بقلم الكاتب الصحفي: أحمد الغريب
بالتزامن مع تحقيق (كوفوفيتش)، جاء تحقيق أكثر إثارة نشره موقع Drop Site News للصحافة الاستقصائية، حول تغطية هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للممارسات الإسرائيلية في غزة، قام بإجراءه الصحفي البريطاني المتميز (أوين جونز)، وحمل عنوان (الحرب الأهلية في بي بي سي حول غزة).
يأتني هذا في الوقت الذى تتواصل في جرائم الحرب الإسرائيلية بقطاع غزة، ومع توالى التسريبات بوسائل الإعلام العبرية عن حجم البشاعة والإجرام الذى تمارسة آلة القتل والدمار الإسرائيلية بحق المدنيين من أهل القطاع.
لعل آخرها ما كشفه (ينيف كوفوفيتش) محرر الشؤون العسكرية بصحيفة (هآرتس) بشأن اعتراف جنود الجيش الإسرائيلي أنهم تعمدوا قتل المدنيين العزل خلال الحرب على قطاع غزة، وتأكيدهم على أن عمليات القتل أصبحت منافسة محتدمة بين وحدات الجيش المختلفة.
تتواصل من جهة أخرى حالة التماهى الغربية مع الرواية الإسرائيلية كاشفة معها عن أكذوبة إيمان الغرب بالحريات وحقوق الإنسان والإنتصار له ومساندته.
(كوفوفيتش) الذى يحسب له حتي الآن فضح الممارسات الإسرائيلية الإجرامية، فضح في تحقيق له نشرته (هآرتس) قبل أيام، عن شهادات جنود وضباط من جيش إسرائيل يتعمدون قتل المدنيين والأطفال بعشوائية واستهتار، بل بنوع من المتعة والتنافس بين فرق الجيش في قتل أكبر عدد ممكن.
قتل الأطفل بدم بارد
تحقيق (كوفوفيتش) يكشف عن أن عمليات القتل الممنهج للمدنيين الفلسطينيين من أهل القطاع، تركزت على خط (نتساريم) الذي أقامته إسرائيل وفصل غزة إلى نصفين بعرض سبعة كيلومترات، ووضعت خطاً وهمياً لا يعرف عنه الفلسطينيون أي شيء، وأن كل من يجتازه يتم قتله برصاصة في الرأس بحسب رواية أحد الشهود من الجنود، بل بوابل من الرصاص.
كما قال آخرون (إنه حدث أكثر من مرة أن أطلقت النار على مدنيين ليكتشف الجيش أنهم مجموعة من الأطفال لكن الناطق العسكري (دانيال هاجاري) يعلن أنهم قتلوا خلية من المقاتلين، هكذا الأمر بكل بساطة!
وبطبيعة الحال من يتابع الحرب الإسرائيلية على القطاع يعرف أن ما يحدث هو عملية إبادة جماعية، وتلك تشمل وتحوي كل أشكال سحق المدنيين، لكن (كوفوفيتش) يعترف بأن الخط الوهمي المرسوم لا يستطيع الوصول إليه أحد، وبالتالي من يتم قتلهم تترك جثثهم للكلاب، هكذا يستمتع الجيش الإسرائيلي بالمشهد.
كذلك يمكن القول إنه وفي ظروف طبيعية يفترض أن تحقيقاً كهذا سيحدث هزة في إسرائيل، ولكن المجتمع الإسرائيلي لم يرف له جفن بعد أن نجحت وسائل الإعلام الإسرائيلية في عملية مسح دماغ للإسرائيليين جميعاً، ولم تعرض حتى اللحظة صورة أشلاء طفل فلسطيني.
ونجحت في إشاعة أجواء الذعر والرغبة بالانتقام وتهييج المشاعر، ورغم ذلك تواصل اسرائيل بعد كل ما ارتكبته من فظائع الزعم أن جيشها أخلاقي.. وبل الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.
الرواية الإسرائيلية تنتصر
بالتزامن مع تحقيق (كوفوفيتش)، جاء تحقيق أكثر إثارة نشره موقع Drop Site News للصحافة الاستقصائية، حول تغطية هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) للممارسات الإسرائيلية في غزة، قام بإجراءه الصحفي البريطاني المتميز (أوين جونز)، وحمل عنوان (الحرب الأهلية في بي بي سي حول غزة).
يستند التحقيق إلى مقابلات مع 13 صحفيا وموظفين آخرين في هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، يقدمون رؤى رائعة حول كيفية قيام شخصيات بارزة في الخدمة الإخبارية لهيئة الإذاعة البريطانية.
بتحريف القصص لصالح روايات إسرائيل، ورفض مرارا وتكرارا الاعتراضات التي سجلها عشرات الموظفين الذين طالبوا على مدار الأشهر الـ 14 الماضية، بأن تلتزم الشبكة بالتزامها بالحياد والإنصاف.
يتكون تحقيق (جونز) من ثلاثة مكونات رئيسية؛ نظرة مأخوذة بعمق على الشكاوى الداخلية من صحفيي (بي بي سي)، وتقييم كمي لكيفية وصف هيئة الإذاعة البريطانية للحصار المفروض على غزة لمدة عام، ومراجعة تاريخ الأشخاص الذين يقفون وراء التغطية، وعلى وجه الخصوص، المحرر البريطانى (رافي بيرج).
منذ اللحظة الأولى لحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة، والمتواصلة منذ نحو عام وأكثر، وجدت هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) نفسها في قلب الصراع، فاتّهمتها بداية جماعة الضغط الإسرائيلية بالانحياز للرواية الفلسطينية، وهى الاتهامات التي تبيّن زيفها سريعاً.
ثمّ انهالت عليها الانتقادات من قبل الفلسطينيين والمتضامنين معهم، بسبب تعمدها بشكل متكرّر تغليب الرواية الإسرائيلية على حساب الفلسطينية، ونزع الإنسانية عن الفلسطينيين، مقابل فائض من الإنسانية في تغطية قصص قتلى هجوم السابع من أكتوبر.
لكن مع تواصل حرب الإبادة، بات واضحاً الانحياز للاحتلال الإسرائيلي، سواء من خلال التغطية اليومية، أو من خلال التقارير الخاصة، مع بعض الاستثناءات القليلة.
(رافي بيرج) والترويج لإسرائيل
يمكن القول أن تحقيق (جونز)، والذى يعد خلاصة بحث استمر أشهراً، جاء فاضحاً إذ كشف فيه عن خلافات عميقة داخل (بي بي سي) حول تغطية حرب الإبادة، واتهم الهيئة بشكل مباشر بالترويج للرواية الإسرائيلية على حساب الحيادية الصحفية التي تتغنى بها المؤسسة الإعلامية العريقة.
كما ركّز (جونز) على القرارات التحريرية التي يتخذها محرر شؤون الشرق الأوسط في (بي بي سي نيوز أونلاين)، (رافي بيرج) وكيف لعبت دورًا محوريًا في تشكيل تغطية العدوان على غزة.
شهادات 13 صحفياً في الهيئة، اتهمت (بيرج) صراحة بتخفيف حدة المحتوى الناقد لإسرائيل والتقليل من أهمية وجهات النظر الفلسطينية، وهنا يمكن لفت الإنتباه لحديث أحد الصحفيين السابقين في (بي بي سي) عن إن (بيرج) يعمل على تلطيف التغطية المتعلقة بإسرائيل.
بينما أشار آخر إلى أن (وظيفته الأساسية تتمثل في تخفيف أي نقد حاد لإسرائيل)، ويعتقد عشرات الصحفيين أن تغطية مؤسستهم تميل بوضوح إلى تفضيل الرواية الإسرائيلية وإبرازها على حساب رواية الفلسطينيين ومعاناتهم.
كما تواجه (بي بي سي) أيضًا اتهامات بتجاهل الشكاوى الداخلية التي تنتقد هذا التحيز، إذ يشير تحقيق (جونز) إلى أن محاولات معالجة هذه القضايا من قبل الصحفيين واجهت مقاومة من الإدارة، ما دفع الموظفين المعترضين إلى اتهامها بخلق بيئة عمل (تقمع الأصوات المعارضة) وتدفع الموظفين نحو الإحباط.
موضحاً في هذا السياق، أن الغضب الداخلي انفجر في نوفمبر 2024، عندما وقع أكثر من مائة موظف في (بي بي سي) رسالة مفتوحة موجهة إلى المدير العام (تيم ديفي)، واتهم الموقعون (بي بي سي) بالفشل في تقديم تغطية عادلة ودقيقة لـ (النزاع في الشرق الأوسط).
مشيرين إلى أن تغطيتها تميل لصالح إسرائيل بشكل كبير، وطالبت الرسالة (بي بي سي) بإعادة الالتزام بالحيادية الصحفية، داعية إلى تغطية متوازنة تشمل جميع الأطراف وتحقق مع المسؤولين الإسرائيليين بنفس القدر من الصرامة الذي تفعله مع قادة حركة حماس.
أثارت الرسالة تساؤلات حول مدى استعداد الهيئة للتعامل مع الانقسامات الداخلية ومعالجة الانتقادات الموجهة إليها.
بي بي سي أزمة ثقة مستقبلية
تحقيق (جونز) يلفت الانتباه إلى الصعوبات التي تواجهها (بي بي سي) في تغطية العدوان، حيث تُفرض قيود شديدة على الوصول إلى القطاع، وبالإضافة إلى ذلك، يواجه الصحفيون مخاطر كبيرة عند محاولة تغطية الأحداث على الأرض، مما يعقد عملية جمع المعلومات.
وبينما تعترف (بي بي سي) بهذه التحديات، يصر النقاد على أن هذه القيود لا تعفيها من مسؤولية تقديم تغطية متوازنة، ويشير هؤلاء إلى أن الاعتماد الكبير على المصادر الإسرائيلية يؤدي إلى تغييب الأصوات الفلسطينية وتجاهل القضايا الإنسانية في القطاع.
وعليه يؤكد التحقيق أن الهيئة تعاني من أزمة ثقة قد تؤثر بشكل كبير على سمعتها كإحدى أبرز وسائل الإعلام العالمية، مع التأكيد على أن الاتهامات بالانحياز لا تؤثر فقط على مصداقيتها، بل تعرضها أيضًا لضغوط متزايدة من جمهور عالمي متنوع يحمل توقعات عالية بشأن الحيادية.
كما قدّم تحقيق (جونز) أرقاماً عدة حول تغطية (بي بي سي) لحرب الإبادة في قطاع غزة، خالقاً سياقاً ملموساً يؤكد انحياز الهيئة، منها، في أول 9 أشهر من حرب الإبادة، ذكرت 27% فقط من عناوين (بي بي سي) قتل الفلسطينيين، بينما ذكرت 43% من العناوين حركة حماس كقاتلة للإسرائيليين.
كذلك تأخر نشر تقرير منظمة العفو الدولية الذي إسرائيل بارتكاب الإبادة الجماعية 12 ساعة، ليظهر بعدها على الصفحة الرئيسية، لكن من دون نشره في القسم الخاصة بتغطية الحرب على غزة، وحلّل (أوين جونز) 2,900 مقال منشور على موقع (بي بي سي) خلال العام الذي أعقب 7 أكتوبر 2023.
كما ذكرنا مسبقاً، يتكرّر في تحقيق (جونز)، اسم أساسي هو (رافي بيرج)، محرر شؤون الشرق الأوسط في (بي بي سي نيوز أونلاين)، إذ يتهّم التحقيق نقلاً عن صحفيين حاليين وسابقين في الهيئة، (بيرج)، بتوجيه تغطية (بي بي سي) الإلكترونية لدعم الرواية الإسرائيلية وتقليل الانتقادات الموجهة لإسرائيل.
إلى جانب قيامه بدور أساسي في فلترة وتخفيف حدة التقارير النقدية لإسرائيل أو إعادة صياغتها لتقليل تأثيرها، وينقل التقرير عن عاملين في الهيئة أن (بيرج) يدير تغطية الشرق الأوسط بشكل دقيق.
ويتحكم في العناوين والنصوص والصور بما يتماشى مع وجهات النظر الإسرائيلية، علماً أنه يملك صلاحيات رفض أو إعادة صياغة المحتوى، وغالبًا ما يُقصي وجهات النظر الفلسطينية.
كذلك من الاتهامات الموجهة (لبيرج) أيضاً، تجاهل السياقات المهمة وإغفالها في تغطية العدوان على غزة، مثل الخلفية التاريخية للاحتلال الإسرائيلي وانتهاكات حقوق الإنسان، أي تقديم عملية (طوفان الأقصى) بصفتها (فعلا إرهابيا) لا سياق له، كما اتهم الصحفيون (بيرج) بعدم تحميل الاحتلال الإسرائيلي مسؤولية الجرائم والمجازر في غزة، سواء في العناوين أو في التغطية.
اتهام آخر وُجّه (لبيرج) في التحقيق، وهو استخدام لغة غير متسقة، ومصطلحات مثل (مجزرة، وفظائع) بشكل أكبر لوصف عملية (طوفان الأقصى)، بينما يتم تجنب استخدام هذه المصطلحات لوصف مجازر الإسرائيليين، كما تميل القصص إلى تأييد تصريحات الحكومة الإسرائيلية وعرضها كحقائق، بينما تُعامل المصادر الفلسطينية بشك أكبر.
لكن الأهم في الانتقادات الموجهة إلى (رافي بيرج)، مشاركته في فعاليات مؤيدة لإسرائيل خلال السنوات الماضية، إلى جانب الكتاب الذي أصدره عن جهاز الموساد ويُظهر جهاز الاستخبارات الإسرائيلي بشكل إيجابي.
وأمام كل هذه الانتقادات قال الموظفون إن الإدارة، رغم علمها بهذه المخاوف حول بيرغ، فشلت في معالجة أو التحقيق في هذه الاتهامات بجدية.
وبحسب (أوين جونز) تُظهر هذه الأزمة الحاجة إلى إصلاحات تحريرية داخل (بي بي سي)، قد تشمل تحسين آليات الرقابة الداخلية على المحتوى، وإعادة النظر في سياسات التحرير المتعلقة بتغطية الصراعات الدولية، كما يمكن أن تسهم زيادة التنوع في وجهات النظر داخل غرف الأخبار في تعزيز التوازن في التغطية.
لكن حتى الآن، يشير (أوينز) إلى أن الهيئة استجابت للانتقادات بمزيج من الدفاع عن سياساتها التحريرية وتأكيد التزامها بمعايير الصحافة المهنية، ومع ذلك، تشير الأزمة إلى أن هذه الاستجابة قد لا تكون كافية لمعالجة القضايا الجذرية التي تواجهها المؤسسة.
وماذا بعد؟
ربما تزامن نشر تحقيق (ينيف كوفوفيتش) – الإسرائيلي – وتحقيق (أوين جونز) – البريطاني -، لكن المؤكد هو أن الإجرام الإسرائيلي متواصل وسيتواصل وستتواصل القصص الإخبارية للإعلام الغربي والإسرائيلي بشأن الجرائم التي ترتكب في حق المدنيين الفلسطينيين.
ولن يردعها أحد في وقت تعتقد فيه إسرائيل إنها تعيش فيه عصرها الذهبي، وهى تعيد فك وتركيب الشرق الأوسط كما تريد، وتحتل غزة وأجزاء كبيرة سوريا وبعضاً من لبنان، وقد وزعت نيرانها على كل الشرق الأوسط، وقد نكون أمام تفوق عسكري إسرائيلي لسنوات.
لكن ما لم ترَه إسرائيل بعد أنها فقدت رصيدها الأخلاقي، وتلك فواتير أشد فداحةً حين يأتي وقت سدادها ستعرف أنها عاجزة عن السداد، وحينها ستدرك حكمة التاريخ بأن الإمبراطوريات قبل انهيارها لا بد أن تشهر إفلاسها الأخلاقي كمقدمة.