بقلم الكاتب: محمد حبوشة
ظني أن ما يحدث في الكواليس الآن حول تعديل مسار منظومتي (الدراما) والإعلام يبشر بنتائج إيجابية سوف تنعكس على المشهد المرتبك منذ عشر سنوات ماضية، ضرب فيها الفساد جذوره في بطن التربة المصرية التي كانت صالحة للانطلاق نحو آفاق أوسع، لولا تلك الطغمة الفاسدة من المسئولين عن المنظومتين اللتين تشكلان القوى الناعمة المصرية من ناحية، ومن ناحية أخرى تؤكد على الهوية.
نحن عانينا طوال العشر سنوات الماضية من ضيق الأفق وسد منابع الإبداع الحقيقي في (الدراما) والإعلام، عندما اعتمد اختيارات القيادات على ذوي القربة والمصاهرة، فضلا عن تدني مستوى المهنية، وحالات الإقصاء العمدي مع سبق الإصرار والترصد، للكوادر والمهنيين الحقيقيين، لحساب شرازم لا تفهم ولا تعي رسالتي الفن والإعلام.
حقيقة ضقنا ذرعا في وجود بادرة أمل حقيقية لإصلاح منظومتي (الدراما) والإعلام، عندما تحكم شخص واحد – تم استبعاده من المشهد الحالي – وهى في الواقع لم يكن يدرك حقيقة الإعلام الفن والمصريين، عندما كان يدير الملف عن طريق تعليمات عبر جروب (الواتس آب) للقنوات وحتى الصحف والمواقع الإلكترونية.
كان هذا (الضابط المسئول) بمثابة كابوس جسم على أنفاسنا كطائر الرخ الأسطوري بليل حالك الظلمة، خاصة في الخمس سنوات الأخيرة، حين سد الأفق نحو فن حقيقي يعبر واقع المجتمع المأزم، وفرض موضوعات ساذجة لا تعكس عظمة وبهاء الفن والإعلام المصريين.
قيمة حقيقية تعكس هموم الوطن
لقد تعمد هذا (الضابط) اختيار موضوعات بعينة لفئة من الإعلاميين وصناع (الدراما) الذين يدينون له بالولاء والطاعة، ضاربا عرض الحائط بكل ما يحمل قيمة حقيقية تعكس هموم الوطن الذي استسلم للحالة – كأنه الوحيد الذي يفهم – وما عداه من من أصحاب المهن الأكفاء مصيرهم هو الإقصاء، ومن يحاول طرح أفكار جيدة يتم التنكيل به.
أشهد أنني ربما أكون الكاتب الصحفي الوحيد الذي تصدى لملف الدراما خلال الخمس سنوات الماضية من هذا المنبر الحر، في محاولة لتقديم النصح والإرشاد، لكن لا حياة لمن تنادي، فقط كان يتصل بي أحدهم متوعدا ومهددا بغلق (شهريار النجوم) بدعوى أنه لا يعمل لمصلحة الوطن الجريح جراء أفعالهم المشينة التي تنال من القوي الناعمة المصرية.
وللإنصاف لم يتم مصادرة ما أكتبه فعن إصلاح (الدراما) فقد كنت في كل مرة أحاول إقناع المتصل أنني مؤمن بأن (المهنية هى المقابل الموضوعي للوطنية)، وذات مرة قلت للمسئول الذي يتصل: (ياسيدي اعتبرني خرطوم الفايظ) الذي يفرغ الماء الساخن في التكييف، وللأمانه اقتنع بالفكرة ولم يعد يتصل، وأصبحت وحدي أغرد خارج السرب.
كنت قد فقدت الأمل في إصلاح منظومة (الدراما) المصرية التي تغط في العشوائية والعنف وضرب القيم الإنسانية التي تربينا عليها في دراما الزمن الجميل، لكني الآن يحدوني الأمل في الإصلاح الحقيقي الذي يعيد الاعتبار لقوانا الناعمة بعدما سطا عليها قلة تتسم بالجهل الواعي.
قاتل الله الفساد والمفسدين من أبناء جلدتنا، الذين تحكوا فينا خلال السنوات العجاف الأخيرة، فقد شاهدنا خلال الخمسة مواسم الرمضانية الأخيرة غثاء السيل من موضوعات تافهة تخاصم قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا، فضلا عن فرض نجوم بعينهم دون غيرهم هم من يتصدرون البطولات.
ياسادة لقد كانت ميزة صناعة الإعلام المصري خاصة في مجال (الدراما) التلفزيونية، أن هناك شركات توزيع تقوم بالترويج للعمل الدرامي أو الفيلم أو المسرحية أو البرنامج وبيعه خارجيا وداخليا، فضلا عن اهتمامها بالمضون، بحيث يكون في الخارج قوة ناعمة وفي الداخل يجلب إيرادا، لكن الحال تغير مع دخول (المتحدة) حلبة السباق بعنف.
فهى التي تقوم بالإنتاج ونتيجة لسيطرتها على كافة القنوات الفضائية فإنها تعطى من تشاء، ومن هنا قضت بدورها على صناعة التوزيع والتسويق، كما قضت على صناعة المونتاج والتصوير والجرافيك والمعدات.
خطورة التحكم في (الدراما) المصرية
كتبت عديد المقالات عن خطورة التحكم في (الدراما) المصرية، وحصر الشركات الوطنية المنتجة في خانة ضيقة، حتى خرجت غالبية تلك الشركات من الصناعة بخفي حنين، لأنها كانت تعاني الأمرين في التعاقد على شاشات عرض للأسف أغلقت عليها المتحدة إنتاجها وحدها، وزيادة في الفساد قصرت منصة (وواتش إت) على إنتاجها وحدها.
ومن ثم لابد من الانتباه لحقيقة أوضاع (الدراما) والإعلام المصري المتردية، وذلك باعتدال المشهد على مستوى تفكيك هذا الكيان وعودة القنوات وشركات الإنتاج إلى سابق عهدها قبل عام 2016، وعودة ماسبيرو ودعم الصحف القومية فربما نلحق ركب التطور من خلال إشعال المنافسة الشريفة من جديد، فقد قتلنا الإبداع!
وخاصة أن (المتحدة) في سياساتها لم تقدم على المستوى الاقتصادي أي عوائد لها كشركة، وعلى المستوى القومي لم تقدم رسالة تساهم في تدعيم القوى الناعمة المصرية.
وظني إذا استمر مشهد (الدراما) الإعلام المصري على هذا الحال فسنصل إلى طريق مسدود، خاصة أن جزء كبير من المصريين بدأ يستقي معلوماته من مصادر وقنوات ومواقع أجنبية، فضلا عن جنوح كثير من الشباب نحو مشاهدة دراما (أجنبية، تركية، أوكرانيا، كورية، وحتى بعض العربية) من خلال قنوات ومنصات أخرى.
وهنا لابد أن أشير إلى أن قطاع كبير من الجمهور المصري فقد الثقة في مشهد الإعلام المصري الذي يمكن أن ينافس في مهرجانات أو منتديات أو معارض أو ندوات في ظل عدم وجود استراتيجية محددة للميديا، أو وجود أهداف خارجية لعودة القوى الناعمة لمصر.
كما أنه لم يعد لدينا أمل في أجيال جديدة في ظل عدم وجود تدريب أو نقل خبرات أو نوع من التواصل، وهذا المشهد برمته ينذر بحالة من الفراغ الإعلامي والفني في ظل هروب الكوادر المحترفة أو تغيير المسار.
إن لم يكن هناك تدخل سريع لوقف نزيف الأموال التي تصرف بالمليارت على منظومة فاشلة عجزت بالفعل عن تحمل مسئولية الإعلام الذي يحمي الوطن، وتبديل الكوادر الحالية بكودار تملك ناصية الإعلام الحقيقي الذي يستطيع إعادة القوى الناعمة إلى سابق عهدها، عندما كان المنتج رائدا يحلق في السماء عاليا في كافة أرجاء العالم العربي.
الجوانب المتعلقة بالسياسة والمجتمع
وظني أن (الدراما) التلفزيونية أحد أهم مصادر القوى الناعمة تحديدا أصبحت من ضرورات الحفاظ على الهوية الوطنية، ومن ثم ترقى إلى مستوى الأمن القومي المصري للأسباب التالية:
أولا: لأن الأمن القومي يتمتع بعدد من العناصر المكونة له، والتي عند الوفاء بها على حدة، فإنها توفر الأمن للدولة فيما يتعلق بقيمها ومصالحها وحرية اختيار السياسات بها، وتسرد السلطات على اختلافها هذه العناصر بصورة متباينة.
ويتم بشكل شائع أيضا إدراج الجوانب المتعلقة بالسياسة والمجتمع والبيئة والطاقة والموارد الطبيعية والاقتصاد، وترتبط عناصر الأمن القومي ارتباطا وثيقا بمفهوم عناصر القوة الوطنية والتي تلعب القوى الناعمة.
ومن بينها (الدراما) التليفزيونية والسينما والأغاني فيها دورا كبيرا، لأنها تخاطب المشاعر وتركز على القيم وتقدم نماذج مثالية في الفداء من أجل الوطن.
ثانيا: كما في حالة القوة الوطنية، يكون الجانب الأمنى هو المهم، ولكنه في الوقت نفسه ليس المكون الوحيد للأمن القومي، وحتى يتحقق الأمن الحقيقي، تحتاج الأمة إلى أشكال أخرى من الأمن الذي تصنعه الدراما على جناح سحر الصورة.
ومن هنا تختلف السلطات وفقا لخيارات كل منها في تحديد عناصر الأمن القومي للدولة، فعلى مدار سنوات كان هناك نقد متكرر لاذع لأشكال من الدراما المقدمة، وكانت فى المشهد أيضا أعمالا جيدة الصنع، يعول عليها فى حفظ صورة (الدراما) المصرية وضمان قوة تأثيرها، محققة جانبا من جوانب الارتقاء بالذوق العام، وتسليط الضوء على المجتمع بالعلاج والإصلاح، وتقديم قدوة جيدة، لنفهم أن المسلسلات تحديدا (باعتبارها الأطول مشاهدة) من أدوات الحفاظ على الأمن الثقافى والاجتماعي والفكري).
ثالثا: تلعب الدراما التلفزيونية على سبيل الحصر دورا مهما باعتبارها واحد من القوى الناعمة في تحصين المجتمع، ليصبح بها العمل الناجح (بمعايير تعزيز الهوية المصرية) تنقية للفكر العام من شوائب الفساد والإفساد، وهذا ما توجهت به إلى الرئيس (عبد الفتاح السيسي) قبل شهرين في مقال مطول هنا بعنوان (المتحدة مؤسسة عملاقة تروج لنفسها بترسيخ الفشل!)
وذلك على سبيل مواجهة للأفكار المدمرة والموجهة للدولة بكل مكوناتها، كرصاص مغموس (بالسيانيد) إن لم يقتل بالخرق يقتل بالسم، وصولا للحفاظ على الأمن والسلم العام الداخلى، لذا فإنني يقينا أعتبرها واحدة من من أدوات (الأمن القومى المصرى) حاليا.
ومما سبق، ستجد هذه المقومات قد تطابقت مع بعض الأعمال الدرامية فى تاريخنا، مثل الأشهر والأبرز مسلسل (رأفت الهجان)، الذى استلهم منه العالم العربى وليس المصريين فقط روح البطولات الحقيقية، وأثار الغيظ والغل فى نفوس العدو وقتها.
لابد من إعادة النظر، لأن النتيجة الحاصلة الآن أنه فشل الإعلام في رصد الإنجازات وتم القضاء على التلفزيون المصري (ماسبيرو) على مستويات عديدة سواء في مجال الدراما التلفزيونية التي ميزت التلفزيون المصري على مدار أكثر من 60 سنة ركز فيها (تلفزيون بلدنا) على التوعية والتثقيف والحس على التنمية.
التأكيد على الهوية الوطنية
ومن فوق ذلك التأكيد على الهوية الوطنية، اللهم إلا بأعمال قليلة أنتجت مؤخرا مثل (الاختيار، هجمة مرتدة، القاهرة كابول، العائدون)، وما عدا ذلك يأتي في خانة العبث بالعنف وتدكير المرأة وتقسخ المجتمع، ناهيك عن القضاء قضاء مبرما على مواد تحمل في طياتها ثراثا هائلا علم المنطقة العربية كلها أسس صناعة التلفزيون.
وبالمناسبة كنت أول من نادى بالاهتمام بالدراما الوطنية فقد كتبت قبل 8 سنوات صفحة كاملة في (الأهرام) بعنوان (الأعمال الوطنية.. فريضة غائبة في الدراما المصرية) وقد طرحت فكرة عمل مسلسل بطولات الجيش في سيناء فجاء (الاختيار)، كما طرحت عمل مسلسلات من ملفات المخابرات المصرية، فجاء مسلسل (هحمة مرتدة).
وقد طرحت هذه الأفكار لأنه على مستوى هذه الصناعة أصبحت تفاصيل (رأفت الهجان) بما فيها موسيقاه كلاسيكية وأيقونة للمصرية والوطنية، فكان ولا يزال له تأثيره على المواطن وانتمائه، ثم غاب عن المشهد بصورة كبيرة مثل هذه الأعمال ذات الطابع الوطنى الحديث شديد التأثير منذ حلقاته الأولى والتى يلتف حولها المصريون والعرب، بحثا عن روح الانتصار للأرض أو للإنسانية، أو تمسكا بالعقيدة الأزلية (الشرف).
حتى ظهر علينا فى رمضان 2020 ملحمة إنسانية وطنية درامية رائعة تسمى (الاختيار) موثقا لبطولات المصريين جمعاء عبر الجيش المصرى، مجسدا قوة الشهداء والأحياء مثل المقدم الشهيد (أحمد منسى) ورفاقه، رحمهم الله.
واستكملت الملحمة في جزئين تاليين 2021، و2022 حملا نفس الزخم الوطني، فضلا عن مسلسلات (هجمة مرتدة والعائدون، والقاهرة كابول) وكلها أعمال قدمت روائع من ملفات صقور المخابرات المصرية.
رابعا: لقد شاهدت بعينى ذلك الشغف عربيا ومصريا بهذه المسلسلات، بل إن بعض الدول العربية صنعت أعمالا وطنية على غرارها، وليتحقق من خلاله كل ما سبق الحديث عنه من معطيات الأمن القومى وكون الدراما أداة لها، لنشاهد حالة لحمة نفسية وفكرية جديدة داخل المجتمع المصرى.
ونرى أيضا حريقا بلا هوادة فى نفوس الأعداء من جماعة الإخوان الإرهابية فيهيمون ويضربون بكراهيتهم على الأرض وفى الفضاء الإلكترونى، لكن ربك بالمرصاد، والمصريون تحصنوا، ولذلك فإن دراما مسلسلات (الاختيار، هجمة مرتدة، العائدون، القاهرة كابول) التى صنعت بحرفية عالية فى مجمل تفاصيلها قد تكون لها تكلفة مادية كبيرة تفوق عوائدها.
لكنها تحقق مكاسب عظمى فى الحفاظ على الأمن القومى المصرى والعربى أيضا، فالمجد والسكينة لأبطال الوطن، أحياء وشهداء، والنجاح والفخر لكل من قرروا الانتصار لوطنهم بالقوة الصلبة والناعمة وتوثيق شرف البطولات بـ (الاختيار)، وغيره من أعمال وطنية تصب في خانة الهوية.