بقلم الفنان التشكيلي الكبير: حسين نوح
أعتقد وقد اُجزم أن أهم ما تميزت به مصر هو تاريخ ثري وثروة من عظماء التنوير ورجال الفكر والثقافة ثم مبدعين حقيقيين في مختلف أنواع الفنون تعرّف منهم المحيط العربي بل والإقليمي على مواهبهم في شتى أنواع الفنون فمن (محمود المليجي).
ولعل أبرزهم في الفن التشكيلي (مختار في النحت، وعبد الوهاب الوشاحي، آدم حنين، محمود سعيد، راغب عياد، سيف وانلي، صلاح طاهر في التصوير)، وفي الموسيقى والغناء (سيد درويش، أم كلثوم،عبد الوهاب.
ولا نغفل أبطال التمثيل (يوسف وهبي، أنور وجدي متعدد المواهب)، وصولاً للإخراج من( أنور وجدي ليوسف شاهين، بركات، صلاح أبو سيف وحسين كمال) الذي يستحق أن يتعرف عليه مرة أخرى بعض النقاد.
فأنا اعتبره عملاقاً من أهم مخرجي السينما المصرية، وكثير من هم عمالقة، وحين نتحدث عن عمالقة أتذكر المبدع (محمود المليجي) هذا العملاق الذي يستحق مزيداً من كتب ومقالات لنعرف قدراته الإبداعية في فن التشخيص وعشقه للتمثيل وتنوع أدواره.
ففي أكثر من سبعمائة عمل فني تنقل فيها بين أدوار العنف والشر والخداع وصولاً للطيب المكسور أحيانا، مروراً بالرسام المدمن، وأتذكر له فيلم (المعلمة).
قصة مستوحاة من(عطيل) Shakespeare وسيناريو حسن رضا وسيد بدير وإخراج حسن رضا، وبطولة تحية كاريوكا في أعظم حالتها والنجم يحيى شاهين ثم العملاق (محمود المليجي) وعمر الحريري والكبير ابداعاً الممثل والمخرج المسرحي محمد توفيق
عبقري من طراز رفيع
(محمود المليجي).. إنه عبقري من طراز رفيع أعرف قدره لذا أدعوكم لمشاهدة فيلم قديم إنتاج 1958 ظهر أمامي بالصدفة، بعد أن سيطر الشعر الأبيض على رأسي.
وكنت قد شاهدت الفيلم قديماً أكثر من مرة، لكن الآن وبعد مشوار طويل مع ممارسة كل فنون الفن السابع من تشكيل، وحركة كاميرا وإضاءة، وسيناريو، ومونتاج وموسيقى وديكور وملابس فأنا عاشق للسينما منذ نعومة أظافري.
وكنت أسافر المهرجانات لأتابع الافلام وكثيرا ما أحضر الـ making، وهو تصوير تنفيذ الفيلم كما حدث في كثير من افلام مثل تايتانك والرجل الشجاع لميل جيبسون وحتى عمر المختارللمخرج حسين العقاد
أدعوكم لمشاهدة فيلم (المعلمة)، ورغم أن لي تحفظات على الفيلم يغفرها زمن إنتاجه سنه 1958، ومنها الصدف السنك وهى أكثرمن مرة فهي تبعد المشاهد عن إعمال العقل كما قال المفكر (زكي نجيب محمود)، فكلما ظهرت الصدفة في عمل فني إنما هى عجز من الكاتب فيلجأ لحلول الصدف لتسهيل مهمته.
ورغم ظهورالدوبلير في معارك يحيى شاهين بشكل طيب لكن ذلك لم يفصلني عن الاداء المميز للعملاق (محمود المليجي) وأدعوكم لمشاهدته، وكيف يستخدم أدواته الفنية واهمها عيونه، وكيف يداعب القطة الصغيرة بيديه، وهو ينصب المكائد للمعلم زوج توحه (تحية كاريوكا) ليفرق بينه وبين زوجته المعلمة ليفوزهوبها.
شر مغزول بأداء واعي ونظرات دون انفعالات ولا مبالغات برع المخرج في تأكيدها، وأعتقد أن جموع العاملين بهذا العمل وبينهم المخرج كانوا يصفقون للعملاق (محمود المليجي) بعد كل مشهد.
وأعرف أن كثيراً من نقاد اطلقوا على (محمود المليجي) مارلون براندو الشرق وأنتوني كوين، وآُضيف بل وسير أنتوني هوكبنز عملاق التمثيل في العالم
تذكرت للعملاق فيلم الارض 1970 وكيف قدم شخصية الفلاح صاحب الأرض (محمد أبو سويلم) الذي يعتبر أرضه هى عرضه وحياته وعلة وجوده، سيطر (محمود المليجي) بذكاء على الشخصية وتحولاتها ومكنون مشاعرها فكيف يتحول هذا الرجل الي المهزوم الذي يفقد شنبه عنوة.
وهو رمز الرجولة في الريف وكيف يصور حالة الانكسار بعد أن كان صامداً أمام السلطة قوياً معتزاً بذاته رغم سطوة الباشا صاحب الأرض.
ثم تذكرت ما قاله (يوسف شاهين) عن العملاق (محمود المليجي) حين حضر منزلنا ومحمد نوح يعمل معه على موسيقى فيلم (المهاجر).
استخدامه لعيونه وانفعالاته
فقد قال إن تلقائية (محمود المليجي) وسيطرته على الشخصية شيئ لم أره في حياتي، وكيفية استخدامه لعيونه وانفعالاته، وأردف: عبقريته جعلتني أتعامل معه بعد الأرض في أكثر من عمل، مثل (الاختيار والعصفور وعودة الابن الضال وحدوتة مصرية).
لقد شاهدت هذا العملاق في شبابي على المسرح مرتين ودائماً، متذكرا الأولي كانت في مسرحية الكاتب المبدع محمود دياب (الزوبعة)، في دور فلاح في القرية وأذهلني مصداقية أداءه بعبقرية
أما الثانية فأتذكر سنه 1975 وأنا أجلس مع (محمد نوح) على كافيتيريا سوق الحميدية وكانت مركز تجمع رجال الفن والثقافة، وحضر الممثل (وحيد عزت)، وأخبرنا أن نذهب لنشاهد الشاب (محمد صبحي) خريج الفنون المسرحية وبداية نجم في مسرحية (انتهى الدرس يا غبي) مع شريك مشواره المبدع لينين الرملي.
كان العرض على مسرح الغرفة التجارية بباب اللوق بجوار مركز تجمع رجال الفن والسهر والثقافة، أتذكر منهم (يوسف إدريس وعبد الوهاب مطاوع وعبد الرحمن الأبنودي، رخا الرسام، سيد حجاب، أمل دنقل وعبد الرحمن عرنوس).
وانتقل البعض من الحضور سيراً على الأقدام لنشاهد عمل لاثنين من عباقرة الأداء (محمود المليجي)، و(توفيق الدقن)، وبينهما مولد نجم حقيقي برع وعرفه البعض من نقاد المرحلة حين قدم هملت علي مسرح اكادمية الفنون.
وقضينا باقي الليلة نستمع للمخرج (مدكور ثابت) وهو يفند لنا وللحضور عبقرية أداء (محمود المليجي)، وتنوع أدواره وكيف يقبض على تفاصيل كل شخصية ويتقمصها بوعي يضعه بين عمالقة عظماء التمثيل في العالم
تحية احترام وتقدير لمبدع قدير ترك لنا أعمالاً سجلت اسمه وجعلته يعيش بيننا، وهو الآن عند ربه، وهناك أفراد تموت وهى بيننا تعيش، ومنهم بالتأكيد العملاق (محمود المليجي).. مصر تنطلق وتستحق.