بقلم الفنان التشكيلي الكبير: حسين نوح
على فترات متباعدة دائما تنبت لنا بطن الأرض المصرية من كل بقاعها عمالقة في الثقافة والابداع تسجل أسماؤهم بحروف من ذهب في سجل العظماء الذين نفتخر بهم وستفتخر بهم أيضاً الأجيال القادمة، مثل الموسيقار العبقري (علي إسماعيل).
قدمت لنا مصرالتنويري وأحد قادة النهضة العلمية في مصر (رفاعة رافع الطهطاوي) المولود في طهطا إحدى قرى محافظة سوهاج، وأيضا طه حسين من إحدى قرى الصعيد.
ومن كوم الدكة (سيد درويش) الذي مات وهو يحلم بالسفر إلى إيطاليا لدراسة الهارموني بعد أن اهتم بالمسرح الغنائي، و(أم كلثوم) سيدة الغناء العربي من طماي الزهايرة محافظة الدقهلية، ثم نجيب محفوظ من الجمالية واحمد زويل من البحيرة ومجدي يعقوب، وكذلك محمد عبد الوهاب من مواليد باب الشعرية القاهرة، ومن قرية الحلوات عبد الحليم حافظ محافظة الشرقية.
وكثير من عمالقه منهم الموسيقار العملاق (علي إسماعيل) ابن محافظة الشرقية الذي يعرف قدره كل من استمع لإعماله التي أضافت للإبداع الموسيقي المصري واستمع له الكثيرون في العالم وخصوصاً مع فرقة رضا التي مثلت مصر في كثير من محافل العالم وامام معظم روساء العالم.
حين كانوا يحضرون في ضيافة الرئيس جمال عبد الناصر فتقدم عروض الفرقة ليفتخر بها الرئيس وكان ثلاثي العظماء (محمود رضا، وعلي رضا) ثم (علي إسماعيل)، الذي استمعت لمن تعاملوا معه ومنهم (محمد عبد الوهاب)، حين حضر الي استديو النهار أواخر الثمانينيات.
وقال عنه: إنه سيد درويش الجديد، مبدع حقيقي وسألت بما انك موسيقار الأجيال فقاطعني قائلاً: الموسيقار والموزع هو (علي إسماعيل) ملحن وقائد أوركسترا واستمتع به في الموسيقى التصويرية.
اهتمامي بمعرفة هذا المبدع
ومن هنا زاد اهتمامي بمعرفة هذا المبدع وكنت دائما ما استعلم من أمثال (أحمد فؤاد حسن) قائد الفرقه الماسيه التي صاحبت معظم كبار المبدعين أمثال (عبد الحليم وعبد الوهاب)، وصاحب أيضاً المبدع (علي إسماعيل) منذ بداياته معه في معهد الموسيقى.
فقال عنه إنه مبدع يكتب موسيقاه ببراعة شاعر يقرض الشعر وأشعاره مرتبطة بباطن الأرض المصرية، ويقدم أعماله في ثوب وشكل متحضر يناسب أعظم ما وصلت اليه فنون الموسيقى.
وحكى لي كيف تدرج من الكتابة والتلحين للمونولوج وغنت له (ثريا حلمي)، واهتم بموسيقى الچاز وتطور الي الأوركسترا ومانسمعه من أعمال في الموسيقي التصويرية.
وأردف: (علي إسماعيل) من قلائل تعاملت معهم لا يبحث عن شهرة، هو قليل الكلام دائماً معه ورق النوتة الموسيقية، يكتب ويعمل في صمت ولا يحب اللقاءات والحوارات الإذاعية والتليفزيونية.
ويرى أن أعماله تتحدث عنه فهو لا يحب الكلام ويفضل كتابة ورق النوتة الموسيقية ليلقي عليه بالموازير الموسيقية فوق السلم الموسيقي الذي أراه صعد به إلى عنان النجاح، وخلد اسمه بين الكبار وأصبحت موسيقاه بداخلنا نتذكرها دائماً.
فالموسيقى غيرمغرضة وليست كالعمارة تقدم منتج إنشائي إنما هى فقط تقدم إحساس بالسعادة السمعية وبهجة نشعر بها، وهكذا نشعر بموسيقى العظماء أمثال (علي إسماعيل)، كما نستحضر موسيقي (فرانسيس لاي) واضع موسيقي فيلم (قصة حب) في السينما للمبدع (أريك سيجال)، الموسيقى ترافقنا في وحدتنا وتؤنسنا.
(علي إسماعيل) أبهرنا وأبهر كل من يدرك قيمة الموسيقى، ويعرف سحرها وعلومها ومحضها، وكيف التحفت موسيقاه وبشكل أوركسترالي عالمي بالتيمات المصرية الاصيلة المرتبطة بالوجدان المصري.
وعرفت عن الرجل الكثير ومدى عشقه للموسيقي منذ نعومة أظافره بالسويس فقد كان والده يعمل قائد لفرقة الموسيقى الملكية والتحق بالجيش المصري وانتسب لمعهد فؤاد الأول للموسيقى، وأصبح زميلاً لعبد الحليم حافظ وأحمد فواد حسن وكمال الطويل وعزف الة الساكسفون والكلارنيت والبيانو.
هى آلات غربية الطباع ولها سلالم خاصه بها يعرفها الموسيقيون، ثم زاد ولعه بالتوزيع الموسيقي فكتب النوت والبرتاتورة لمعظم الآلات حتى النحاسية وتميزت موسيقاه بالاوركسترالية.
وهنا أظهر (علي إسماعيل) إدراكه وحذقه الواعي لقيمة الكنتربوينت والهارمونيي وعلوم الموسيقي العالمية، فتعودت الأذن المصرية على تلك النوعية التي تجاوزت تنغيم الكلمات والاغاني الفردية.
قيمة التوزيع الموسيقي
وبدأ يظهر الإبداع الموسيقي بشكله الأوركسترالي واعتادنا على سماعه خصوصاً في الأفلام المصرية، مع موسيقي (أندريا رايدر) اليوناني الأصل و(فؤاد الظاهري)، عشق وأدرك (علي إسماعيل) موسيقى الأوركسترا ووجدها أشد عمقاً وتآثيراً، وأدرك ملحنون وموسيقيون المرحلة قيمة التوزيع الموسيقي.
وشعرت الأذن المصرية بتلك النوعية من الموسيقى واخترقت مسامعنا وأدركنا الفرق بين الأوركسترا والتخت والأغنية الفردية، كانت موسيقى الأوركسترا واضحة جلية في أعمال العملاق (علي إسماعيل)، وأدرك المخرجون والملحنون قيمة هذا المبدع الذي انطلق مع من سبقوه وهم الاثنين العظيم (أندريا رايدر) الذي آمن وأدرك قيمة وموهبة علي اسماعيل وايضاً فؤاد الظاهري.
وشكل هذا الثالوث شكل الموسيقى التصويرية بعد أن كانت معظمها من مقتطفات من موسيقى عالمية.
بدأ (علي إسماعيل) منذ لقائه بعبد الوهاب وأنور وجدي في فيلم (غزل البنات)ـ وأخذ يتطور وأصبح من علامات الموسيقى التصويرية تلك الحقبة، وحين عمل مع (فرقة رضا) كانت مرحلة جديدة لتظهر إبداعه، فقد اصبح المؤلف الموسيقي للفرقة وسافر معهم في معظم بلدان العالم.
وكيف استقبلت الدول الغربية الفرقة وموسيقى (علي إسماعيل) التي ارتبطت بالأرض بالتيمات الشرقيه من كل المحافظات وعانقت السماء بالقالب الموسيقي الاوكسترالي العالمي، وهنا ربط بوعي بين الأصالة والمعاصرة.
وظهر ذلك جلياً في أعمال (فرقة رضا)، نتذكرمنها (خان الخليلي والناي السحري والحجالة)، ومن أهم إنجازات (علي اسماعيل) الغنائيه ما قدمه للمبدعة (فايدة كامل) نشيد (دع سمائي) بعد العدوان الثلاثي، وأغنية (راجعين في إيدنا سلاح)، من كلمات زوجته الشاعرة (نبيلة قنديل)، وهى أيضاً من كتبت (أم البطل) لشريفة فاضل.
ثلاثمائة فيلماً مصرياً
لقد خطف الموت هذا العملاق وهو لم يتجاوز عامه الثاني والخمسين من عمره، ولكن في تلك الفترة القصيرة أنجز أعمالاً وإبداعاً جعله من أهم عظماء جيله، فلدينا من أعماله ثلاثمائة فيلماً مصرياً.
منها (غرام في الكرنك وإجازة نصف ألسنة، والأرض والاختيار ومعبودة الجماهير وبين القصرين والحقيقة العارية وعائلة زيزي وأبي فوق الشجرة) وفي الغناء قام بالتوزيع الموسيقي لكبار الملحنين، أمثال (عبد الوهاب وكمال الطويل) ومعظم أغاني (عبد الحليم حافظ)، وكان يقود الفرقة ويرافق العندليب علي المسرح في أغاني (صورة المسئولية ومطالب شعب)، ولحن النشيد الوطني الفلسطيني (فدائي).
أرى وبكل موضوعيه أن (علي إسماعيل) يستحق أن نحتفي به وليعرف الشباب قيمة الابداع الموسيقي المصري، وكيف لعبت الموسيقي دوراً حقيقياً في تكوين الوجدان المصري، وكيف كانت الأغاني الوطنية تقدم وتلهب وجدان المواطن وتنمي قيم الولاء من كلمات الى لحن وتوزيع في شكل أوركسترالي يناسب كل عصر.
ونعرف منه أن لدينا تاريخ موسيقي واع متحضر بأمثال المبدع (علي إسماعيل)، ونذكرالشباب بآعماله الاصيلة، وأرجو أن ينال هذا الرجل المبدع التكريم المستحق بعمل تمثال يوضع في أحدالميادين باسمه ليتعرف عليه شباب هذا الجيل فمصر مليئة بالمبدعين.
ولكن مزيد من الفرز لنكرمهم وتزين بهم الميادين كما يحدث في العالم ونشاهده، فمصرعظيمة بتاريخها عريقة بآثارها فخورة بمبدعيها الحقيقيين في كل مناحي الإبداع مصر تنطلق وتستحق.