بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
هو اليوم الأول لي في معتقل (طرة) السياسي.. رغم أنه كان يوما شاقا للغاية.. لكنه في نفس الوقت بالنسبة لى كنت قد أصبت خلاله بعضا من الراحة النفسية والعصبية.. أخيرا تخلصت من زنازين الحبس الإنفرادي إلي الأبد..
داخل الزنزانة الانفرادية بروفة للقبر وقد أحاطتك ظلمتها وحصرك ضيقها وتملكتك قبضة بوابة (طرة) الحديدية الموصدة.. تتدنى فيها رتبتك في سلسلة الكائنات الحية إلى حيوان تم اصطياده والدفع به الى داخل قفص.. خشية توحشه وخطره على حياة الآخرين..
تتحدد لك أقل مساحة ممكنة من الوجود.. أدنى كمية من الهواء.. فقط ما يكفى لبقائك على قيد حياة تحاول أن تلفظك خارجها.. كنت انتقل من قفص إلى قفص أياما في السجن الحربي وسجن القلعة.. الآن في (طرة)..
ومما أسبغ على المزيد من الراحة أنني استطعت إقناع (عبد العال سلومة) قائد المعتقل أنهم في معتقل القلعة السياسي أمرهم (شعراوي جمع) بعدم وضعي في زنزانة انفراديه لظروفى الطبية لأنني مصاب بضيق تنفس شديد..
وافق (سلومة) علي وضعي الليلة الأولى في زنزانة انفرادية مفتوحة الباب لمنحى نصيبا أكبر من الهواء بحيث يتم نقلى في اليوم الثاني علي قوة عنبر من مئات العنابر الموجودة ..
وقفت أمام زنزانتي أتأمل الجموع الحاشدة.. آلاف المعتقلين في (طرة).. كنت مذهولا.. كيف استطاعوا أن يصطادوا كل هذا العدد؟.. كيف سيوفرون لهم الطعام والشراب والأفرولات الخاصة بالمعتقل و البطاطين وخلافه؟..
كنت انتبه من شرودي على عشرات الأيدي امتدت تصافحني وتسألني عن أسباب اعتقالي ووظيفتي وبلدتى.. عندما قلت لأحدهم أنني كنت مدرسا قال لي في مواساة ظاهرة رغم شعورى بعدم اقتناعه من داخله.. ماتقولشي كنت.. إنت لسه مدرس غصب عنهم.. كانوا جميعا يحاولون التخفيف عني ومواساتي وإضحاكي..
في السادسة ليلا انهالت علينا صفارات حراس معتقل (طرة) في حزم تعلن أن الوقت المسموح به للتواجد في الفسحة في فناء المعتقل قد انتهت.. وأن علينا العودة إلى الزنازين بحيث لانخرج إلا في السادسة صباحا..
أصابني صوت البوابة بالاكتئاب
دخلوا إلى المبنى الذي تتراص في جوفه العنابر.. دخلوا تباعا في مارش يومى حزين من البوابة الحديدية التي تفصل البناء عن عنابر معتقل (طرة).. أصابني صوت البوابة الحديدية أثناء إغلاقها بالاكتئاب الشديد.. لو كان للموت بوابة لكان صوتها أقرب إلى هذا الصوت بكل ما يشحنه من قسوة و صلافة..
وفقا لتعليمات (سلومة) تركوا زنزانتي الانفرادية مفتوحه الباب.. أغلقوا في تتابع مقيت أبواب جميع الزنازين المجاورة لزنزانتي.. استدعاني (عبد العال سلومة) ليخبرني أنه على استعداد أن يخصص لي زنزانة انفرادية خاصة بي بحيث يغلقونها علي شخصي من السادسه حتي السادسه..
حاصرتنى أحاسيس الحيوان الحبيس في زنازين القلعة الانفرادية.. حاججته بأنى طبيا غير قادر على قبول مثل هذا الاقتراح..
في منتصف الليل لم يحضرنى النوم.. خرجت من الزنزانة لأتعرف على المعتقل.. ما هي إلا خطوات حتى انقض الحراس على كتفى ودفعى إلى الزنزانة الانفرادية.. جلست على البرش حتى الصباح..
إنطلقت الصفارات في السادسة صباحا.. تم فتح البوابة الفولاذية الضخمة..انطلق المعتقلون يهرعون تباعا الى الفناء يتلقفون بعضا من الشمس والهواء.. خرجت معهم فأنا أعلم جيدا أنها الليلة الوحيدة المقرر لى أن أقضيها في الزنزانة الانفرادية..
بعد خطوات من سيري وحيدا مأخوذا من تدنى كل ما يحيط بى من حياة تنطلق شخص خلفي يلاحقنى و هو يصرخ مناديا: يا أستاذ.. يا أستاذ.. يا أستاذ.. توقفت لينقض على يقبلني في سعادة مرددا: أنا سعيد جدا اني شفت حضرتك .. دا أنا مفيش كلمه حضرتك كتبتها إلا ما قريتها..
كل كتب سعادتك عندي.. تعجبت من كلامه.. أنا لم أصدر في حياتي إلا كتابا واحدا هو (الدنيا هيّ المشنقة) الذي دفع بى إلى هذا المكان البشع.. مشى بجانبي وهو يحدثني في حماسة بالغة عن مؤلفاتي وكتاباتي.. كنت استمع اليه صامتا ظنا منى أن المعتقل قد أفقده عقله..
حاولت الهرب لكنه لاحقني.. عندما وصلت إلى درجه الزهق انفجرت في وجهه: (لو حضرتك عارفني قوللي أنا مين؟).. كرر في حماسة أنه يعشقني من أول كتاب صدر لي..سألته: اللي هو كتاب ايه؟.. قال لي إنه كتاب عن النقد الأدبي..
الأستاذ (علي شلش)
أخبرته أنني لم أصدر كتبا عن النقد.. سألته عن اسم المؤلف المكتوب علي الكتاب: قال لي و هو يحاصرنى بثقة مبتسما: إسم حضرتك طبعا الأستاذ (علي شلش).. قلت له متعجبا: وايه اللي عرفك إن انا (علي شلش) بالثقة دى كلها؟
قال لي وهو يشير إلى ظهري.. اللي عرفني هو الإسم اللي موجود على ضهر حضرتك دا.. تعجبت.. خلعت القميص لأكتشف أن هذا القميص كان بالفعل خاصا بعلي شلش عندما كان معتقلا هنا في معتقل (طرة) السياسي..
كان (على شلش) قد تم اعتقاله لسبب غاية في الغرابة بالنسبة لشخصه المحترم والوطنى .. التخابر مع جهة أجنبيه.. فقد ذهب (على شلش) إلى جامعة القاهرة ليشارك في الحضور محاضرة لجان (بول سارتر)..
وعند البوابة الخارجية كان (شلش) قد التقى مصادفة بشاعر عربى كان يعرفه بصحبة صديق قدمه إليه.. وجلسوا ثلاثتهم فى نفس الصف يستمعون إلى المحاضرة، وحيث إن (شلش) لا يعرف الفرنسية، كان الشاعر يهمس له ببعض العبارات من وقت لآخر مترجما له ما يقوله سارتر..
كان المحقق في المخابرات يركز على وجود علاقة مشبوهة بين الشاعر العربى والمؤلف.. وكان الغموض الذى انتاب الحوار بين (شلش) والشاعر العربى من وجهة نظر المخابرات – آنذاك ـ ذريعة للقبص عليه والإلقاء به فى المعتقل وتعذيبه وإهانته وإذلاله ..
عدت إلي الزنزانة.. قمت بحفظ القميص وسط بعض الأوراق القديمة.. طلبت من الله أن يكتب لى خروجا من المعتقل حتى أهدي هذا القميص لصديقي (علي شلش).. تسلمت قميصا آخر مع بعض البطاطين من بعض المعتقلين.. ذهبت بالقميص إلى الترزي المعتقل مثلنا ليضيف له أزرارا وقطعه إضافية من القماش الأزرق حتى يأخذ القميص شكل جاكت البيجامه..
أذكر أني بعد خروجى من المعتقل ذهبت إلى (علي شلش) في مجلة الإذاعه مصطحبا معى في كيس القميص المكتوب عليه اسمه.. فرح الرجل جدا بزيارتي.. بعد أن أعطيته القميص ظل ممسكا به يتأمله كأن أسطوانة مرئية من كل الذكريات بدأت تدور داخل عقله..
ترقرقت الدموع في عينيه ثم انهمر في البكاء مغطيا بالقميص عينيه في مشهد ذكرنى ببكاء يعقوب على ابنه يوسف وهو ممسك بقميص الابن الضائع.. كان القميص في كلا القصتين يمثل مرثية مبكية ومؤلمة على ضياع هائل..
احتضن (شلش) القميص
ارتفع صوت بكاء (شلش) حتى حضر جميع من كانوا في المجله يسالوني في قلق عن السبب.. احتضن (شلش) القميص وهو يغادرنا في خطوات حزينة تشيعه نظرات الحسرة والرثاء..
تركنى الرجل الذي أزعجني والذي ظن أنني (علي شلش) بعد أن أخبرته أنني شاعر.. سرت وحيدا بضع ساعات.. طمأنت نفسي بأن المعتقل هنا به دورات المياه التي كنت محروما منها في الحربي والقلعة.. أدخلها في أي وقت و أمضي فيها الوقت الذي احتاجه..
وأنني بعد أن أسكن في أحد العنابر سيكون لي حرية التجول.. وحرية الكتابة.. وحرية لقاء الأصدقاء الذين سأتعرف عليهم..
لاحظت أن بعض المعتقلين رفضوا دخول عنبر النشاط المعادي في (طرة) مفضلين عليه الجلوس في زنزانات انفراديه ومنهم الشاعر (محمود الماحي) الذى عندما قدمه الإعلامي (أحمد فراج) في برنامجه التليفزيوني (نور على نور)..
ألقى قصيدتين الأولى كانت بعنوان (موكب الهجرة) والثانية بعنوان (رحلة الشوق)، وقد شاهدت (أم كلثوم) البرنامج فأرسلت إلى الشاعر (محمود الماحي) ليذهب معه لمقابلتها.. وطلبت منه قصيدة لتغنيها في عيد ثورة 23 يوليو والذي سيحل بعد شهرين فكتب قصيدة بعنوان الفجر الجديد ولحنها رياض السنباطي وغنتها أم كلثوم عام 1966.
كذلك الفنان (صلاح الحسيني).. وهو نفس الاسم الذي يحمله صحفي بالجمهورية كان معنا.. وأيضا محمود نصر شقيق صلاح
نصر.. وبعض الأشخاص الآخرين ..
بداية السجون
أول طـــريـــق ( الــسـجــن ).. كــان الـنـكـسـة
الـــشـــرخ كـــان جـــوايــــا (طــوربــيــد) هـــــادر
ولا كــنـــت أمــــلك روح جــــريـــئــــة مــشــاكـســة
أصـبــحــت ع الــداخــلــيــــة.. مــــــــارد.. قــــــادر
…………………………………………………..
أيـــوه اتـــمـــلـــــت أوراقــــــــي. قــلــت لــنــاســك
فـى ديـــوان مُـــصـــادر.. كــــــل مـــــا اتــمـنـيـتُــــه
إن الـــطــريـــــق الــصــــــح هــــــو خــــلاصـــــــــك
وان الــجـمــل داس فــــوقـــــى .. لــمــــا ســـقــيــتــه
…………………………………………………..
فــى الـــنــــدوه .. كــــان الــكـــل واقـــــف يــهــتـــف
وأنــا ع الــمــنــصــه بـــاقـــول.. وأعــيــد أشـعــارى
كـــل الــقــلـوب .. مـــــع كــــــل دقــــــة تـــســـقــــف
وأنــا بــاعْــــــدِى كــل الــمــشـتـاقــيــن مـــن نـــارى
…………………………………………………..
الـمـخـبـريـــن .. أكـــتـــر كـــتــيـــــر يـــا حـــبــيــبـــه
مـــن كـــــل جـــمـــهـــور الـــمــجــاعــــه الـــواقـــف
الــجــو كـــان مـــلــيــــان قـــــــرود .. وديـــــابــــــــة
والـــشـعـــب كـان واقـــــف يــِـســقــــف خـــــايــــــف
…………………………………………………..
مـاشــيـيـن ورايــــــــا .. كـــــل حــــتـــة أروحـــهـــــا
أرجــوكــــى شــيــلى الــمخــبــريــــن مـــن جــنــبـــى
الـخـزنـــة فِـضـيــِت.. واتــســــــرق مــفــتــاحـــهــــا
والظابــط اللــى شـتـمـني.. داس عـــلـــى قـــلــبـــــى
…………………………………………………..
وصـــلــت حــروفــى للـــــى جـــاع يــــــا غـــنـــيّـه
نـام فـوق كــتــــافـــــى.. مــسـحــت كــل دمــوعــه
لــــو كــونــتـــى يــومــهــا يـــا أمــى شـوفـتي عنيّه
كونتى هاتـبـكــى .. ع اللـــى مـــات مـــن جـــوعـــه
…………………………………………………..
( الــدنــيـــا هـــيّ الــمــشــنــقـة).. خــدتــيـنــــى
وجــلــدتـــى قـــلــبـــى كـــل يـــــــوم بــمـــراقـــبــــة
لـــمـــا هــمــســـت إلــيــكـــى .. أيـــــوه اســقــيــنـى
أيـــــوه خــدعــتـــي الـــــروح .. قــطــعــتـــي الرقبة
…………………………………………………..
يــــا ( مــحــســن الــخــيــاط) .. يــاريـت تنشر لي
مــهـــمـــا هـــــــا تــتـــعــرض لــبــلـــوة بــســـبـبـي
أنــــا (إبــراهــيـم رضــوان).. يــا ريّـــس (شارلى)
فـــى الـشــِعـــر.. أيــــوه فــقـــدت ويـــــاك أدبـــــــي
…………………………………………………..
يــــاعـــم يـــــا (جـــبـــريـــــــل).. يــا حامل همي
إســـنــدنــــى فـــــــوق جـــبــل الــوجـــع بـقـصـيـــدة
لــــو يــــوم خــــدونـــى الــسـجــن .. طَــمِـــن أمــــي
وان مُـــــت .. لا تــســقــيـهـا (فــنـجـــان ســـــادة)
…………………………………………………..
طــاردونــــــا فــــى الـنــدوات.. وداســــــوا ورقـنـــا
وســـرقـــنـــا نـــــار الــشــمــس.. لاجــــل عــنــيـكي
فـى بــحـــور عــرقــنــا.. يــا مــصــر.. آه غَــرَقــنــا ..
كـــل اللـــى كــــان عـــايــــز يـــــدوس مــعــالــيــكــي
…………………………………………………..
يا امه وأنا فاكرك.. وفاكر قُولك
( يا ابني بلاش تتحدى مارد كافر)
بكره يجُولك.. يسمعوا أقوالك
كل اللى ليهم ديل.. وليهم حافر
…………………………………………………..
ما اقدرتش أسكُت ع اللى كان بيدوسك
ويتف فوقك وانتي واقفه معانا
الشحط كان حاطط فى جيبه فلوسك
إنتى اللى كونتى فى روحنا أغلى أمانة
…………………………………………………..
بوابة لون العيشة صوتها مِزَيَّقْ
فتحوها لاجل ما يقفلوها ورايا
عنبر ميدان واسع.. ولكن ضيَّق
فى السقف بصه علىّ ميت حداية
…………………………………………………..
صادروا كتابى.. بعدها صادروني
حكموا علىّ بفرقة عن أحبابك
أنا شفت أكتر بعد قلْع عيوني
بس اللى كان مضايقني (قِفل) ف بابك
…………………………………………………..
قفلة بيبانك يا حبيبتي صابتني
بالصمت.. بس نطقت فوق أوراقي
إيه اللى خلَّى الصحبة فجأة سابتنى
إيه اللى خلى الكل ما هُش باقى
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد