بقلم الكاتب الصحفي: رسمي فتح الله
لم يكن (محمد شوقي) مجرد ممثل كوميدي، بل كان رمزًا للبساطة وخفة الظل، استمدها من نشأته في حي بولاق الشعبي.. هذا الحي العريق الذي يفيض بروح المصريين الأصيلين، المحبين للمرح والمتقبلين للحياة بكل تقلباتها.
وُلد (محمد شوقي) في عام 1915، وشبّ على عادات وتقاليد بولاق، حيث تعلّم من ناسه بساطة الفكاهة وعمق المعاني التي يجسدها الرجل المصري الشعبي في حياته اليومية، فأصبح يجسد شخصية المصري البسيط الذي يضحك الناس دون حاجة إلى تعقيد، ويترك أثرًا لا يُمحى بروحه الصافية وملامحه الطيبة.
برز شوقي في العديد من الأدوار، لكن دور (نعناع) في فيلم (سكر هانم) خلّد اسمه في ذاكرة الجمهور.
في هذا الدور، قدّم (محمد شوقي) شخصية الخادم الطيب، الخفيف الظل، الذي كان رفيقًا لكبار نجوم الفيلم، مثل (عبد المنعم إبراهيم، وكمال الشناوي، وعمر الحريري). أتقن (محمد شوقي) دور (نعناع) بحس فكاهي يجعل المشاهد ينسى همومه، ويعيش مع نعناع خفة الظل والتعليقات الطريفة التي تتدفق من قلبه النقي.
كوميديا المواقف الشعبية
في أحد مشاهد الفيلم، يحمل (نعناع) صينية عليها فنجان قهوة ليقدمه لعبد المنعم إبراهيم، الذي يعلّق بطريقته الساخرة: (ما حدش واخد من الدنيا حاجة غير الكلمة الحلوة).
ثم يستدير ليسأل كمال الشناوي عن (ريال) ليعطيه لنعناع كإكرامية، فيتحوّل الموقف إلى كوميديا عبقرية عندما يتحاورون جميعهم عن (الريال)، ويطلبون من بعضهم البعض.
حتى يخرج (نعناع) الريال من جيبه ليعطية لعمر الحريري الذى يعطية لكمال الشناوى ثم يعطيه إلى عبد المنعم إبراهيم في النهاية يستقر (الريال) فى يد نعناع الذى أخرج (الريال) من جيبه أصلا في سلسلة عفوية، لينفجر الضحك من الجمهور.
أصبح هذا المشهد بمرور الوقت رمزا للمكافآت التي تعود إلى نقطة الصفر، تمامًا كما ترفع الحكومة الرواتب الصغيرة ثم تعود الزيادة مرة أخرى إلى الحكومة.
وفي فيلم (المجانين في نعيم)، جسّد (محمد شوقي) دور (شحتوت) قارئ الكفّ، وزميل إسماعيل ياسين في مستشفى المجانين، حيث قدم شخصية الكوميديا الشعبية من زاوية عميقة.
خفة الظل وروح بولاق
يظهر (محمد شوقي) في هذا الدور بصورة المصري الشعبي الذي يمتهن الدجل والنصب فهو خبير فى قراءة الكف والقفاوات يحمل حكمة الشارع، و( فهلوة) أبناء البلد.
تفاعل الجمهور مع هذا الدور دون عناء، وشاركوه ضحكاته وابتساماته العفوية التي ظهرت دون تكلّف.
شخصية (شحتوت) كانت قريبة من قلوب الناس؛ لأنها جسّدت روح الشعب وفكاهته البسيطة.
وأبدع (محمد شوقي) في تقديمها بأسلوب يحاكي المواقف التي يعيشها الناس يوميًا، دون مبالغة أو افتعال.
لم تكن شخصياته معقدة أو مصطنعة، بل كانت شخصيات تجسد أوجاع الناس وهمومهم، وتقدم لهم الابتسامة التي تعيد لهم الأمل.
كانت أدوار شوقي مرآة تعكس واقع حي بولاق الشعبي، بروحه النقية وأهله الطيبين، أصحاب النكتة الحاضرة والبساطة الساحرة.
شخصية المصري الشعبي
رغم أنه لم يلعب دور البطولة في أفلامه، إلا أن تأثيره على الجمهور كان لا يُنسى، فهو لم يمثل لنفسه فقط، بل جسّد المصري الشعبي الذي ينقل ضحكاته عبر الشاشة، ويخاطب من خلالها قلوب جمهوره.
وفي مسرحية شارك فيها مع الفنان (عادل خيري)، برزت خفة ظله وروحه التلقائية في الحوار التالي:
محمد شوقي: (يا ساتر يا رب، سلام قولا من رب رحيم.. ابعد مقتك وغضبك يا رب. والنبى يا رب تجيب العواقب سليمة).
عادل خيري: (سليمة إن شاء الله.. إنت مالك متشنج كده ليه؟).
محمد شوقي: (أنا ما بخافش في الدنيا دي غير من حاجتين اتنين عيادة الحكيم ومكتب المحامي.. تخش عند ده سليم تطلع وأنت شايل أمراض الدنيا على كتافك، وتخش عند المحامى (هادي) تخرج وانت بتنفخ وتقول يا شر اشتر).
كانت هذه العفوية وخفة الظل التي تجسدت في جمل بسيطة تُعيد لنا جزءًا من شخصية المصري الشعبي، الذي يواجه الحياة ببساطة ومرح، ويرى فيها ما يستحق أن يضحك عليه بدلًا من أن يحزن.
كانت دعوته اليومية البسيطة: (النبي يا رب تطلعني من دار البلا بلا بلا)، دعاءً صادقًا من قلوب المصريين المحبين للحياة رغم ظروفهم القاسية.
استمر (محمد شوقي) في إضفاء البهجة على قلوب المصريين طوال حياته، عاشقا للمسرح والسينما، وقلبه مليء بالحب لفنه.
كان مشواره الفني بمثابة مرآة للمصريين في كل عصر، وشاهدًا على تحولات السينما والمسرح عبر عقود من الإبداع.
وفي عام 1984، غادر (محمد شوقي) الحياة وهو على خشبة المسرح، المكان الذي شهد أجمل لحظات عطائه.
الرحيل على خشبة المسرح
كانت وفاته لحظة حزينة، لكنها أيضًا حملت دلالة وفاء فنان أصيل لفنه وجمهوره.
وفاته على المسرح أثّرت في جمهوره، فقد رحل وهو يؤدي رسالته، وكانت كلماته الأخيرة على الخشبة تظلّلها روح الفكاهة والمشاعر الجميلة التي ظلّ يحملها طوال عمره.
وكأنما اختار المسرح ليكون شاهدًا على رحيله، ليظلّ (نعناع) السينما المصرية خالدا، يخطف الابتسامات من القلوب ويدخلها إلى بيوت المصريين في كل وقت.
لم يكن شوقي نجماً متصدّراً، لكن بريقه الذي أضاء القلوب كان خالداً، ترك خلفه إرثاً من الضحكات الصادقة والأدوار التي تروي قصصًا من نبض الشارع، وأصبح كل مشهد له وكل جملة تقال عنه ذكرى عالقة في نفوس المصريين.
(محمد شوقي).. (نعناع) الفن، خفيف الظل الذي رسم البسمة ببساطة عفوية الواد الفهلوي، سيبقى ماثلًا في أذهان جمهوره، يجسد عبر الشاشة والمسرح روح المصري الحقيقي، الذي يضحك من القلب ليبث الحياة من جديد.