بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
كان معتقل (طرة) يضج بآلاف من الإخوان المسلمين.. وفي عنبر (2 ) كان أبرزهم يجتمعون سويا.. يقبع في إحدى أركان العنبر في (طرة) الزعيم (شكرى أحمد مصطفى).. والذى كان متعاطفا مع الإخوان المسلمين.. أسس (شكرى) فيما بعد (جماعة التكفير والهجرة) الذى قتل عام 1977 الشيخ محمد حسين الذهبى وزير الأوقاف..
رأيته شابا هادئا.. منطويا على نفسه.. يرسم للفاكهة لوحات ويبيعها لنا لنهديها تذكارا لمن يزورنا.. كان يرفض أن يرسم أي مخلوق له روح لمعتقداته في كونها حرام ..
في ركن آخر الشيخ (عبد الله السماوي)..صاحب (جماعة السماوي) التي اشتهرت فيما بعد في الثمانينات بحرق أندية الفيديو..
وقتها كان يتبنى فكرة الانسحاب من المجتمع.. لم يكن (السماوي) يتكلم سوى باللغة العربية الفصحى.. كان محترف اعتقال.. فقد قضى داخل المعتقلات وآخرها (طرة) أكثر مما قضى خارجها حتى أن أول عهده بالاعتقال كان في الخامسة عشر من عمره..
رأيت الشيخ (السماوي) يربى دجاجا وبطا وديوكا رومية أمام زنزانته.. دعانى ذات يوم لتناول الغذاء معه.. و قد لبيت دعوته رغم تحذيرات عدة لى من كونه قد يدس السم لى في الطعام ..
قابلت بين جنبات (طرة) الشاعر (محمود الماحي).. كان يقول الشعر في موالد الإمام الحسين والسيدة زينب والإمام الشافعي والسيدة سكينة والسيد البدوي، وعندما قدمه الإعلامي (أحمد فراج) في برنامجه التليفزيوني (نور على نور) ألقى قصيدتين .. وقد شاهدت أم كلثوم البرنامج فأرسلت إلى الشاعر (محمود الماحي) ليذهب لمقابلة (أم كلثوم).
رأيت أحمد رائف
وطلبت منه قصيدة لتغنيها في عيد ثورة 23 يوليو والذي سيحل بعد شهرين فكتب قصيدة بعنوان الفجر الجديد ولحنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم عام 1966.. جاء إليّ (الماحي) ليرحب بى.. عرفت منه أنه سجن بسبب قصيدة لأحمد فؤاد نجم الذى أدعى أنه مؤلفها، وسلم نسخة منها لمدير مكتب عبد القادر حاتم وهو أحد مؤسسى المخابرات فتم القبض عليه ..
رأيت في (طرة) أيضا (أحمد رائف)، وهو من قيادات الإخوان صاحب الكتاب الشهير (البوابة السوداء).. و كتاب (سراديب الشيطان)..تم اعتقاله بعد قرار حل جماعة الإخوان المسلمين مع بقية أعضائها ..
كذلك (على محمود).. وهو مدير وكالة (الآسوشيتدبيرس) الأمريكية.. وهى وكالة أنباء أسسها 6 من رؤساء تحرير الصحف الأمريكية ليشتركوا في تكلفة الحصول على الأخبار و توزيعها على صحفهم..
كان على محمود متهما بالجاسوسية.. ورغم أن المحكمة برأته الا أنهم أحضروه إلى (طرة) ..
أيضا تعرفت إلى الوزير (عبد الفتاح باشا حسن).. كان وزيرا وفديا مشهود له بالكفاءة.. قضى فترة من عمره مديرا لمكتب وزير الداخلية (فؤاد باشا سراج الدين).. و استمر في منصبة أثناء وزارة أحمد ماهر.. ووزارة النقراشى..
وكان له دور مشهود في مساندة المقاومة الشعبية ضد الاحتلال الإنجليزي في منطقة القناة.. و حينما أراد عبد الناصر أن يعينه وزيرا في عهده اعتذر مما أضرم العداوة بينهما..
بالإضافة إلى خشية عبد الناصر من شعبيته.. فسارع إلى اعتقاله تحفظيا.. وبالمناسبة فقد كان (عبد الفتاح باشا حسن) ضمن المعتقلين مرة أخرى بأوامر السادات فيما بعد في اعتقالات سبتمبر هو و(فؤاد باشا سراج الدين) أيضا ..
كنت أراه في معتقل (طرة) مشغولا دائما بلعب الطاولة مع شاب يتعمد إهانته كلما حبسه في خانة اليك.. كان هذا الشاب – و هو حاصل على دبلوم صنايع – اسمه (ربيع).. اعتقلوه لأنه رسم حمارا وكتب عليه عبد الناصر وأرسل الصورة في خطاب إليه..
كان يتابع دور الطاولة شاب آخر اعتقلوه لأنه كان يقف في طابور الجمعية التعاونية وأخبره موظف الجمعية أن الأرز غير موجود فرد متسائلا: (يعنى أيه.. نعمل المحشى بالاشتراكية؟).. ليجد نفسه ملقى في (طرة) بين الألوف..
على أبو حصيرة
تعرفت على صالح أبو رقيق.. وهو من رفاق (حسن البنا) الأوائل.. وقد كان له الدور الأبرز في ترشيح (الهضيبى) مرشدا للإخوان عقب مقتل (حسن البنا).. و قد عرفنى بالفعل على الشيخ حسن الهضيبى و الذى قمت بزيارته فيما بعد في مستشفى المعتقل..
كان هناك شاب فلسطيني اسمه (على أبو حصيرة).. ظهرت عليه أعراض متأخرة لكتابة الشعر.. أقنعته أن يرسل أشعاره لأم كلثوم.. و قد سربها بالفعل مع بعض من أفراد عائلته أثناء زيارتهم له، والتي كانت تمتلك محلا كبيرا لبيع الملابس في السيدة زينب..
وفي كل زيارة لهم كنت أسمعه يتشاجر معهم لأنه لم يسمع (أم كلثوم) إلى الآن وهى تغنى أيا من أغانيه ..
داخل عنبر النشاط المعادى.. اتخذت ركنا قصيا.. وداخل بطانية طرحتها على قوائم بشكل خيمة اتخذت منها حجرة خاصة.. وضعت أمامها قفصا تعلوه علبة تحوى أشيائي التي استعملها يوميا ..
تكاثرت الحشرات في المكان ومنعتني من النوم ليلا لدغاتها وتحركاتها القميئة على الجلد ما ظهر منه وما بطن.. أمسيت الليل كله أتجول في أركان المعتقل حتى ألمح خيوط الفجر، وقد استلمت عهدة النهار من ظلمة الليل فأذهب داخل الغرفة البطانية محاولا النوم ..
سلمت بطانيتين لمعتقل غزاوى فحشى ما بينهما طبقات من القش المضغوط وحولهما إلى مرتبة.. كما قام آخر بتوضيب بدلة المعتقل مقابل بضعة سجائر والتي هى عملة التداول في المعتقل ..
في الصباح يقوم من يصيبه الدور (النباطشى) بتوزيع الأرغفة المقررة.. و كذلك طبق الفول البارد وقطعة من جبن هى حصة الإفطار والعشاء.. أما الغذاء فقد كان من الأرز والخبيزة، وفي بعض الأحيان قطعة من اللحم الكاوتشوكى المختبئة في أرتال من الدهن الصلب ..
الصيدلي على حتحوت
تعرفت على حتحوت – صيدلى الإسكندرية – الذى كان متهما بصناعة قنبلة من الجاز والماء و الميكروكروم.. كان يتميز بخفة ظل متناهية.. كان يمسك بقطعة اللحم الكاوتشوكية في غيظ ليخاطبها (أقسم بالله لولا انك كبيرة في السن لكنت ضربتك بالجزمة)..
سألت حتحوت: قريت في الجرايد عن التركيبة العجيبة اللى بتعمل منها القنبلة.. جاز وماء و ميكروكروم؟
كلامهم صح
طب اشرح لي
الجاز علشان يولع.. والماء علشان يطفى الولعة.. و الميكروكروم علشان يعالج أي حد يتعور!
وانفجر في الضحك.. شاركته الضحك بأعلى الصوت..
و
المكفراتى
يا (مكفراتي) الكل.. دقنك خشنة
رُد السلام يا أخ مش إخوانى
يا (فظ).. من شكلك فى لحظه طفشنا
وحلفنا ما هانفوت عليك من تانى
………………………………
بتكفر الإخوان فى قلب سجونهم
وانت اللي كافر بالإله الواحد
آدى القانون .. ما اقدرشي لحظة يدينهم
وانت الوحيد اللي انت ليهم جاحد
………………………………
دقنك خلاص وصلت لِبَعد (الصُرة)
والفكر عندك كُله (صِفر) و(جاهل)
عمرك فى يوم أبدا ما تاخد (بَصرة)
ولا يوم سلامنا عليك يكون بالساهل
………………………………
يا مكفراتى هربت منك.. لكن
جيتلي فى زنزانتى عشان تنصحني
(الجو) فى كل العنابر داكن
وانا لسه مش عايز رياح تجرحني
………………………………
ياعم سيبك من كلام براني
افتح كتاب الله هاتلقي خلاصك
أنا مش شيوعي نهائى .. أو إخواني
ولا عمرى يوم أبدا هاكون من ناسك
………………………………
يا (مكفراتى).. إنت دينك غيرنا
رغم الصلا والصوم.. وحفض الآية
طيرك لا يمكن يوم يلوف على طيرنا
ولا يوم هاشوفك جوه أى مراية
………………………………
إرحمنى من أفكار عبيطة.. دنيئة
واتركنى أكتب شعر عن أحوالي
الكلمة لو واقعية.. تبقى مضيئة
يا غريب فى فكرك جوه وضعي الحالي
………………………………
إنت اللي كافر.. حتى كُفرك واضح
يابو الكلام مزروع فى أرض الضلمة
وحياة إله الكل.. فعلك فاضح
ولا لك فى قاموس المبادئ كلمة
………………………………
حتى أدانك مختلف وكلامك
حتى سلامك.. أو طريقة أكلك
ويا الجميع فى السجن .. لك إسلامك
هاتخلي لون الضلمة يصبح أحلك
………………………………
يا مكفراتى الكل .. هاتأخرنا
ومفيش أمل أبدا تغيّر لونك
عمرك فى يوم أبدا ما هاتسخرنا
لرياح شيطاني جوه بحر جنونك
………………………………
قلت (المرتب) دا حرام على جيبنا
وان اللي مش وياك هايصبح جاحد
إزاي بحبل الجهل جاي تسحبنا
واحنا بنسجد للإله الواحد
………………………………
إزاي تقوللي على الجميع مش مؤمن
إزاي تعيب فى شيوخ قلوبهم طاهرة
جوه السجون المُرة.. برضه بتسجن
كل اللى خالفك فى الفتاوى العاهرة
………………………………
يا مكفراتى بلاش تناقش قلبي
بالنسبه لىّ.. إنت حاجة غريبة
عمري ما اسيبك لحظة تسجد جنبي
وانت القرف والجهل.. وانت العيبة
………………………………
شبشب قديم وعفار مع الجلابية
ماشيين فى كل مكان وجوه العنبر
بتقول على الإخوان (جيوش حرامية)
وتقول بأنك من إيمانهم أكبر
………………………………
شوفتي يا مصر الخيبة.. خيبه قوية
(تكفير) و (هجرة) وكله شئ تحتاني
قومي انقذي الباقى من ابن رزيَّة)
قبل (السجين مظلوم) ما يصبح (جانى)
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد