بقلم الشاعر الكبير: إبراهيم رضوان
الخطاب من الأصدقاء والأهل هى أنبوب التنفس الصناعى الذى تستنشق به الحياة خارج (المعتقل).. الحبل السرى الذى يربطك في ظلمة (المعتقل) بالوجود الواسع.. رغم أنها كانت تتأخر كثرا لخضوعها للرقابة المشددة وفحصها سطرا بسطر.. ليشطب على اسطر محظورة أمنيه كأن يطلب السجين من أهله ملعقة معدنية..
أوان تأتى للسجين في (المعتقل) أخبار من الخارج سياسية أو ثقافية مما يتنافى مع عزلنا هنا بغرض اجتثاثنا كليا من عقل هذا المجتمع و تركه لأصحاب الشأن..
كنت في بداية تواجدي في (المعتقل) بطره أشعر بالملل.. وإشغالا للفراغ القاتل اتفقت مع معظم العنابر أن أتسلم الخطابات بالنيابة عنهم من المندوب الذي سيسلمها لي كل ليلة في تمام التاسعة من خلال البوابة الحديدية المغلقة، والتي تفصلنا عن بقية المعتقل.
العنبر الوحيد المستثنى في (المعتقل) هو عنبر الشيوعيين الذين كانوا يتحدثون دائما عن (الأبنودي) الذي ظل معهم عدة أيام ثم صدر قرارا بالإفراج عنه، مؤكدين أن الداخلية أرساته ليتجسس عليهم.
كذلك قالوا عن (سيد حجاب).. و قد أكد على المعنى تقريبا فيما بعد الشاعر (أحمد فؤاد نجم) في حوار تليفزيونى له مع (طونى خليفة)، و كان الحوار نصا :
لماذا شتمت الشاعر زميلك عبد الرحمن الأبنودى؟
دا مش زميلى .. دا مخبر.. زميلى ازاى؟
مخبر؟.. اللي دخل السجون؟
ها ها ها.. دخل ايه يا اخويا؟.. عبد الرحمن الأبنودى وسيد حجاب وسيد خميس و أحمد الخميسى ومحمد عبد الرسول، وكانت الموضه بعد الشيوعين ما خرجوا في 65 انك تخرج من (المعتقل) تروح على الإعلام..
كانو عاملين شلة على قهوة اسمها (إيزافيتش) ويقولوا احنا عاملين تنظيم اسمه (وحدة الشيوعين).. وأول ما خشوا القلعة قالوا لزكريا عمار: احنا عاوزين ورق علشان نكتب استنكار لكلامنا..
طب احنا لسه حققنا معاكم.. وقعدوا كم يوم زى ما انت شفت و بعدها على الإعلام.. دا معبر..
صلاح عيسى هادئا ومهذبا
كانوا كمجموعة شيوعين يشككون في كل ما هو ليس شيوعي.. كان (صلاح عيسى) هادئا جدا و مهذبا.. وقد دخل إلى هنا بسبب تنظيراته عن ثورة يوليو بخاصة كتابه (الثورة بين المصير والمسير)..
و بشكل خاص أقدر لصلاح مكانته كمحلل سياسى وكاتب.. و له العديد من المؤلفات ذات القيمة في موضعها منها (تباريج جريج) و (شاعر تكدير الأمن العام عن الملفات القضائية للشاعر أحمد فؤاد نجم)، و(مثقفون وعسكر: مراجعات وتجارب وشهادات عن حالة المثقفين في ظل حكم عبد الناصر والسادات..
و(البرجوازية المصرية ولعبة الطرد خارج الحلبة)، و(محاكمة فؤاد سراج الدين باشا: حين وضعت ثورة عبد الناصر ثورة سعد زغلول ومصطفى النحاس في قفص الاتهام و البرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة و الكارثة التي تهددنا….) وغيرها.
و(صلاح) من مواليد قرية (بشلا) المجاورة للمنصورة، لكنه كان يتلكك لي لأنني رفضت الانضمام اليهم في عنبرهم.. يتلكك إلى درجة أنني كنت أجلس في أحدى المرات علي البطاطين السوداء التي وضعوها في المسجد الموجود بين العنابر..
حيث شاهدت (صلاح عيسى) متجها إلي دورة المياه الخاصة بنا كإخوان ونشاط معادي.. حياني فقلت له: اتفضل يا صلاح..أبلغت عنبره بمكان تواجدى الذى رآنى عليه فاعتبروني قد ارتكبت جريمة وأرادوا محاكمتي في عنبرهم في (المعتقل)..
رفضت ذلك لعدة أسباب منها أنني عاهدت نفسي ألا أدخل عنبرهم نهائيا.. ومنها أن (سعد هجرس) الصحفي بالجمهوريه يكرهني جدا.. وإلى الآن يحيرنى سر كراهيته الشديدة لى – رغم انه من مواليد المنصورة و بلدياتى، و لم اجد من أسباب سوى انى برفضى الانضمام الى عنبرهم قد مثلت لهم مرآة عكست لهم قبحا آلمهم..
رغم انى في حقيقة الأمر لم أكرهه لأنه ليس لدى من الأسباب ما يدعونى إلى ذلك.. بالعكس.. فمواقفه التي تابعتها حتى وفاته عام 2017 كانت تحضنى على أن أكن له الاحترام..
فقد كان معارضا شرسا للتوريث أيام مبارك.. و قاوم حكم الإخوان كأشجع ما يكون.. وحينما أصابه سرطان الرئة رفض أن يطلب أى معونة من الدولة، لولا أن المؤسسة العسكرية تدخلت بنفسها وألحقته بالمركز الطبي العالمى لعلاجه ..
كنت أخرج كل ليلة لأتسلم الخطابات والمرور بها علي عشرات العنابر في (المعتقل) لتسليمها لأصحابها الذين كنت أسعد لسعادتهم.. لم أكن وحدي الذي ينتظر مندوب البوسته.. كان يقف معي محامي إخواني من الفيوم اكتشفت من أول مرة أنه شاذ .
فؤاد حجازي و(سليم بقسماط)
من الرسائل التي وصلتني رسالة من الأديب (فؤاد حجازي) الذي كان يوقع رسائله دائما باسم (سليم بقسماط).. فقد كان اسمه هو الآخر تحت الأنظار.. الرسالة الأولي له أسعدتني جدا.. كان (فؤاد حجازي) من أعز أصدقائي.. وإليكم نص الرسالة:
الصديق العزيز (إبراهيم رضوان):
تحياتى وأشواقي لك يا ملعون.. أوحشنا شعرك اللعين.. وجلساتك.. وقفشاتك .. سلامك يا سيدى وصل للأخ (إبراهيم قاسم).. وهو يرسل تحياته لك.. ولا يفتأ يهاجمنى من أجلك.. ويعتبرنى مقصرا في حقك.. وكأنى أملك خاتم سليمان مثلا..
الأخ عزت صاحب البنزينة يرسل تحياته.. ويتمنى لك إفراجا سريعا.. عن جولاتى.. لم أعد أذهب للقاهرة.. و لم أعد أقابل أحدا.. وليس هذا بمزاجى.. ولكنها الظروف ..
تسألني عن طعم الأيام..
فأقول: كالماء.. لا طعم ولا لون.. ولا يملك أحد أن يمسك فرشة و يلونها.. ولا إيه رأيك.. كتاباتى عليها اللعنة.. مع إن أخوك واكل الجو فى المجلات الجديدة.. إلا أن كتبه موش راضيه تطلع.. لكن واللى خلقك لازم آكل الجو..
حل بمنزل سيادتى مولود جديد.. أخ للولد اللى أنت شفته.. وطبعا الاتنين يجعلان حياتى جحيما.. لا أستطيع الكتابة والقراءة إلا بعد أن يناما.. وبعد أن يناما.. أكون أنا عايز أنام..
إيه رأيك؟.. ماذا أفعل؟.. أظن عندك وقت فراغ.. زود معلوماتك بالقراءة.. وإذا كتبت شيئا فأرجو أن تبعث به إلى.. وحبذا لو تكتب لى عن حياتك وأحوالك.. و كيف تمضى وقتك ي (المعتقل).. وعنى في الخدمة..
عليك أن تأمر وعلينا بالطاعة يا سيدى.. أخوك نازل كتابة هذه الأيام عن المقاومة.. آلو.. يا مقاومة.. أمال.. إيه رأيك في أخوك وفي كتابة أخوك إذا كانت بتوصلك وبتقراها ..
(عفاف راضي) مطربة جديدة
الجديد في الأصوات.. مطربة جديدة اسمها (عفاف راضي).. صوتها جميل وعميق.. فيه رنة مصرية..أصيلة.. حزينة.. وشوق مبهم.. أتوقع لها مستقبلا عظيما.. الجديد في الكتب لا شيء.. دار الكاتب مخاصمه الكتاب الجدد.. المؤتمرات الأدبية في الخارج حيمثل فيها الشبان..
طبعا احنا في نظرهم يظهر موش من الشبان.. و لا عتب عليهم ولا جناح.. العتب على يوسف بيه السباعي.. الواد ابن الريف نازل كتابة.. وطبعا أنا عارف أن شعره مش هيعجبك.. وكذا محمد يوسف.. و يا حسره على الشعر بعدك..
بالمناسبة (محمد يوسف) عامل لى تليفون الوقتى.. علشان نقابل أدباء الشرقيه في قصرالثقافة.. وطبعا وعدته بالذهاب.. وانت سيد العارفين.. لا رايح ولا يحزنون.. وقبل كده أعطانى معاد علشان نقابل مدير القصر..
وعنها ..و سبته يروح يقابله.. انت عارف رأى أخوك في المسائل دى.. آلو يا قصر.. إذا كان نفع المدير ده.. يبقى ينفع المدير اللى قبله إن شاء الله..
أرجو أن أراك قريبا.. الواد (إبراهيم الوردانى) كاتب عنك سطرين في الجمهورية.. طبعا قطعتها.. أوعى تسألنى عليها.. تصدق ما عنديش ولا نسخه من ديوانك .. النسخه اللى كانت عندى بعتها ألمانيا.. علشان يكتبوا عنك في دايرة معارف حيعملوها.. عيب إحنا بنلعب ولا إيه.. واللى خلقك لازم أخليك تاكل الجو ..
إيه رأيك بقى في أخوك؟
في انتظار ردك.. تحياتى لك ولكل من عندك.. وإلى لقاء.. في الخارج طبعا!
المخلص: (سليم بوقسماط).
و
صلاح عيسى
يا (صلاح يا عيسى) صوتى واضح.. فينكم
ما تسمعوا (شِعري) اللى جابني معاكم
عمرى فى يوم أبدا.. ما سبيت دينكم
أنا أصْلي فى نفس (الهوى) وياكم
……………………………………
يا صلاح.. يا قاعد بين جبال أوراقك
إنزل.. وخلي الكل يسمع قُولك
ضيقك صبح أشواك فى قلب طريقك
ولا راضي تشكي لأى واحد حالك
……………………………………
يا فيلسوف الفكر.. ليه مش واعي
إن الصداقه شئ مقدس جدا
ليه كل ما تشوفنى بتلوي دراعي
علشان نِقاشِي معاكوا خلاك تحزن
……………………………………
إعزمنى مرة ع الغدا يا صديقي
ليه عنبرك مقفول تملى فى وشي
أنا مش شيوعي.. بس ليّ طريقي
وعلى الكفوف الطاهره شايل نعشى
……………………………………
ليه منعزل يا صديقي.. أُخرج بره
خلى الجميع فى السجن يسمع صوتك
دا معتقل.. عمره ما يصبح (جَره)
ما تخلنيش أنوى يا صاحبي أفوتك
……………………………………
شيوعيو.. أيوه باحترمها يا صاحبي
لكنى مش ناوي أكون غير شاعر
كل الغلابة فى مصر داخل قلبي
حاسس أنا بيهم وكلي مشاعر
……………………………………
صاحبك حبيبك (سعد هجرس) غارز
سيفه فى كل اللي بيرفض دينُه
أنا عضو فى حزب الغلابة البارز
نفسى أشوفكوا أي يوم عارفينه
……………………………………
الشعب مش فاضي لقراية (مرجع)
يحكي عن الشيوعيه أو مصادرها
الشعب كل الشعب عايز يرجع
لنجوم (محمد) نفسه يشرب نورها
……………………………………
يا صلاح قضيت سنتين فى جوف زنزانة
جنبك.. وعمرك ما قعدت معايا
هل كان ضروري أكون معاك فى الخانة
واللا أروح لهضيبى.. أحفض آية
……………………………………
أنا أيوه ألف تقدمي فى أشعاري
ولعبت دور حساس فى وعي الأمة
أيوه انضمامي لحزب يصبح عارى
يثبت بأنى أنانى.. من غير ذمة
……………………………………
يا ( صلاح يا عيسى ) مش هاكون غير نَفسي
يا عبقرية فكر طاهر.. زاهي
شمسك بتعطي شعاع يا صاحبي لشمسي
وأنا شمسي بشعاعها الأصيل بِتْبَاهي
……………………………………
أنا باحضنك ساعة مرورك جنبي
رايح لدورة الميّه تغسل وشك
ساعة التحية الطاهرة يفرح قلبي
إمتى بقى عصفوري يِسكن عشك
……………………………………
يا صلاح يا عيسى كل شئ جواني
بيحب مصر الحرة.. عايش بيها
لو نختلف.. إوعى نكون الدانة
نِشْوِي قلوبنا الطاهرة ونعشيها
……………………………………
كل اللى فيك يا صديقي طاهر أخضر
سهران بتكتب عن عرابي كِتابُة
إسمع قصيدة مني يوم لو تقدر
وارسم ما بيننا طريق.. وافتح بابُه
……………………………………
يا صلاح يا عيسى بكره تاخُد حقك
ولا حد غير قلمك ها يصبح غالي
الكره لاجل بعدت عنكم سرقك
والشك إنك فكر عالي وغالي.
من كتاب (مدد.. مدد)
سيرة ذاتية لبلد