بقلم الكاتب الصحفي: بهاء الدين يوسف
قرأت قبل أيام وليتني لم أقرأ تصريح للفنانة (سمية الخشاب) جرى تداوله على نطاق واسع تنصح فيه الشباب اليافع بعدم الاهتمام بالمذاكرة أو التفوق الدراسي وأن الشهادات التي سوف يحصلون عليها سوف يستخدمونها (قراطيس) توضع بداخلها أقراص الطعمية، وأن المهم في الحياة هي الفلوس وعليهم تعلم كيفية كسبها.
تذكرت وأنا أقرأ هذا التصريح – عن (قراطيس) الطعمية – قصة العبقري الراحل نجيب محفوظ (أهل القمة) التي نشرت ضمن مجموعته القصصية (الحب فوق هضبة الهرم) في نهاية سبعينات القرن الماضي.
وكيف صورت تلك القصة بشكل بديع عملية التحول أو الانهيار القيمي التي تعرض لها المجتمع المصري بسبب الانفتاح غير المدروس.
الانهيار القيمي هو أبرز وجه للتشابه بين القصة الشهيرة، وتصريح (قراطيس) الطعمية، الذي تهافتت فيما يبدو عديد المواقع الإلكترونية الصفراء والحمراء على نشره دون أن يتوفر لدى أحد من المسؤولين عنها ذرة إحساس بالمسؤولية أو الضمير للتفكير مرتين قبل نشر هكذا تفاهات.
قصة أديب نوبل والفيلم المأخوذ عنها، والذي لعب بطولته الفنانين الراحلين (نور الشريف وسعاد حسني وعزت العلايلي)، صورت صعود طبقة اللصوص والنصابين والفاسدين في المجتمع على حساب الطبقة المتوسطة التي تعتبر رمانة ميزان القيم والأخلاق في أي مجتمع.
ولا زال الكثيرين منا يتذكرون كيف تحول زعتر النوري (نور الشريف) من لص تافه دائم التردد على قسم الشرطة، والتودد لضابط القسم الشريف محمد فوزي (عزت العلايلي)، إلى رجل أعمال مستغلا فوضى الانفتاح ومهارته في التهريب لتحقيق ثروة، وكيف تعامل معه المجتمع باحترام استنادا الى ثروته وليس إلى سيرته الإجرامية.
(سمية الخشاب) تكرس لـ (انهيار القيمة)
وبعد أكثر من 45 عاما جاءت (سمية الخشاب) لتكرس مآساة (انهيار القيمة) – بـ (قراطيس) الطعمية – التي تعرض لها المجتمع المصري طوال عقود، وتزايدت وتيرتها في السنوات الأخيرة بفعل الظروف الاقتصادية الخانقة.
وانسداد الطرق الطبيعية الكفيلة بإفراز أصحاب المواهب والكفاءات الحقيقية، وتوجه بعض مؤسسات الدولة لتعزيز فكرة أهمية المال على حساب أي قيمة إنسانية أو مجتمعية.
صحيح أن كلام (سمية الخشاب) – عن (قراطيس) الطعمية – ليس هو المسؤول عن اقتراب الطبقة المتوسطة من الانهيار، وهى الطبقة التي يخرج منها عادة المتفوقين علميا والملتزمين أخلاقيا وقيميا، مثلما أن معظم الشباب لم يكونوا في انتظار كلامها ليدركوا أن التفوق والعلم لم يعد الطريق لتحقيق الثروة أو حتى الترقي المجتمعي.
لكن ما قالته أضفى مشروعية على واقع صحيح أن المصريين يعيشونه في كل مكان وفي كل يوم، إنما بشكل آلي دون علانية تكفل لهم الحق في تربية أبنائهم على تسفيه هذا الواقع وما يمثله.
لكن عندما تخرج فنانة يفترض أنها مؤثرة مجتمعيا لتتحدث عن هذا الواقع السيء بشكل علني فإنها تهين القيم وتعلي من أهمية الفهلوة والمكسب السريع دون سؤال عن كيفية تحقيقه، ما يعد بداية لمرحلة متطورة ومؤسفة من الضياع المجتمعي.
هل ما قالته (سمية الخشاب( – عن (قراطيس) الطعمية – فقرة ممنهجة لنشر اليأس بين الأجيال الجديدة، واضعاف تأثير الآباء الأخلاقي على أبنائهم حينما يحدثونهم عن قيمة التفوق والكفاءة والاجتهاد؟!.. أميل شخصيا إلى هذا الطرح ولو كان تآمريا في مجمله، لكن هناك مع الأسف بعض الشواهد على وجوده.
حياة أصحاب الثروات
يمكنك أن تلقي نظرة واحدة على معظم الأعمال الدرامية التي عرضت في الفترة الماضية أو لا تزال تعرض، وسوف تكتشف دون جهد أن عملية نشر ثقافة اليأس بين الشباب ليست فكرة منفردة عند فنانة محدودة الثقافة والتفكير.
ذلك أن كل ما تتناوله الدراما هو حياة أصحاب الثروات التي لا يعرف أحد من المشاهدين كيف تكونت وما إذا كانت بطريقة شرعية أم غير شرعية، وكيف أن هؤلاء الأغنياء يغرقون في العلاقات المشبوهة والفساد، وكيف أن الفقراء في معظم الأعمال الدرامية يتسابقون لبيع كرامتهم وشرفهم لهؤلاء مقابل بعض المال.
الأمر لا يبتعد كثيرا في برامج (التوك شو) عن تكريس ثقافة اليأس والإحباط، وتمرير فكرة أن الطريق الوحيد المفتوح أمام الشباب لتحقيق بعضا من أحلامهم هو السير في ذات الطريق الذي سلكه زعتر النوري قبل 5 عقود ليحقق الثروة ويكسب احترام المجتمع الذي غابت عنه قيمة العمل والاجتهاد، والأهم منهما قيمة الشرف.
وبناء عليه أخشى أن نصل في وقت أقرب بكثير مما نتصور إلى واقع يكون فيه الشاب المكافح المتفوق أبن الناس المنتمين للطبقة المتوسطة هو النموذج الشاذ في المجتمع، بينما يكون نموذج اللص المتحول هو الهدف الرئيسي لأبناء الأسر المحترمة ليضمنوا لأنفسهم مستقبلا مريحا بعيدا عن ضغوط الحياة التي تقبض على أعناق آبائهم الشرفاء.