حرب الإبادة في قطاع غزة إلى 196 وفق توثيق المكتب الإعلامي الحكومي ومنظمات فلسطينية أخرى، ومن بين الشهداء عشرون صحفية، والعدد الأكبر هو للصحفيين الذين قتلتهم قوات الاحتلال مع عائلاتهم.
والمثير في هذا السياق إن إسرائيل تنفي تعمّد إيذاء (الصحفيين الفلسطينيين)، لكنها تقر في الوقت نفسه بأن بعضهم استشهد بغارات جوية شُنّت على أهداف عسكرية.
وقال الناطق باسم الحكومة الإسرائيلية (ديفيد منسر) في مؤتمر صحفي سابق: (نحن نرفض هذه الأرقام، لا نعتقد أنها صحيحة، وأضاف: نحن نعلم أن معظم الصحفيين الفلسطينيين) في غزة يعملون على الأرجح تحت رعاية حماس، وأنه حتى يتم القضاء على حماس، لن يُسمح لهم بنقل المعلومات بحرية).
شهادات دولية ضد العدوان
يكفي في هذا السياق، نقل ما صرحت به (آن بوكاندي) مديرة تحرير (مراسلون بلا حدود) لوكالة (فرانس برس) الفرنسية، وقولها: (إن الصحافة مهددة بالانقراض في قطاع غزة)، مع إشارتها إلى (تعتيم ذي أبعاد متعددة)، فبالإضافة إلى (الانتهاكات المرتكبة بشكل مباشر ضد الصحفيين)، ما زال (الوصول إلى غزة ممنوعا منذ أكثر من عام)، كما أن (مناطق بكاملها أصبح الوصول إليها غير متاح)، وبالتالي (لا يعرف ما يحدث هناك).
وكذلك حديث (أنتوني بيلانجر)، الأمين العام للاتحاد الدولي للصحفيين ومقرّه بروكسل وتنديده بـ (المذبحة التي تحدث في فلسطين أمام أعين العالم)، مؤكداً لوكالة (فرانس برس) أن (العديد من الصحافيين يُستهدفون) عمدا.
أما (أنتوني بيلانجيه)، الأمين العام للاتحاد، فقال بدوره إن (سنة 2024 تُعتبر إحدى أسوأ السنوات) بالنسبة إلى الإعلاميين، وندّد (بيلانجيه) بـ (المجزرة التي تجري في فلسطين أمام أعين العالم أجمع).
كما حذرت لجنة حماية الصحفيين، ومقرها مدينة نيويورك الأمريكية، من أن (الفجوة الإخبارية) هى أحد الآثار المباشرة لما ترتكبه إسرائيل في شمال غزة، (مما قد يترك جرائم الحرب المحتملة من دون أدلة أو توثيق).
وقد تصدّرت إسرائيل ودولة (هايتي) قائمة الدول التي سجّلت أكبر عددٍ من جرائم قتل الصحفيين خلال عام 2024، متقدمةً على الصومال وسوريا وجنوب السودان، بحسب المؤشر العالمي للإفلات من العقاب الذي تعده لجنة حماية الصحافيين سنوياً.
ويعلم الجميع أن الصحفيين يتمتعون بحماية خاصة بموجب القانون الدولي الإنساني، شأنهم في ذلك شأن المدنيين، فوفقًا للمادة 79 من البروتوكول الأول الملحق لاتفاقيات جنيف الأربع.
والتي وصلت لمستوى القانون العرفي الدولي، يعد الصحفيون الذين يباشرون مهمات مهنية خطرة في مناطق النزاعات المسلحة أشخاصاً مدنيين ضمن نطاق الفقرة الأولى من المادة 50.
محرقة الصحافة الفلسطينية
كما يتمتع هؤلاء بحماية القانون الدولي لحقوق الإنسان، وخصوصاً العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي صادقت عليه دولة الاحتلال الإسرائيلي، وترفض الاعتراف بانطباقه على سكان الإقليم المحتل، تماماً كما تنكر انطباق القانون الإنساني الدولي عليهم.
في السياق نفسه، لا يزال الاحتلال الإسرائيلي يمنع مراسلي المؤسسات الإعلامية الأجنبية من الدخول إلى القطاع، وقد طالبت عشرات المؤسسات الصحفية أكثر من مرة، من بدء العدوان، بإعطائها إمكانية الدخول إلى غزة.
لم يتوقف القمع عند هذا الحد، فقد دُمرت مكاتب الصحافة الفلسطينية، واعتقل وعُذّب الصحفيون، وقُطع الإنترنت والكهرباء بانتظام، ليظل عام 2024، شاهداً على أن إسرائيل هي العدو الأول للصحافة في العالم، لأنها لا تريد أن يرى العالم الجرائم التي ترتكبها بحق الشعب الفلسطيني.
في وقت تمنع الطواقم الصحفية الدولية من الوصول إلى غزة وتغطية حرب الإبادة، وكل ذلك في إطار عملية شاملة تمارس فيها الإبادة الجماعية ومجموعة جرائم دولية أخرى تحاول من خلالها ترسيخ نكبة ثانية ضد 2.3 مليون فلسطيني في قطاع غزة منذ أكثر من عام.. وللحديث بقية.