بقلم المخرج المسرحي الكبير: عصام السيد
في مثل هذه الأيام من عام 2010 وقفت على المسرح الكبير في دار الأوبرا السورية أمام وزير الثقافة السورى الدكتور رياض عصمت – رحمه الله – لأتلقى أول تكريم دولى لى خارج مصرعن مجمل مسيرتى المسرحية، و ذلك خلال حفل ختام مهرجان (دمشق) المسرحى الخامس عشر.
وتذكرت أن أول مشاركة لى في مهرجان دولى خارج مصر كانت أيضا في مهرجان (دمشق) عام 1986، وخلال تلك السنوات توالت زياراتى لسوريا، تلك الزيارات التي ساهمت في تكوينى وبفضلها اتسعت مداركي.
فلقد كان مهرجان (دمشق) المسرحى هو أول لقاء بيني و بين المسرح العربي، فبرغم أنني شاهدت بعضًا من مسارح أوروبا خلال رحلاتى، إلا أنني كنت على جهل تام بالمسرح العربي بسبب القطيعة السياسية ما بين مصر ومحيطها العربي التي امتدت لحوالي عشر سنوات بسبب اتفاقية كامب ديفيد عام 1978.
كنت قد قدمت عرضى الأول في المسرح القومى تحت اسم (عجبي)، تلك الكلمة التي كان (جاهين) ينهى بها رباعياته الشهيرة، فالعرض كان يحكى مسيرة ذلك الشاعر الفذ متعدد المواهب.
وبعد الافتتاح بأيام أبلغتني الاستاذة (سميحة أيوب) بأنه تقرر سفر العرض الى مهرجان (دمشق) المسرحي، مع عرض الوزير العاشق للشاعر (فاروق جويدة) والمخرج (فهمى الخولي)، ومن بطولتها مع الفنان الكبير عبد الله غيث.
وبما أنه لا توجد علاقات دبلوماسية مباشرة مع سوريا في ذلك الوقت جاءت الدعوة للمهرجان عن طريق اتحاد النقابات الفنية الذي يرأسه الأستاذ (سعد الدين وهبة) وهو كيان نقابي غير حكومي.
في الطائرة المتجهة إلى (دمشق) اكتشفت أن الوفد المصري وفد ضخم يضم رموزًا ثقافيةً و فكريةً كبيرة : منهم الكاتب يوسف إدريس و الدكتورة لطيفة الزيات و الكاتب كامل زهيري والناقدة فريدة النقاش والصحفي مفيد فوزى والكاتب محمد سلماوي، والناقدة عبلة الرويني والشاعر عمر نجم.
إنشاء اتحاد للفنانين العرب
وأثناء رحلة الطائرة جلس معنا الأستاذ (سعد) ليصرح لنا أنه يحمل رسالة من الرئيس حسنى مبارك إلى الرئيس حافظ الأسد لكسر عزلة طالت بين مصر وأشقائها العرب وأنه سيطرح أثناء المهرجان مشروع إنشاء اتحاد للفنانين العرب يكون بديلًا للقنوات الديبلوماسية الرسمية حتى يعود التقارب مرة أخرى بين مصر وشقيقاتها.
فليس مثل الفن خالقًا للوحدة والألفة، وأوصانا جميعا ألا نتورط في مناقشات سياسية قد تفسد مهمته، وأن نعتبر أنفسنا في مهمة شبه رسمية من أجل إعادة مصر الى الصف العربي.
وخلال تلك الرحلة نجح الأستاذ (سعد الدين وهبة) في مسعاه، و في (دمشق) تم الإعلان عن إنشاء اتحاد الفنانين العرب، واختيرت مصر لتكون دولة المقر – برغم أنه في نفس الوقت كانت جامعة الدول العربية قد انتقلت الى تونس.
وفي جلسة ضمت الوفود العربية في المهرجان جرى توقيع البيان الأساسي لتكوين الاتحاد من معظم الفنانين المتواجدين في المهرجان – و كنت أحدهم – ورأيت السعادة في عيون الأستاذ (سعد)، وقد ساهم في أولى خطوات عودة مصر لأشقائها، والتي تمت رسميا بعد تلك الرحلة بأربع سنوات.
تلك كانت سوريا.. قلبا للعروبة ورمزا للصمود، و لذا كلما قرأت أخبارا عن ما يجرى في سوريا ينتابنى حزن كثيف، وكأنى أغرق في ماء ثقيل.. ثقيل على القلب والروح والبدن.. غصة تخنق الصوت وتمنع الكلمات، ولا يبق سوى الدموع، و لكنها تأبى النزول فتتحجر لتزيد الألم.
شجن يمزقنى وأنا أتذكر أيامى هناك في ربوع دمشق، فلقد زرتها مرات ومرات وعشقتها عشقا كبيرا حتى أننى أحفظ شوارعها وحواريها عن ظهر قلب، وكأنى ولدت فيها، وأهلها هم الأقرب إلى القلب والروح.
حاولت جاهدا خلال الأيام الماضية أن أفهم ما يجري، ولماذا اجتاحت ما تسمى بقوى المعارضة مساحات شاسعة؟، أو لماذا انهارت القوى السورية الحكومية بتلك السرعة وتخلت عن مدن رئيسية لم تستطع المعارضة الاستيلاء عليها في خضم حربها السابقة؟
وكيف استعدت تلك المعارضة لتلك المعركة سنوات طوال منذ 2017 وحتى الآن تحت سمع و بصر مخابرات النظام؟، ولماذا تم السكوت عليها؟، وجاءت إجابات تثير أسئلة أكبر وأكثر، فالمعارضة ليست كيانا واحدا بل عدة كيانات أكبرها وأكثرها تأثيرا كيانين رئيسيين:
تنظيم تحرير الشام
الأول هيئة أو تنظيم تحرير الشام وهى جماعة سلفية جهادية كانت معروفة باسم (جبهة النصرة)، ثم انضمت لها تنظيمات أخرى مثل: (جبهة أنصار الدين، و جيش السنة، ولواء الحق، وحركة نور الدين الزنكي، وحركة أحرار الشام، كما انضمّ لها عدد من الأفراد والمقاتلين من سوريا وخارجها.
وعلى الرغم من الاندماج وتغيير الاسم وما إلى ذلك من الخُطوات فإنّ بعض الدول لا زالت تُشير إلى الهيئة باعتبارها فرع تنظيم القاعدة في سوريا، برغم أن هيئة تحرير الشام قد نفت ذلك، مصرة على أنها كيان مستقل وليست امتدادا لتنظيمات أو فصائل سابقة.
والثانى قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، الذى يتكون من تحالف متعدد الأعراق والأديان للميليشيات التي يغلب عليها الطابع الكردي، و تتحالف معها ميليشيات عربية وآشورية وسريانية، بحيث يشكل الاكراد أكثر من 40 % منها و تسعى إلى إنشاء سوريا علمانية، ديمقراطية، وفدرالية.
على عكس الكيان الأول الذى يسعى لابتلاع الأراضى السورية كلها توطئة لإنشاء الدولة الإسلامية الكبرى.
وإلى جانب الكيانين الرئيسيين هناك عشرات التنظيمات أو الميليشيات، وبدلا من معرفة اسمائها (التي تفوق 100 اسم)، أو معرفة هوياتها الأيدلوجية يمكنك أن تفهم الحالة السورية كلها وتفك تشابكاتها، وتحل معضلاتها لو عرفت اللاعبين الرئيسين خلف الكواليس.
إنهم الولايات المتحدة وتركيا وبعض دول الخليج، بالإضافة للاعب الخفى وهو الكيان الصهيوني، في مقابل سوريا ومن خلفها روسيا وإيران وحزب الله، عندما تدرك ذلك ستفهم على الفور حقيقة الوضع في تلك الحرب.
فعلى أرض سوريا يجرى تصفية الحساب مع حزب الله و إيران من ناحية لمنعهم من مساندة غزة أو إقلاق الكيان وتهديد سكانه، و صياغة واقع جديد في الشرق الأوسط كما زعم نتنياهو.
واستغلت تركيا الفرصة لتصفية حسابها مع الأكراد من ناحية أخرى، بالإضافة الى شغل روسيا عن معركتها مع أوكرانيا او على الأقل تقليص تواجدها في المنطقة، و هكذا اتفقت الذئاب على الضحية أو كما قال عمنا وأبو الشعر العامى المصرى (فؤاد حداد):
(أصل الحكاية اتفاق.. وكلهم حلفاء.. في حلف أطلنطى)
إذن ما يجرى في سوريا ليس من أجل مصلحة المواطن السورى ولا سعيا وراء حياة أفضل، وإنما هى تصفية حسابات لدول أجنبية تستغل الدم السورى – و دماء جنسيات أخرى – من أجل صياغة واقع جديد ينعم فيه الكيان الصهيوني بالأمان التام فلا تؤرقه مقاومة ولا تقف في وجه أطماعه التوسعية.
وتستعيد فيه الولايات المتحدة سيطرتها على ثروات الشرق الأوسط كاملة، سواء ما ظهر أو مازال في باطن الأرض أو البحر ولا يزاحمها فيها شريك، وتستريح فيه شريكتها تركيا من صداع المقاومة الكردية، ومن منافسة فارس لها في أحلامها الامبراطورية.
وللحديث بقية..