بقلم الكاتب والأديب: محمد عبد الواحد
بيتهوفن مصر.. المايسترو.. المتمرد.. صاحب العصا السحرية.. ألقاب عدة لم تكف يوما لوصف العبقرية المنفردة لـ (علي إسماعيل)..
ولد عام 1922 في إحدى حارات (المناصرة) بوسط القاهرة لأسرة متوسطة الحال.. الأب فيها هو الموسيقى إسماعيل أفندي خليفة الذى كان يعمل مدرسا للموسيقى..ولتميزه الشديد تم يعيينه رئيسا للفرقة الموسيقية الملكية بالسويس مما دفع الأسرة للانتقال من القاهرة للحاق بالأب..
هناك التحق (علي إسماعيل) بالمدرسة الثانوية الصناعية قسم زخرفة ببور توفيق.. وقد امتلك (علي إسماعيل) في هذه الفترة حسا فنيا راقيا وأذنا موسيقية مرهفة جمعت بين الموهبة الفطرية ونشأته في أسرة فنية.. إلى جانب الأب الموسيقى كان الأخ (حسين) عازف أول ساكسفون.. أما الأخ الثالث فهو الممثل القدير (جمال إسماعيل)..
انضم (علي إسماعيل) لصفوف الجيش عام 1938، وهناك عمل بفرقة الموسيقى العسكرية.. ولأن الموسيقى ملكت عليه كيانه وأثناء فترة تجنيده نجح في الانتساب لمعهد الموسيقى (معهد فؤاد الأول)..
في المعهد العالي للموسيقى كانت دفعة (علي إسماعيل) تضم مواهبا تفجرت إبداعاتها فيما بعد في الساحة الفنية المصرية.. من بينهم كان (كمال الطويل، عبد الحليم حافظ، فايدة كامل، أحمد فؤاد حسن، عبد العظيم عبد الحق).
و قد تعلم فيه (علي إسماعيل) على آلة الساكس والبيانو والكلارينت.. إلى جانب آلة الأبوا التي شاركه تعلمها صديق العمر عبد الحليم حافظ.
ولكى يستطيع (علي إسماعيل) الإنفاق على تعليمه عمل في العديد من الفرق الموسيقية.. كعازف ساكس وبيانو وكلارينت.. وكلها أدوات درسها أكاديميا في معهد الموسيقى..
رتيبة وإنصاف رشدى
كانت المسارح والصالات حتى هذا الوقت هى البديل عن القنوات الفضائية الآن.. لم تكن مجرد أماكنا للفجور بقدر ما كانت للفنون بكل أشكالها.. تنافس أصحابها في مد فرقهم بأهم فنانى مصر من كل لون.. وبأهم الفنيين والخبراء الأجانب لتدريب أعضائها..
تعلم (علي إسماعيل) في هذه الفرق على أيدي أساتذة موسيقى أجانب.. فكان تأثره بالموسيقى الأوركسترالية.. كما اكتسب منهم أسرار موسيقى الجاز التي كان يفضلها مرتادوا صالات الرقص..
من ضمن الفرق التي عمل بها (علي إسماعيل) فرقة الأختين (رتيبة وإنصاف رشدى) شقيقتا الممثلة فاطمة رشدى.. كانتا الشقيقتان يمثلان أشهر ثنائى غنائى عرفته مصر في الأربعينات حتى أن صالتهما دائما كانت تكتظ بالرواد مما يؤدى في معظم الليالى إلى مشاجرات تحدث نتيجة التدافع والزحام مما كان يضطر البوليس كثيرا إلى التدخل لتنظيم الدخول إلى الصالة..
في بعض الأحيان يضطر البوليس إلى إغلاق الصالة نهائيا لانفلات الزمام من قبضته.. لتعاود الشقيقتان فتح الصالة في مكان آخر.. حتى أنهما في فترة الثلاثينات انتقلتا إلى 4 صالات باسميهما.. ولنجوميتهما فقد تم الاستعانة بهما لبطولة أول فيلم عربى..
ولتميز (علي إسماعيل) في فرقتيهما كعازف فقد أصبح خلال فترة وجيزة رئيسا للفرقة الموسيقة الخاصة برتيبة وإنصاف رشدى..
عمل (علي إسماعيل) أيضا كعازف محترف في (فرقة ببا عز الدين).. الراقصة اللبنانية التي كانت تعمل في (فرقة بديعة مصابني)، لكنها كانت ذات طموح هائل فانفصلت عنها وتزوجت من ابن شقيقة بديعة ومدير أعمالها أنطون..
وقد نافست (ببا عز الدين) بديعة، حتى أنها في النهاية امتلكت الكازينو الخاص بها.. وقد شاركت (ببا) في العديد من الأفلام السينمائية حتى لقيت مصرعها أوائل عام 1952 أثناء عودتها من حفل بالإسكندرية في حادث مدبر من رجال القصر الملكى.
وكان المقصود به هو (د. عزيز فهمى) غير أن سيارة (ببا عز الدين) كان لها نفس موديل ولون سيارة د. عزيز مما التبس على الجناة و قاموا باغتيالها..
عمل (علي إسماعيل) كذلك في فرقة إحسان عبده كعازف محترف.. ثم كون لنفسه مع بعض الأصدقاء من المعهد فرقة الجاز التي ساهمت في معرفة جمهور أوسع به سواء على مستوى المستمعين أو الموسيقي أو المطربين..
على إسماعيل ومحمد عبد الوهاب
وصلت شهرة (علي إسماعيل) كعازف على آلة الكلارينت إلى مسامع الموسيقار محمد عبد الوهاب فقرر ضمه بسرعة إلى فرقته الموسيقية.. و كان أول عمل اشترك به هو الاشتراك في تصوير أغنية (عاشق الروح)، من كلمات حسين السيد و التي شارك بها عبد الوهاب في فيلم (غزل البنات)..
وقد ظهر (علي إسماعيل) للمرة الأولى على شاشة السينما كواحد من أربعة يعزفون في خلفية الكورال الموسيقى آلة الكلارينت.. كان اشتراك (علي إسماعيل) في فيلم (غزل البنات) بمثابة إطلالته الأولى من نافذة واسعة على نجوم العصر في بلاتوهات التصوير (ليلى مراد و أنور وجدى و يوسف وهبى و الريحاني).
كان ظهوره في هذا الوقت على شاشة السينما حافزا له على السعي لاستمرار الظهور المتميز والمشاركة بقوة في النهضة الموسيقية التي كانت تشهدها مصر هذه الفترة.. وقد انقطعت الصلة الفنية بين (علي إسماعيل) و عبدالوهاب لفترة طويلة حتى شاهده عبد الوهاب يقود الفرقة الموسيقية خلف عبد الحليم حافظ في أغنية (حكاية شعب).
بقيادة أوركسترالية متميزة قام (علي إسماعيل) فيها بتوزيع لحن (كمال الطويل) توزيعا موسيقيا متفردا فعاود محمد عبد الوهاب الاتصال به طالبا منه توزيع أوبريت (الوطن الأكبر)، والذى شارك فيه عبد الحليم وصباح وشادية ونجاة و وردة..
كالعادة كان نجاح (علي إسماعيل) في هذه التجربة أيضا نجاحا ساحقا.. تأكدت فيه شخصية (علي إسماعيل) في التوزيع والكتابة الأوركسترالية التي يمزج فيها بين الشرقية والغربية..
وأصبح كل لحن يوزعه (علي إسماعيل) يكتسب زخما إبداعيا جديدا تماما كتأطيره صورة في إطار من ذهب.. أو كإضافة ألوان إلى صورة خطها فنان بالقلم الرصاص..
الاعتماد في الإذاعة
حينما تم إنشاء الإذاعة المصرية عام 1934 تولى الموسيقى (مدحت عاصم) شؤون الموسيقى بها فاستعان بصديقه (محمد حسن الشجاعي) ليكون مسؤولا عن اعتماد المواهب الجديدة في الإذاعة، حتى أصبح مكتشف النجوم هو (محمد حسن الشجاعي)..
كان الشجاعى صديقا لوالد (علي إسماعيل)، حيث عمل معه في فرقة الموسيقى الملكية قبل أن يتركها ويعمل عازفا في الفرق الأجنبية المنتشرة في مصر.. كنت ترى الشجاعى في الإذاعة دائما بوجه متجهم ترتعش عينه اليسرى بصورة عصبية دائمة، لكنه كان يتهلل ويصبح وجه طفل متوهج بالفرح عندما يستمع إلى موهبة فنية جديدة..
التقط (الشجاعي) بحاسته الفنية الموهبة الكامنة داخل ابن صديقه (علي إسماعيل)، فطلب منه التقدم للجنة الاعتماد في الإذاعة.. اقترح (علي إسماعيل) أن يكون ذلك من خلال التقدم بأعمال موسيقية خفيفة لا تتجاوز الواحدة منها ثلاث دقائق..
لم يكن (الشجاعي) واثقا من نجاح هذه التجربة الجديدة في ظل سيادة الأغنية الطويلة فطلب (الشجاعي) من (علي إسماعيل) التقدم بعمل أو اثنين بشرط أن ينتجهما على حسابه الخاص بحيث لو تم اعتماده من اللجنة يتم تعويضه عن ما أنفقه..
بالفعل نال (علي إسماعيل) الإشادة بقوة من اللجنة ليتم اعتماده واستعادة ما أنفقه.. وليبدأ بعدها مرحلة جديدة من مراحل الصعود نحو القمة.