بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
أيقظونى الإخوان من عز النوم نهارا في.. كنت أنام نهارا وأسهر ليلا رائحا غاديا في الطرقة البالغة الطول والتي تفصل بين العنابر في (طرة) هربا من الحشرات.. أبلغونى أن هناك نزيلا جديدا قد وصل لتوه.. يبدو من لكنته أنه من بورسعيد.. وأننا حينما دخلنا عليه زنزانته الانفرادي أخذ يصرخ فزعا لمنظر لحانا المطلقة البيضاء والسوداء..
خرجت معهم و أنا أخمن بأنه قد يكون الشاعر البورسعيدى (ممدوح بدران) .. وقفت أمام الزنزانة الانفرادية في (طرة) أتأمله.. كان الرجل كبيرا في السن يرتدى جلبابا متواضعا مخططا و يربط على رأسه منديلا محلاويا .. تتوزع على جبينه علامات صلاة متعددة..
كان الرجل متقوقعا في إحدى زوايا الزنزانة الانفرادية وأمامه على الأرض طبق خبيزة و طبق أرز ورغيف خبز.. اقتربت منه مترددا وألقيت عليه السلام.. لم يرد.. جلست بجانبه متوددا.. كان الرجل في منتهى الغلب.. التفت لي.. وقبل أن ينبس بكلمة انخرط في البكاء .. ربت على كتفه .. ٍسألنى في رجاء – هو أنتم جايبينى هنا ليه؟
– أنا معتقل .. زيى زيك تمام
– معتقل ازاى و انت لابس البيجامة دى .. دى ولا بيجامة الخواجات
– و الله العظيم يا سيدى أنا هنا زي زيك .
– و حياة الغاليين عندك .. هفضل هنا لامتى؟
– أقول له ايه دا بس؟
– صارحنى و النبى ياحضرة الضابط.
– ضابط؟ .. طيب طالما أنا ضابط بقى .. اسمك إيه بالكامل؟
– اسمى عباس المغربى .. هارجع بيتنا امتى و النبى؟
أردت أن أطمئنه.. ربت على كتفه قائلا – أسبوع بالكتير يا عم عباس .
طار طبق الخبيزة
طار طبق الخبيزة من يده مرتطما بكل ثقله في وجهي.. كانت الخبيزة تسيل بقوامها الغليظ وهو يصرخ:
أسبوع ليه يا ولاد الكلب..ليه.. هو أنا كنت سارق سريقه ولا قاتل قتيل؟
نهضت من جلستى مسرعا بالخروج قبل أن يلحق بى طبق الأرز الغاضب الذى رن مرتطما بأرض الزنزانة بجوار قدمى مبعثرا الأرز في كل اتجاه.. استقبلنى الإخوان المسلمين بصابونة وأكثر من فوطة.. لم يفلح الصابون في إزالة دهون الخبيزة ورائحتها القذرة التي انغرست في مسام وجهى وأغشية أنفى.. لا أبالغ في تأكيدى بأن هذه الرائحة مازالت عالقة بى إلى هذه اللحظة ..
تكونت لدى وتضخمت عقدة هائلة تجاه عم عباس المغربى.. أبلغونى بعد أيام أنه مازال ممتنعا عن الطعام .. وأنه على شفا الموت.. حاولوا اقناعى بدخول زنزانته ولو لدقائق لإنقاذ حياته.. تمسكت برفضى التام و انصرفت ..
بعد شهور .. وكعادتى اليومية في السير لا إراديا ناحية سور المعتقل العالى جدا جدا وكأننى أتبع بوصلة مغناطيسية كالموجودة في رؤوس الطيور والتي تشير دائما إلى اتجاه الحرية..
ولأتحدث مع العساكر المزروعة في أكشاك المراقبة بسجن (طرة) والتي في أصلها هى زنازين خشبية صغيرة تتناثرا على الأسوار.. سمعت من يلح على في النداء (يا إبراهيم أفندى.. إبراهيم أفندى )..
التفت ليفاجئني (عم عباس) مهرولا ناحيتى والعرق يتصبب من جبينه.. عاودتنى رائحة الخبيزة تهب كرياح قوية تلف وجدانى كله ..
– أنا جاى استسمحك علشان رميتك بالسبانخ يا إبراهيم افندى .
– بس دى مش سبانخ يا عم عباس .. دى خبيزة
قلتها و أنا أجلس على الأرض مستندا بظهرى إلى السور.. انحنى الرجل مقبلا رأسى معتذرا.
– كلامك طلع صح يا إبراهيم أفندى.. شكلها فعلا مش هخرج إلا بعد أسبوع.
– أسبوع ايه بس يا عم عباس .. الكلام ده بقاله سنة.
– بس انت قلت لى قدامى أسبوع .. قلت أسبوع ولا ماقلتش؟
أحسسته منتفضا يبحث في الهواء عن طبق خبيزة آخر يرمينى به.. وقفت سريعا لتهدئته..
– اسمع يا حاج .. من الآخر كده.. شوف (السماوي) بيعمل ايه و اعمل زيه..
– بيعمل ايه السماوى ؟
– بيربى فراخ وبط ورومي واللى ما بيعجبوش بيعتبره كافر وبيعزمه وبيسممه
– و الفراخ دى هجيب لها أكل منين هي رخره؟
– ازرع شجرة زى اللى قدامنا دى قدام الزنزانة وأرويها كل يوم.. اشغل نفسك وخلاص.
– بس دى شجرة خوخ.. لو زرعتها النهارده مش هتطرح إلا بعد سنة.
وجدتها فرصة لأطرد بها ما تشبث بمسامى من رائحة الخبيزه – و انت يعنى ضامن انك هاتخرج من هنا قبل 15 سنه؟
-15 سنه ؟!!
غمامة من أبخرة الخبيزة
التوت ساقى الرجل تحت ثقله.. انهار جالسا إلى الأرض.. حاول القيام فلم يستطع.. كرر المحاولة ليقف متحاملا على نفسه وقد الم دوار برأسه.. مرتجفا التفت موليا لى ظهره.. تناهى الى نحيبه خفيضا وهو يغادرنى مبتعدا تتبعه غمامة من أبخرة الخبيزة وكأننى قرأت رقية صرفت عنى جانا تلبسنى لعام كامل ..
عاودت أحاديثى مع عساكر الحراسة أسمعهم آخر أشعارى.. أسألهم أسماء قراهم وأحوال عائلاتهم.. أكتب لأسرهم خطابات تطلعنى على أدق تفاصيل مشاكلهم وظروفهم العائلية ..
عقب أحدهم فجأة – الراجل اللى كان قاعد معاك ده شكله غلبان قوى .. بس غاوي قراية ومتثقف..
– هو مين اللى متثقف؟.. دا لا بيعرف يقرا ولا يكتب .
– ازاى الكلام دا.. دا كل يوم بيجى يقعد هنا في عز الشمس وماسك كتاب وبيقعد يقرا فيه لما بيتعب.
– طب و ايه اللى عرفك كمان انه بيتعب؟
– بيبقى قايم مش قادر يجر رجليه
تسائلت وأنا أسير عائدا (عباس المغربى بيقول عن نفسه انه تور الله في برسيمه .. ولا يعرف الألف من كوز الدرة.. أومال ايه حكاية القراية دى كمان؟.. يكونش رتبه في أمن الدوله مزروع بينا في (طرة) علشان يعرف أسرارنا ؟.. أدركت أن وراء الرجل سرا.. و كان لابد لى أن أسعى لمعرفته مهما كلفنى الأمر .
عباس المغربى
عــلــى (بُـــرش) جـنـبـى .. شخص جاهل .. أُمى
جــــاى لاجــــل جـــــارُه .. إشـــتــكــاه للـسُـلـطـــــة
عــمـــره مــــا قـــــال حـــرفـــيــن ســيــاسـه يا أمي
ولا حتى يَفْقَه .. غــيــر فـــى أكـــــــل الــسـَــلَــطـــَة
…………………………………………………..
عـــلـــى (بُـــرش) جــنــبـي .. دمعه لون كراكيبك
يــــا شـــمــعــة.. مـــش شـــايـــفــة ضـــــلام الليلة
دا حـــــرام عـــلــيــكــي.. ظُــلــم قــلــب حــبــيــبــك
وحـــرام عــلــيــكـي.. تـشـتـتـى فـــــى الـــعــيـــلـــة
…………………………………………………..
مـــنــديــــل مـــحــلاوي قـــــديــــم ع الـــــقـــــــورة
و (الــجـــلابـــيـــة) رزيّـــــة.. مــش مـظـبـوطـة
غـــلــبــان.. وعــمــره يـــوم مـا بـان فـى الـصـورة
ولا كــــان لــسـكــة عـــــمـــــره أى خـــــريـــطــــــة
…………………………………………………..
ســيــبــى الــفــقــيــر يـــا مــصــــر يـــخــرج بــــره
داخــــل لــســجــنــك .. والـــقــــرار جــمــهــــــوري
الـــعــيــشــة كـــانـــت مُــــرة.. صــبـحـت مُــــــــرة
والــقـلـب خـــايـــف .. م الـــهــــدوم (الــمـيـري)
…………………………………………………..
يــــا ســـــت مـــصـــر .. يـــا ســاجـنـة كـــل ولادك
يـــا قــطــة مــش طــايــقـــة جــنــاح الــصــاحــــب
حـــيـــرتــــى كــــل الــصــحـبـة.. جـــــوه بــــلادك
عـــمــرك ما قــولــتـى لـــحـــد فـــيــنـــا (مـــراحــب)
…………………………………………………..
الــــراجــــل اللـــى اتــهـــان فـى لــيـل زنـازيـنـك
مـــا عـــنـــده فــكـــرة.. حــتــى عــن أخـــبــارك
إنــتــى يـــا مــصـر يــا قــاسـيـة.. بـيـنـى وبـيـنك
كــاويــة قــلــوب كــل اللــى قـــال .. مــــن نــارك
…………………………………………………..
(أمــــي) ولا عـــمــــره نــطــق فــى الـحـــارة
ولا عـــنـــده فــكـــرة عـــن ســيـاســـة غــريــبـة
ولــعــتى قــلـبــه… للـــــى دَاسُــــــه ســيـجــــارة
ولا كــنــتــى أبـــدا لأجـــــــــل قـــلــبــه حـبـيـبــة
…………………………………………………..
إيــــه اللــي جــــالِك .. مــــن عـــذابُــــه وقــهـرُه
إيــــــه اللــــي نـــابـــــك .. مـــن خــــراب أيـامـه
إنــتـى حـنـيـتـي يـا مـصـر .. روحــــه وضــهــره
وحــرقــتــي أعـــلامـــه .. مـــــــع أحـــلامــــــــه
…………………………………………………..
عـلى (بُـرش) جنبي .. صـــوت شخيرُه العالي
صــحــانــي لأجـــل اكــتـــب قــصـيـدة مـعـارضة
تــلــعــن حــروفــهــا.. فـــى الــزمـــان الــحـالي
وتــقـــول دى أرضــــك.. زى عــرضــك فوضى
…………………………………………………..
يــــا أمـــى .. ســيـبـى (الأُمـــي) يرجع عيلته
نسيه سنين الــــســـجـــــن.. والــــزنــــزانـــــة
ســـاعـــديــــه يــا مـصـر.. وخـفـفي من شيلتُه
كـــونـــى مــعــاه ع الــسـكـة.. طــيــف إنسانة
…………………………………………………..
صدر القرار جمهورى يا عباسنا
يا بو الدموع الباينة فوق تلفيعتك
إنت يا (عم الحاج) فوق على راسنا
لو كنت فاهم حاجة.. كنت سمعتك
…………………………………………………..
عينى عليكى يا ساجنة كل عيالك
حتى العويل اللي ما زال مش دارى
فيه ناس كتير يستاهلوا ضرب نِعالك
فيه ناس كتير عايزانا نبقى جواري
…………………………………………………..
(عباس) بلاش تناديني لو هاتشوفني
أنا قلبي متقطع بدون حواديتك
الحزن جوه السجن قام كتفني
من قبل ما يخرب بسجنك بيتك
…………………………………………………..
يا ميت ندامة وألف ألف ندامة
ع اللى بترمى إبنها فى (الروبة)
إيه اللى خلى فوق جبيني علامة
نبكي ونشكي بدمع م المحبوبة
…………………………………………………..
أنا (معتقل) خليني لكن سيبي
(عباس) يعود علشان يساند أهله
أنا هاكْتِبُه بعد الخروج فى كتابي
واحكى لكل الناس حقيقة جهلُه
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد