رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

إبراهيم رضوان يكتب: (محمود نصر).. مصر في ذلك العصر (1)

بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان

من بين الزنزانات التي كنت اقف عندها في تجوالى زنزانة  (محمود نصر).. شقيق صلاح نصر.. كل الإخوان كان لهم ثأر لدى (صلاح نصر).. للتنكيل والتعذيب الذي ألحقهم به..

أجلس وحيدا في حجرتي الأقرب إلى الخيمة الصغيرة التي قمت ببناء أركانها من البطاطين الرمادية القديمة  في عنبر من عنابر النشاط المعادي في (طرة).. أطلقوا عليها هذا الاسم لتشمل كل من لم يستطيعوا  تصنيفهم.. فلا هم شيوعيون.. ولا إخوان ولا يهود.. ولا مكفراتي.. هم  كائنات بشرية  معظمهم ليس لهم علاقة بالسياسة.. أجلس وحيدا في هذه الخيمة أكتب بعضا من  أشعار مرحله جديده أسميتها مرحلة معتقل (طرة) السياسي الشعرية..

عندما أنوي الخروج لجولتى اليومية في أنحاء معتقل (طرة).. أرفع إحدى البطاطين السوداء فأضعها علي الحبل لتهوية الحجرة.. أخرج عابرا صفا طويلا من النائمين يسارا و يمينا و من المستيقظين.. كأنني أسير بين بقايا جنود معركة سقطوا بين قتلى وجرحى ..

صامتا أجتاز البوابة الحديدية إلى الفناء الخارجي.. يقابلني أحد ضباط المعتقل.. يرمقنى طويلا في ضجر حيث أنني الوحيد الذي لا يقوم بتحيته أو الحديث معه.. أخترق مجموعات تتجاوز الآلاف يكتظ بهم المعتقل..

إذا اتجهت ناحيه الأسوار العالية  أتبادل الحديث مع بعض أفراد الحراسة المشددة التي تعلو الأسوار.. أحاديث خاصه بحياتهم في قراهم ونجوعهم فكلهم بلا استثناء من أرياف مصر..

في جولتى أتفحص  الزنازين الانفرادية على يساري.. عنبر الشيوعيين على يميني.. الإخوان المسلمين يقومون ببعض التمرينات الرياضية العنيفة.. تجاوز وزن بعضهم  وزن الفيل.. رغم أنهم يلعبون الكرة لمدة ساعات طويلة كل يوم..

ولا يتوقفون عن اللعب إلا إذا انهالت عليهم  صفارات من العساكر التي تملأ أرجاء معتقل (طرة) معلنة موعد العودة و إغلاق  البوابة.. معتقلنا  هو المعتقل الوحيد الذي لا تقوم فيه العساكر بالتأكد من العدد الموجود في كل عنبر..

كنا غير ملتزمين  ملتزمين بالعودة إلى عنابرنا الخاصة وإنما كنا ننتشر في  العنابر الأخرى.. نجلس على الأبراش.. نشرب الشاي معهم.. نشاركهم تناول بعض الأطعمة البيتى التي وصلتهم في زيارات اليوم  ..

كان للإخوان ئأر كبير مع صلاح نصر

ثأر لدى (صلاح نصر)

من بين الزنزانات التي كنت اقف عندها في تجوالى زنزانة  (محمود نصر).. شقيق صلاح نصر.. كل الإخوان كان لهم ثأر لدى (صلاح نصر).. للتنكيل والتعذيب الذي ألحقهم به.. كان  شقيقه (محمود نصر) يعلم ذلك جيدا.. لذلك كان يتخفى من الجميع.. وحيدا يقف على باب زنزانته الانفرادية..

لا يجرؤ على أن يخطو خطوة واحدة إلى الأمام  حيث فناء المعتقل و الجميع يرمقه في وعيد.. يحتمي بباب الزنزانة تحيطه لقطط التي ارتبط بها لسبب عرفته بعد ذلك.. كان (محمود نصر) طويل القامه جدا.. حتى أنه انحنى على نفسه من طول قامته.. الشعر يملأ أذنيه ويخرج من أنفه..

يرتدي بيجامة غالية.. يعلوها (الروب) الذي يرتديه أغنياء مصر  خصوصا في أفلام السينما.. ينتعل  شبشبا غالي الثمن.. كنت قد  لفت نظره إليّ لأنني دائم التجوال..  سمعته ذات مرة ينادينى أثناء مروري أمام زنزانته الإنفراديه.. (يا أستاذ.. انت يا أستاذ ؟).

تعجبت لأنني أعرف جيدا أنه لا يتعامل مع أى أحد.. ولايحاول التعرف إلى أحد.. اتجهت إليه.. دعانى إلى دخول  الزنزانه.. رفضت، قال لي  أنا (محمود نصر).. شقيق (صلاح نصر).. قلت له: أعرف ذلك ومن الواضح أنك فخور جدا أنك شقيقه..

بصراحة: شقيقي (صلاح نصر) هو سبب كل المصائب التي مررت بها في حياتي..

لماذا أحضروك إلى هنا؟..

لابد أن تدخل لأحكي لك الحكاية ..

داخل  زنزانة (محمود نصر) الانفرادية لاحظت بعض الأضواء المختلفة عن الأضواء التي اعتدتها بالخارج.. في الركن  شماعة تتدلى منها  كمية كبيره من الملابس والفوط.. سألته عن التهمه التي أحضروه بها ..

قال لي: قلب نظام الحكم مع استعمال القوة وبعض التهم الأخرى رغم أنني لا أفقه أي شئ في السياسه.. والقصة أننى كان لي بعض الأصدقاء خارج المعتقل منهم (فاروق محمد نجيب) ابن اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية الأسبق، والفنان صلاح الحسيني.. واللواء الذي يكتب مسلسلات للإذاعة..

كان لنا صديق يملك جراشا للسيارات.. كنا نلتقي فيه يوميا لنلعب الطاولة.. بعض الذين يكتبون التقارير كتبوا للسلطة أننا نعد للقيام  بعمل تنظيم سري لقلب نظام الحكم.. ومقرنا هو الجراج..

أشارت  التقارير أن التنظيم مكون من ابن رئيس جمهوريه سابق.. و فنان.. وشقيق لصلاح نصر.. صيد ثمين مغري.. أخذونا من الجراج إلى المعتقل دون أي تحقيق.. والآن  نعيش ثلاثتنا هنا منذ سنوات دون أن يحاول أحدنا أن يتكلم مع الآخر..

كان محمود شقيق صلاح نصر شخصية غريبة

شخصية (محمود نصر) الغريبة

كنت أريد أن أعرف أكثر عن شخصية (محمود نصر) الغريبة.. صارحني أن الجنس هو الذي يسيطر عليه منذ طفولته وليست السياسة.. وأنه كان يرسل للخارج من يشتري له كل أنواع الباروكات لزوجته.. فإذا أراد أن تكون زوجته هذه الليلة فرنسية يطلب منها ارتداء الباروكة الشقراء.. والمصرية الباروكة السوداء..

وهكذا.. قال لي إنه يملك 30 باروكة ترتدي زوجته في كل ليلة له باروكة تتوافق ومزاجه لكل ليلة ..

رأيت زوجة (محمود نصر) في زياراتها له.. كان كل ما يشغله أثناء الزيارة هو أن يعطيها كرسي خشبي مصنوع بأيدي نجارين المعتقل.. كان يملك كتالوج به تصميمات لمئات الكراسي الموجودة في العالم.. يعطى للنجار التصميمات التي يريدها.. هذا كرسي الملك أنطون وهذا كرسي الملكة اليزابث.. وهذا.. وهذا..

عندما تحضر زوجته لزيارته يسلمها  الكرسي ويعود بعد الزيارة إلى زنزانته سريعا وهو يتلفت إلى معتقلى الفناء الذى يمر بينهم في رعب.. سالته عن سبب رعبه.. قال لي: لا يوجد معتقلا واحد من الإخوان المسلمين لم يعذبه شقيقي (صلاح نصر)..

تذكرت أحد معتقلي الإخوان المسلمين، لاقال لي أنه كان في السجن الحربي حيث الزنازين متجاورة.. كل زنزانة مكدسة بعشرات المعتقلين إن لم يكن مئات.. في أحد الأيام مر علينا العسكري يحمل سله بها برتقال.. يقذف إلى كل زنزانة  برتقالة واحدة للجميع.. يتقاسمونها فيما بينهم لتكون طعامهم اليومي..

فرغت سلة البرتقال وما زالت بعض الزنازين لم تأخذ برتقالتها.. عاد السجان مرة أخرى إلى الزنازين يطالب كل زنزانة (بفص) من البرتقال ليستطيع من خلال هذه الفصوص تغطية العجز والذي غالبا هو نتيجة سرقته لعهدته..

عايزين فص من البرتقالة اللي أنا أعطيتها لكم دلوقتي..

لقد أكلناها يا شاويش..

يا ولاد الـ أكلتوها بجد؟.. طيب.. فين هو القشر؟

واحنا هنرمي القشر برضه.. احنا بناكله

يخرب بيت أبوكم.. تاكلوا البرتقال بقشرة؟.. الله يلعنكم..هو موز؟

 وهكذا أضحكني هذا الإخواني و.. شر البلية ما يضحك ..

 

باب الزنزانه

فسألته لحظة ده قفلته في

 الباب عليا ..

إنت مين؟

وازاي تهين إنسان مقدس

م الإله..

بنيانه فيه الأرض اللي كانت

 راسمه قدامه في يوم ..

قارب نجاة

 قاللي..لأنك ضد كفار القرف في قريش..

لابد ها تضمحل و تختفي

دورت في الحفرة الرهيبة

ما التقيت..

إلا القلق والعهر.. والشهر العتيق المر.. واللهو الخفي

ففرشت نفسي في الزوايا..

حاولت أكون ثابت في ردي

على القرود الأغبيا

دخلت في قلبي خناجر الزمن الردئ السادي

ويا الأغنية

صمت الزوايا صدمني شاطني

في الجهات الأربعة

 دورت حتى عن نقيق

 للضفدعه ..

وما كانش ويايا سوى الدبان

 في حالة حب من أجل التكاثر

لاجل ما يغطوني بلحاف القرف

خنازير و فاقدة في الشرف

خلوني في الأوراق وغيرها

 أعترف..

 إني الخناجر والحناجر

 هاتفه بسقوط اللي سقطوا

 من زمن

 واني الوحيد اللي طعن

 قلب الوطن

مع إني شايل كل أوراقه العتيقه في جعبتي

 من يوم ميلادي وهو روحي

 وكعبتي

 واني دفعت ولسه جاهز

 مهما كان الجرح أدفع في

التمن

سنكر عليا الباب من الداخل..

 مفيش للطير خروج من

 سور ففص

 واللي انحبس تاني انحبس

 في فكر مش موزون ولا

 مجنون.. ولا..

جربت أغرق في الصلا

 خدنا النعاس لجزيرة الراحة

 وكانت راحتي في النومة

 الحزينه.. مؤقتة..

بردان في عز الصيف

 ومرمي في العرق جوه

 الشتا

ولا داري بالأيام.. وفجأه

 ابتديت..

 يحصل لروحي نعاس

 وأوصل للتعود ع الوجع

 الليل رجع من تاني يطول

 على اللي وقفوا جماع ضده بدون سبب

متداري جواهم (هاديس)

 اللي ما زال..

 شايل خبايا (أبو لهب)

 ومفيش سحب ولا فيه شهب

 ومفيش سوي الجدران تصد

 عن الغريب ضوء الشموس

 ويا القمر

 أمر اللي واقف فوقي

 للحراس يدوسوا على الرئة

 وعلى غصون الشقشقة

 البينة جوه الحنجرة

 الحارس الأبرص رجع

 خطوه ورا ..

وهجم عليا بالحصان

 الشهرماني الجاني ..

هز بديله صابني في النخاع

 جسدي خلاص أصبح مشاع..

 لجحافل الغجر اللي شافوا الجرح..

حطوا الملح فيه

 ولناس كتيرة بدون ملل

الدهشة غمت روحي من كل

 اللي كان

والترجمان ناقص لغة

 إيه اللي جابك بدري لجزيرة الخواء والبغبغة

 إيه اللي خلى الباش أغا

 م الفجر يجلد فيك.. يسيطر

 ع الديوك جواك ويتحداك

 ترد على العصاية المفجعة

 أو ثاني تتحرك مع..

كل اللي كان وياك في رحلة

 بحث عن ضي الفانوس

 بيدوس على رجليك

 صوابعك كلها مهروسة

 بالضغط الحرام

 ضربك بقايش في الحزام

 وضغط على الكليه اللي

 تعبت م الجفاف

ولا لقمة حاف

ولا مية لاجل تبل ريقك بين

حيطان مالهاش عدد

ولا فيه مدد من بره يوصل

ليك ولا موجود سواك

لما انفصلت دقيقه عنك بين

حيطان بصيت معاك

شفت النجوم لابسة في بالطو الحرف ايده بالشهب

شفت اللهب

بيقاوم الموت اللي بيحاول يدوسه بالمياه

شفت الإله..

باصص عليك ومصبرك

وبينصرك من جوه ..يوهب

قوه للجسد اللي نخ على

البلاط اللي اترسم فوقه دماك

 ومفيش في زنزانة القلق

إلا اللي ابتدى صوتهم يبان..

من خرم إبرة في باب عتيق

وانت اللي كنت في يوم غريق في حبها

وما زلت شايل كل دقه ف قلبها

ودخلت ع المجهول و لا همك حراسة مشددة

دمك طيور نورس بتحرس

في حروف متجددة

ما كانتش يوم متحددة

أمك هنا ..أمك هناك

خضرة الشريفة السيدة

وانت الحسين اللي ما زال

فوق الفرس

ماسك جرس.. في محاولة

يمكن أخرانية عشان تصحي الميتين

إوعى تسلم يا ياسين

واستنى يمكن ينفتح باب الفرج

واللي دخل.. تلقاه خرج

يمكن تفوز ثاني على كل الدروز رغم العرج

تطلب في إيدها تقتحممها

في ليلة الدخله الكبيرة

بدون وجل

و بدون حرج.. وبدون حرج

من كتاب (مدد.. مدد)

سيرة ذاتية لبلد

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.