رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

(الفن الجميل).. كيف يكون ضرورة حتمية في أيامنا الصعبة ؟!

التراجيديا بموبقاتها تسيطر على المشهد الدرامي العربي

كتب: محمد حبوشة

يتفق الجميع على أن الأعمال الفنية (جيدة) أو (قيمة) بمعنى ما؛ فهي من الأشياء التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش على جناح (الفن الجميل)، شأنها شأن نور الشمس، والطعام الجيد، والحب، وعندما يكون العمل الفني وحدة منظمة كفن زمان، ويكون إلى جانب ذلك مشحونا بالانفعال والوجدان، يكون تقديرنا له رفيعا بحق، ولا نكاد نجد ما هو أنفس منه.

الاستمتاع بالفنون هو سلوك غير نفعي؛ فيستمتع المتلقي بالفن لأجل الفن، دون الطمع في جني بعض الفوائد العملية، علما بأنه لكل نوع فني نمطه الفريد وقانون صنعه الخاص الذي لا بد لكل فنان أن يتبعه، وهو ما يعرف بالأسلوب الجمالي، ولعل جانبا من هذا كانت موجودا بقوة في السينما والدراما التلفزيونية زمان أيام (الفن الجميل).

وكلامي عن الفن عموما و(الفن الجميل) على وجه الخصوص، يأتي في ظل كثرة الألفاظ القبيحة التي تظهر في أعمالنا الفنية الحالية، ومنها بالضرورة الدراما التلفزيونية، التي تكتظ بالقبح، بحجة التعبير عن الواقع المعاش، خاصة في ظل تباري مواقع السوشيال ميديا في ذكر ألفظ جارحة أو خارجة عن السياق، في غياب الرقابة.

(الفن الجميل) الذي قصده الفلاسفة ياسادة: لايجيز أبدا ذكر ألفاظ كثيرة متباينة تستخدم من أجل إضفاء قيمة على الموضوعات الفنية، مهما كانت تعبر عن الواقع تراجيديا، صحيح أننا نستطيع استخدام الألفاظ الشائعة في كلامنا العادي عن القيم، كقولنا (هذا العمل جميل) و(هو أفضل من ذاك العمل).. إلخ.

ومع ذلك فلست أود أن أزعم أن هذا الرأي قد تأيد على نحو قاطع، فمن الجائز أني ارتكبت مغالطة المصادرة على المطلوب، وذلك إذا كانت حجتي هى مجرد القول إنه إذا أمكن إدراك كل شيء (بتنزه وتعاطف)، فعندئذ لا يكون ثمة شيء (قبيح إلى حد ميئوس منه).

ولابد أن يلاحظ المرء، بعد أن يقال كل شيء، وجود عنصر غريب إلى حد غير مألوف، ففي المجالات الفنية الحالية، يوجد على الدوام استقطاب بين القيمة وانعدام القيمة؛ فالأخلاق، مثلا، تنطوي على الخير والشر، لا على الخير وحده، بحيث يكون كل ما عداه خارجا عن نطاق الأخلاق.

وظني أن المشكلة ليست مقتصرة على ذلك النوع من الدراما الذي نطلق عليه اسم (التراجيديا)، فمن الواضح أن (حكايات الآلام والكوارث) توجد في الفن الروائي بدوره، كما أن هناك كثيًا من الصور ذات موضوعات مرعبة أو منفرة، كدراسات (روو Rouault) للعاهرات.

(التراجيديا) فن أشمل وأوسع نطاقا من أن يستبعد باستخفاف

(التراجيديا) العربية في مأزق

بل إن لفظ (التراجيدي) يستخدم في وصف الموسيقى، كما هى الحال في (الافتتاحية التراجيدية) لبرامز، ولو كانت أمثال هذه الأعمال تؤلف مجرد (جزء جنوني ضئيل) من الفن، لكانت (المفارقة) مشكلة متعلقة بعلم النفس المرضي.

 بحيث يكون من الممكن التخلص منها بالقول إن بعض الناس يجدون لذة مازوشية في التألم، غير أن (التراجيديا) فن أشمل وأوسع نطاقا من أن يستبعد باستخفاف، ومن هنا فإن من المستحيل التخلص من المفارقة المتضمنة في أعمال الأدب الدرامي التي تعد (تراجيديات) بالمعنى الصحيح.

وبالنظر إلى أعمال التراجيديا في الدراما التلفزيونية العربية الحالية سنجد أن هناك ميل جارف نحو الأعمال التي تجنح نحو العنف والقسوة المقرونة دائما بألفاظ جارحة للمشاهدين في المنازل ولا ذنب لهم في ذلك غير أنهم مربطون أمام شاشة شريرة، يجدون تسليتهم فيها من خلال مسلسلات تتامس مع الواقع لكنها تذهب بنا إلى مناطق الجنون، بدلا من الجنوح نحو الكوميديا التي تسر الخاطر.

ربما تأثرت الدراما المصرية والعربية بالمسلسلات (التركية والأمريكية والكورية والأسبانية وحتى الهندية)، التي تغرق في العنف والقسوة، ولا ضير فيها من استخدام ألفاظ أو إيحاءات تعد عادية في مثل تلك المجتمعات التي تجنح نحو بوابة الانفتاح والحرية على مصراعيها، ولم تلجأ إلى نوعية أفكار وموضوعات (الفن الجميل) في الزمن الماضي.

وربما تخاطب مثل هذه المسلسلات تلك المجتمعات التي لا تراعي القيم الدينية والأخلاقية، وترى أن الفن حر تماما في مداعبة الخيالي الفنتازي، وإسقاط ذلك على الواقع دون التقيد بشروط تتعلق بالقيم التي رسختها في أعمال السينما والدراما في الزمن الجميل من أفلام ومسلسلات كوميدية كانت غاية في الرقي وتجلب الضحك القادم من القلب.

من الواضح أن هذه الحجة تتسم بشيء من القوة، وهى تساعد على إلقاء ضوء أوضح على المفارقة، فإن كان ثمة مفارقة في التراجيديا على الإطلاق، فلا بد أن تكون متعلقة بالفن لا (بالحياة).

فمن المؤكد أنه لو حدث لشخص تعرفه أن واجه خيبة الأمل والإخفاق، وبالتالي عانى شقاء مبرحا، فإن حزننا يكون على الأرجح أشد بكثير مما يحس به المشاهد العادي للدراما من نوع التراجيديا.

ولنتصور في هذا الصدد مقدار ما نحس به من الأسى عندما يموت أحد أفراد أسرتنا؛ فهل يؤثر فينا موت (لير) على نحو قريب من هذا؟، ومن جهة أخرى فلو بدا أن صديقا أو قريبا يتجه نحو كارثة، فإننا نقوم دون شك باتخاذ تدابير لمساعدته.

الدراما الخليجية إلى التراجيديا السوداء الذي تؤدي لقتامة المسهد

الدراما السوداء وقتامة المشهد

أما تأمل الفن فلا مكان فيه للسلوك العملي، ولقد حدث مرة أن كانت سيدة شابة ذات حساسية عاطفية مفرطة تشهد عرضا لتراجيديا (عطيل)، وترقب الشرير (باجو) وهو يخدع البطل بأكاذيب خبيثة يقود بها القائد المغربي إلى حتفه.

فنهضت فجأة في وسط العرض من مقعدها، وصرخت نحو الممثلين في المسرح: (أيها الأسود الضخم الأحمق!.. ألا تدرك أنه كاذب؟)، إن تصرفها هذا ربما كان دليلا على طيبة قلبها، ولكن من الواضح أنها نسيت أن كل الحوادث (إيهام)، وأنها أتاحت للموقف العملي – بطريقتها الفجة – أن يغتصب الموقف الدرامي.

الأمر المؤكد أن هناك أشخاصا لا يستطيعون أن يتحملوا مشاهدة التراجيديا حتى نهايتها، لأن الألم يكون قد اعتصرهم إلى حد يعجزون معه عن التحمل؛ ففى التراجيديا إذن شيء يجعلها مختلفة بصورة واضحة، شأنها في ذلك شأن الجليل، ويفرق بينها وبين الموضوع الذي يسرنا فحسب، والذي هو أشبه ببستان بديع نستمتع برؤيته عبر المفارقات الكوميدية البديعة في بهاء تأثيرها الضاحك.

كون (الفن الجميل) ليس هو (الحياة) نجده يضاعف الألم المتعاطف ويزيده تأكيدا؛ فالتراجيديا تضفي صبغة درامية مضاعفة على محنة البطل، والحوادث المحكمة الترابط التي تؤدي به إلى حتفه، تخلق في المشاهد أحاسيس متزايدة الحدة من الخوف المتشائم، وهذا هو حال كافة الأعمال الدرامية العربية، حتى الخليجية منها التي تحاول التمرد على المألوف بمسلسلات كئيبة تخاصم الكوميديا.

ولعل جانبا من هذا لاحظته في كثير من الأعمال السعودية والكويتية الأخيرة، والتي تذهب عن عمد نحو الدراما السوداء التي تركز على قتامة المشهد، وهذا ينافي (الفن الجميل) الذي ننشده في عصر التحولات الكبرى في ظل الحرب الضروس في غزة ولبنان.

سنجد في الغاليبة العظمى من الأعمال الخليجية التي عرضت مؤخرا ومازال بعضها يعرض حاليا والتي تخاصم جوهر وطبيعة كلاسيكيات (الفن الجميل)، نجد أن التراجيديا تطغى على أحاسيس المرء وتلح عليها إلى حد يندر أن تصل إليه والحياة ذاتها، بعكس أعمالها التي ظهرت في فترة التسعينيات وبدايات الألفية الجديدة.

الواقع أن الشر والألم الكامنين في التراجيديا، ويدفعنا إلى العاطف مع البطل

كشف المصير التراجيدي

ولعلك تذكر ما قاله أرسطو من أن (التراجيديا) تغفل السرد المجرد، الذي يقتصر على تسجيل الحوادث دون تمييز؛ فالفنان الأدبي ينتزع (الأعراض) والحوادث غير المرتبطة بالجوهر، والتي تحفل بها الحياة المعتادة، ولا يركز جهده إلا على كشف المصير التراجيدي.

وعندما نتعاطف مع الشخصية التراجيدية التي تعرض على الشاشة ونندمج في مصيرها، لا نشعر بألم متعاطف على الرغم من الشعر، بل بسببه، ولو قدم إلينا عرض نثري، أو عرض شعري هزيل، لآلام هذه الشخصية، لما استطاع أن يؤثر فينا، فلنتأمل فقرة مثل:

يا ويلتاه! هل حانت نهاية كل شيء

وذروة أيامي وعرق جبينها؟

ها أنا ذا أفارق بلدي وكل دروبه

تأكلها النيران.

أعتقد أنني سأكون على خطأ كبير إذا عزوت أي قدر كبير من رضائنا الذي نحسبه في التراجيديا إلى الفكرة القائلة (إن التراجيديا خداع.. فكلما كانت أقرب إلى الحقيقة، وزادتنا ابتعادا عن كل فكرة عن الخيال، كانت قوتها أكمل).

والواقع أن الشر والألم الكامنين في التراجيديا، وتعاطفنا مع البطل، في مسلسلاتنا العربية هما بعينهما اللذان يجعلان التجربة أليمة إلى حد ما، وعلى الرغم من ذلك فإن الإدراك الحسي الملح يظل مستمرا في ظل نوعيات الدراما السوداء التي نشاهدها حاليا.

يبقى القول أن هناك فرق بين الحكم الجمالي والحكم الفني؛ فيعرف الحكم الجمالي بأنه إطلاق الأحكام الجمالية على الأشياء من حولنا، والتي قد لا تكون بالضرورة قطعا فنية، أما بالنسبة للحكم الفني فالأمر مختلف بعض الشيء، ولهذا أصبح الانحياز نحو (الفن الجميل) ضرورة حتمية تضيئ لنا دروب عتمة أيامنا الحالية بابتسامة على وجوهنا المكلومة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.