بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
استقريت أخيرا.. في عنبر النشاط المعادي في (طرة).. في إحدى أركانه.. رفعت بعض البطاطين على حبال سميكة لعمل حجرة خاصة بي.. سألت القدامى من الموجودين: هل يمكننى أن أكتب خطابات خاصه لأهلي.. وأصدقائي..
أبلغوني أن ذلك من حقي.. أعطوني بعض طوابع البريد فئة أربعة مليم.. تبرع لي بعضهم بأظرف.. وقلم.. وبعض الأوراق.. أحضر لي البعض قفصا يشبه الأقفاص التي تباع فيها الطماطم والخضروات.. قلبوه أمامي منضدة صغيرة تصلح لتناول الطعام والكتابة.. ولوضع أشيائي التي سأشتريها من الكانتين..
أحدهم أحضر لي معلقة.. آخر أحضر لي سكينا.. تبرع البعض بأطباق.. كان التعاطف معي شديدا خصوصا أنهم لاحظوا تصرفي دائما على استحياء شديد.. لدرجة أن الليلة الذي قضيتها في الزنزانة الانفرادية في (طرة) لم أطلب طعاما رغم جوعى الشديد.. كأننى ضيف على بيت أقارب للمرة الأولى.. ولست معتقلا له مخصصه من الطعام ..
كنت يوميا أصحو فى السادسة صباحا.. وهو موعد فتح البوابة الحديدية.. لأنطلق خارجا.. لا أتوقف أبدا عن التجول في كافة أنحاء المعتقل حتى السادسة مساء.. حيث أعاود الرجوع مع الآلاف إلى عنابر(طرة)..
قبل العودة بقليل.. أسارع إلى دورة المياه لأقف تحت الدش البارد.. رغم الجو البارد.. ورغم أنى في غير حاجة اليه.. غير أنى كنت أحاول أن أقنع نفسي.. أنى أملك قسطا من الحرية.. حتى ولو كانت مخصصة في دخول دورة المياه.. وفي الداخل أسير في الطرقات بين عنابر (طرة) حتى الصباح.. هروبا من الحشرات التي كانت لا تتوقف عن محاولاتها افتراسى منذ اللحظة الأولى لوصولى..
و كأن بيني و بينها تار بايت.. أو أنها تلقت أوامر من رئاسة الجمهورية بحرماني من النوم.. وقد ضاعف من أعدادها وأنواعها الزاحف منها والطائر.. تلك البطاطين القديمة التي شيدت بها مكمنى الخاص في معتقل تسكن في جوانبه كل حشرات الدنيا ..
كنت داخل مكمنى أجتر الأفكار والذكريات.. وكانت فرصتي معقولة البكاء وحدي حتي أهدأ.. أستعيد وجه أمى و لوعتها على فراقى.. تؤرقنى مسؤوليتى عن تسعة أشقاء.. وأب.. وأم.. فأنا أكبرهم.. والموظف الوحيد في العائلة..
قائد معتقل (طرة)
تذكرت أنني موظف.. طلبت مقابلة (عبد العال سلومة) قائد معتقل (طرة).. طلبت منه نموذج رسمي لتوكيل.. أردت أرساله لصديقي الغالي (فاروق حسان) بمديرية التربية و التعليم بسوهاج.. والتي تم نفيي لها حتي يتسنى لهم القبض على في هدوء من ناحية.. و بنوع من الاذلال من ناحية أخرى..
وهذا هو المهم.. طلبت أن أحرر التوكيل لفاروق حسان بخصوص استلام مرتبي.. وإرساله إلي والدي بطلخا.. ابتسم (عبد العال سلومة) ساخرا.. و أخبرنى أنه جرت العادة أنه حينما يصدر أمر جمهوري من عبد الناصر باعتقال شخص ما.. فانه آليا يتبعه صدور قرار جمهوري آخر بفصل المدعو من وظيفته لأنه أصبح خطرا على الأمن العام..
و أنه لا داعى لتحرير مثل هذا التوكيل بلا طائل.. قلت لعبد العال سلومة كذبا: أن الوزير أخبر والدي أن الرئيس جمال عبد الناصر لم يصدر قرارا جمهوريا بفصلي لظروفي الخاصة.. حيث أن والدي يعمل بالداخلية..
التفت ناحيتى منتبها لكلماتى التي أخبرته من خلالها بعمل والدى في وزارة الداخليه.. هرش رأسه مفكرا.. وهو يعلق بصوت خفيض أنه سيسأل في هذا الموضوع.. قلت له أن الوقت يمضي.. وعليه أن يعطيني التوكيل..قبل أن يتم تسليم مرتبي للأمانات نتيجة تأخرى في استلامهم له..
حرر لى (سلومة) التوكيل.. أرسلته بدورى لفاروق حسان في محاولة يائسة.. وكانت المفاجأة: لقد استطاع (فاروق حسان) أن يصرف لي مرتبي.. و قد بشرنى بذلك في رساله أكد لى في سطورها: أن كل شيء على ما يرام.. ولا ينقصه إلا أن يراني مرة أخرى في سوهاج..
واشتكى لي من والدي الذي يطارده بالخطابات.. ويستعجله في إرسال مرتبي قبل موعده.. لأنه لظروفه القاسيه في أشد الحاجه إليه.. وكان أول خطاب يصلني منه في معتقل (طرة) السباسي السياسي.. يقول لي فيه:
رسالة فاروق حسان
الصديق إبراهيم ..
مساء الخير.. وصلتنى رسالتك.. كما وصلتنى رساله من السيد الوالد.. والحق أنك قد طرقت هذا الموضوع.. لأنى أكاد أن أضرب رأسى في الحائط.. مما يسببه لى مرتبك من إشكالات مع السيد والدك..
إنه لسبب لا أدريه.. يصمم على أن مرتب شهر أبريل قد وصل.. في حين أن مرتب أبريل مازال قابعا في الحسابات.. و بالذات في قسم الشطب.. تمهيدا لاستخراج الشيك.. ورغم انى أرسلت له رساله مطولة أعرفه فيها بأنى قمت بارسال مرتب يناير..وفبراير.. وقامت المنطقة بإرسال مرتب مارس..
ورغم أنى أضفت بأنه يبدو أن الموظف قد أخطأ عند تحرير الشيك الأخير.. وكتب عليه مرتب أبريل بدلا من مارس.. إلا أنه و الكلام مازال عن السيد الوالد.. مصمم حتى في رسالته التي وصلتنى اليوم على أن مرتب مارس.. لم يصرف بعد.. و اواقع أنى لا أدرى سر تصميمه هذا..
هل هو راجع الى سوء شرحى للأمر.. أم راجع إلى شيء ما في المتلقى.. لاأدرى.. ولو اقتصر الأمر على ذلك لهان.. لكنه بعد إرسال خطاب كل يوم تقريبا.. مؤداه أنه مضى أسبوع دون وصول المرتب.. مضت عشرة أيام دون وصول المرتب.. مضت ثلاثة عشر يوما دون وصول المرتب.. مضت.. مضت.. مضت..
ورغم أنى في البداية عرفته بأنه لا داعى للإكثار من خطابات الاستفسار.. ذلك لأننا جميعا نعيش على مرتباتنا.. وربما أعرف أكثر من غيرى.. كيف يكون الحال إذا ما تأخر المرتب قليلا..
أي أنى باختصار.. مقدر للوضع.. وأعمل ما فى وسعى للسير باستمارة المرتب خطوات كثيرة.. حتى يستخرج الشيك.. لكن هناك اعتبارات عدة تؤخر سير العملية.. مثلا.. قسم الحسابات الذى لا يتعدى موظفيه 4 موظفا.. يخدم أكثر من 11 ألف مدرس..
كذلك لا يمكن تحريك استمارة تحمل رقم 60 مثلا.. قبل استمارة تحمل رقم 59.. أقول أنى رغم ذلك.. مازالت الرسائل تطاردنى.. حتى انى أصبحت على شبه اقتناع بأنى قمت باختلاس المرتب مثلا.. أو شيء من هذا القبيل..
ساورنى ذلك الظن منذ شهرين.. ويومها طلبت منه أن يجعل التوكيل باسمه حتى يطمئن الى أن مخلوقا سواه.. لن يقوم بالصرف.. ولو أضفنا إلى ما تقدم شكوى منه الى مكتب الوزير.. ولو وضعنا في الحسبان أنى انسان مهمل بطبعى.. أى أنى مثلا لا يمكن أن احتفظ بكعب حوالة او إيصال..
لو وضعنا ذلك في الحسبان لفهمت بداهة دقة موقفى عندما بدأ التحقيق معي، و.. س وج.. و كيف؟..و لماذا؟.. ومتى؟.. حتى هدانى الله إلى أن أقدم لجهات التحقيق رسائله التي عرفنى فيها بأن مرتب شهر كذا قد وصل..
حكاية شهر أبريل
و.. هكذا يا صديقى ترى أن حكاية (قل لن يصيبنا الا ما كتب الله علينا) لاتكاد تذكر بجوار حكاية شهر أبريل.. الذى صرف قبل مرتب شهر مارس.. وعموما أرجو أن تكون مقتنعا بأنى أعتبر المرتب مرتبى ..
ويعلم الله كيف تسببت دون أن تدرى في خدمة عشرات.. كانت استماراتهم تتلكع في الحسابات.. وذلك استنادا إلى قاعدة.. أن الاستمارة رقم 60 لايمكن أن تتهادى في طريقها قبل الاستمارة رقم 59..
و ختاما يا صديقى رغم كل شيء.. تجدنى دائما على استعداد لأداء ما في مقدورى من خدمات.. ومن النظر إلى مرتب أبريل ..الذى صرف قبل مرتب مارس ..
و تقبل تحياتى
فاروق حسان 12/5/1970
ملحوظة: وصلنى خطاب من (محمد يوسف) فحواه انه في إجازة مرضية من بعد العيد.. نظرا لإصابته بأزمة ضيق تنفس وربو ..
و
عنبر 13
أقـــفـــاص طــمــاطـــم.. فــاضـيـة جـوه الـعـنـبـر..
مـحــطــوط فـــى روحــهـــا.. مـعـلـقـة وسـكـيـنة
دول قــيّـــدوا يـــا مــصــر روحـــنــا بــشــنــبــــر
واحــنــا اللــى يـــامـــا لــشــنــبـــرك فـــكــيــنـــا
………………………………………………
كـــانـــت جــثــث.. مـرصـوصــــة (50 جـثه )
والــكـــل بـــاصــص للــقــفــص.. بــبــلاهـــــــة
فـــى كــــل واحــد فــيــنــا .. أغـــــرب قِـصــة..
الـــكـــل قـــــام .. مــسـتـنــى فــــى الـــنــداهـــة.
………………………………………………
يـــا أمـــى.. ســيــبـــى الــحــلـــم يــحــلم حِلمك ..
يــســتـنــى فــــى (إفــــراج) .. يــرجــع صوته
فـــوق اللــســـان الــصــافـــى.. مـكــتوب اسمك..
مــكــتـــوب كـــمـــان بـــالـــدم جـــوه تــابـــوتـه
………………………………………………
(تَوْتَوْ).. معاه سخان .. يــا صــهـد خانقنى..
إقــلــى عــشــانــى الــبـيـضـة.. يــــا ســجـانــــه
صـــــوت الــشــخـيـر الــعـالــى.. لــمـا ضـايـقـنى..
شــفـتــك وانــا خــــارج حـــزيـــن .. شــمـتـانــــة
………………………………………………
عــلــى كـــل (نــمــرة) يـــا مصر .. كانت دمعة..
وســـؤال غــريـــب.. إيــه اللــى جـــابــنــى جهنم
بــره الــحــدود.. إنـتــى فــقـــدتــــى الــسٌــمــعــه .ة
لــــمـــا الــصـنــم.. خــلــى الــجــمــيـع.. يِـتصنم
………………………………………………
فـى (عـنـبـرك).. كـان عـنـبـرك مــش أخـضـر..
كــان قـــش.. كــان صــبــار.. وعـلـقـم صـافي
قاعد عـــلى بُــرشــك .. بــيــحـلـم (عـنـــتـر)
يا (عبلة).. يا اللى سرقتى مــنــى لـحافــى.
………………………………………………
أمــشــى عــلــى طــراطـيـف صـوابـعى الباردة
الــكــل نـــايـــم .. فـــــى بـــــلاط الــــعُــــــوزة
إمـتـى بـقـى هـــارجـــع لأمــــــى.. وأهـــــدى
إمـــتـــى لــجــثـــة روحـــى.. ألــقـى جـنـازة
………………………………………………
قــاعــد مـقـرفــص.. ضــهــرى جـوه الحيطة ..
صـــوتـــى.. مــاهُـش صوتى.. وصوتك باين
فــى الـفـجـر خــارج .. فــوق كـتـافــى الفوطه ..
صليت فى صــف الـعـاصى.. ويــا الـخــايـــن
………………………………………………
فــى (عـنـبـرك).. عـلـى كل لون مساجينك ..
ولا تـهـمـة واحــدة ثــابــتـة ع اللــى اتـهـانـوا
جوه الكرة الأرضية.. صـــوت مــجـانــيــنـــك ..
واضح.. و(تلفيقك).. و(ظلمك).. بانوا
………………………………………………
مــسـتـنـى إيــه ع الــبُــرش.. قــوم اتــوضـى..
واســتـنــى ألـــف رســالـــة مـــن أحــبـابـــــك
دى مش (سجاير).. دى فــلـوسـنـا الـفضه .ة
هــى الــوحــيـدة الــقــادرة.. تــفــتــح بـــابــك
………………………………………………
قابضين علىّ ليه .. يا خلق غريبه..
واخدينى فين وازاى.. وليه واخدينى
كل اللى داسنى يا مصر .. قلب ديابة
خَلُوا اللى فىّ جميل يا أمى يديننى
………………………………………………
فى عنبرك أنا سيبت نفسى وجيتلك..
أشكى لقلبك حالى.. أحكي همومي
عمرى ما أحرجتك فى يوم وسألتك:
إيه اللى خلى الدنيا تصبح (بُومى)
………………………………………………
يا ليل (13) بلاش تندهنى..
سايق عليك ليل الولايا الظالم
صمت الليالى فى السجون شوهنى.ي
وما عادش فىّ إلا بحر مظالم
………………………………………………
على حبل لون قلبك نشرت هدومي..
نشفت فى لحظه قبل ما ارجع ليها
(قطة) سجون شاركتنى كل همومي..
ساعة ما شافت عينى بصة عليها
………………………………………………
آه يا رفاق الرحله مالكم.. مالكم..
ليه الهدوم ع (المرتبة) منكوشة
إيه اللى نعكش روحكوا.. غيَّر حالكم..
بعد (القرار).. ما وقعوا الحشاشة
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد