بقلم الكاتب والناقد ناصر العزبي
(ماذا بعد.. وهل تكفي 110 يوما لتقييم الأداء؟)
حمل تشكيل حكومة الدكتور مصطفى مدبولي توجهات بإحداث تغييرات في السياسات الداخلية والخارجية، لمواجهة الظروف الاستثنائية محليا أو دوليا، ومن بين وزارات الحكومة تبرز (وزارة الثقافة) كمؤسسة يقع على عاتقها وضع استراتيجية محكمة لخلق حالة من الوعى الفكرى داخل المجتمع.
وذلك بما يعمل على بناء الإنسان المصرى بشكل صحيح، وفي اطار هذا التوجه تم إسناد حقيبة (وزارة الثقافة) إلى الدكتور أحمد فؤاد هنو، ترشيح استبشر به المثقفون به خيرًا كونه (فنان تشكيلى)، أملين في تكراره لتجربة الفنان فاروق حسني.
لم يُصحبْ اختيار د. هنو أي تحفظ من المثقفين، نظرًا لأنه شخصية معروفة داخل الوسط الثقافي – خاصة قطاع الفنون التشكيلية – كونه أستاذًا بكلية الفنون الجميلة وتقلد مناصب عليا في الجامعات المصرية، وصاحب مشاركات فعالة من خلال فعاليات محلية ودولية.
إلا أن هذا الـ (لا تحفظ) صحبه ترقباً أمام تصريحاته – فور توليه (وزارة الثقافة) – بما لديه من رؤية وخطة مستقبلية للثقافة، وكذلك حلولًا غير نمطية، وأنه حريص على مواكبة العصر الحديث من خلال الطفرة التكنولوجية في العالم، ومواكبة تطورات الثورة التي يشهدها العالم في مجالات التطبيقات الإلكترونية والذكاء الاصطناعي، بما يتيح تحويل الهواتف الذكية إلى منصات ثقافية متنقلة.
بما يجذب الجيل الجديد نحو الحقل الثقافي وما يتناسب مع إمكانات أبناء هذا الجيل التي يطالعونا بها عبر الوسائل التكنولوجية الحديثة، الأمر الذي زاد من استبشارنا خيراً بتولي (هنو) قيادة (وزارة الثقافة)، بل والتوقع بأن يأتي بأفكار خارج الصندوق.
110 يوما هى الفترة التي تولى فيها (د. هنو) الحقيبة الثقافية، منذ لحظة أداءه اليمين الدستورية يوم الرابع من يوليو 2024، وانتظار الفكر الجديد، ولكن هل تكفي الـ 110 يوما لتقييم الأداء؟، هل مدة ثلاثة أشهر ونصف وخمسة أيام كافية للحكم ؟
(بالطبع لا) خاصة في حالة وضع تصورات وخطط استراتيجية طويلة المدى، إلا أن تلك الفترة – بالتأكيد – كافية للكشف عن بعض الملامح التي يتم القياس عليها للتقييم.
خاصة وأنه – د. هنو – قريب من الواقع الثقافي ومُلمٌ به، ولديه رؤى وتصورات سبق وأن صرح بها، وأنه لم يكن بخاف عليه أزمات أو مشكلات (وزراة الثقافة)، إضافة إلى اطلاعه على أمور كثيرة تهم كل من يشارك في الصناعة الثقافية بما يصب في النهاية لصالح المجتمع المصري!
تطلع الجميع لحل الأزمات العالقة وافتتاح المنشآت المغلقة وإنجاز المشروعات القائمة وظهور مشروعات جديدة، وغير ذلك من أمور وحلول غير نمطية تكشف عن الرؤى التي ستنهض بالثقافة المصرية، ويكون منها ما يزيد من قناعتنا بالتفاءل به، وبمثابة نصوغات تثبيته كوزير ثقافة لديه خطة مستقبلية.
ماذا حدث؟
ملف تدوير القيادات
تتعدد قطاعات (وزارة الثقافة)، وبالطبع فإن لكل منها مشاكل مزمنة أو ملفات ساخنة قد تكون بحاجة إلى ضخ دماء جديدة تحمل رؤى وتصورات غير تقليدية لحلها.
بما يستوجب اتخاذ القرار بالتعيين لشغل المناصب الشاغرة، وخاصة التي يقوم بها من يشغل أكثر من منصب، أو مكلف بشكل مؤقت – إلى جانب عمله – أو تغيير من فشل في ادارته، أو من أعطى ما لديه واستقر على نمط ثابت ولن يأتي بجديد.
بما يتطلب التقييم وإعادة النظر اعتمادا على مبدأ الأحقية للكفاءات وممن لديهم فكر يحقق رؤية الدولة المصرية من أجل بناء الإنسان المصري.
ولكن..!؛
في حدود اطلاعي على المشهد – لا أظن أن هذا التغيير قد حدث – كل ما تم فقط لا يتعدى عملية تبديل في الأوراق، ولم تقم القيادة الجديدة للوزارة بالحسم.
وهنا أذكر على سبيل المثال كارثة (المركز القومي للموسيقى والمسرح والفنون الشعبية)، الذي تقلص تواجده تدريجياً، ويبعد عن أهدافه يوما بعد يوم، حتى وصل نشطه للاحتفال بأعياد الميلاد.
في ذات الوقت الذي اعتذر فيه عن تنظيم ندوة تأبين لكاتب كبير بقيمة الكاتب (عبد الغني داود)، ولنتفاجأ بعدها بأيام قليلة بالإعلان عن الاحتفال بعيد ميلاد الفنان (محمد محمود).
وعند قيامنا بالتحفظ على ذلك وأن هذا ليس دور المركز، فاجأنا بتوالي إعلانه الاحتفال بأعياد ميلاد لآخرين وآخرين قد لا يعرفهم أحد بما يعد مزيد من استفزاز المتحفظين، مما كان يستوجب المسائلة عليه .
وجدير بالذكر أن الرئيس الحالي للمركز أغلقت (مجلة المسرح) على يده بمجرد توليه رئاسة المركز، وقل أو انعدم تواجده في تغطية الفعاليات التي تستوجب التوثيق، وأيضاً نذكر أن المركز في ظل قيادته هبط من إدارة مركزية إلى إدارة عامة، بما يوحي بتقلص أهميته.
ولا يهمنا هنا الدفاع عن كونه إدارة مركزية أو عامة، فمن الوارد تبعيته لجهة مركزية عليا سواء قطاع الإنتاج أو المجلس الأعلى للثقافة أو حتى المركز القومي لدار الوثائق.
ولكن ما يعنينا هو تفعيل الدور المنوط به وفق اللائحة التي وضعت له عند تأسيسه، وليس هناك عداء بيننا وبين الفنان القدير(إيهاب فهمي) رئيس المركز.
ولكن ما نلفت النظر إليه هنا هو الضرورة عند إسناد قيادة لمثل تلك المراكز نراعاة أن تتفق اهتماماته المرشح للمنصب وطبيعتها كأن يكون من الباحثين أو الكتاب أو الأكاديميين المتخصصين.
ملف الفاتورة الإليكترونية:
(الفاتورة الإلكترونية) من المستجدات التي طفت على سطح الحياة الثقافية مؤخرًا، وتضرر منها المثقفين بشكل عام، وتعالت المطالبات عبر المقالات بالمواقع الإليكترونية وعبر مواقع التواصل الاجتماعي.
إذ كيف يتم محاسبة الفنانين كالتجار؟، وكيف يتم معاملة الإبداع معاملة (البضائع والأشياء) من مواد خام وأثاث ومأكولات ومشروبات؟
بل كيف يتم محاسبة من يتقاضون مبالغ صغيرة من محاضرين وشعراء وممثلين بالهيئة العامة لقصور الثقافة بنظام (الفاتورة الإليكترونية)، والبطاقة الضريبية، والحساب البنكي.
وهذا أمر لا ينبغي تجاهله، وكان يتعين على معالي الوزير الاهتمام بتشكيل لجنة لبحثه والتدخل لتوضيح الأمر لوزارة المالية سعياً لحله..!
ملف المسارح المغلقة وسينما الشعب:
وخاصة مسارح الهيئة العامة لقصور الثقافة، تحت الصيانة أو المتوقفة في انتظار استئناف ترميمها، ومشروع (سينما الشعب) الذي استولى على المسارح، ولا يتاح للمسرحيين الاستفادة من المسارح إلا وفق جدول ومواعيد محددة.
وبالطبع لسنا أعداء للسينما ولسنا رافضين لها، ولكن ماذا إن كان قد تم الإعداد لهذا المشروع ليبدأ بشكل صحيح، ولماذا لم يتم تصويب مساره بعمل قاعات للسينما أو محاولة توظيف قاعات (موجودة) بتجهيزها أو الاستفادة من المساحات الكبيرة بقصور الثقافة لتكون قاعات للسينما؟
كارثة ملفات الهدم:
الغريب أنه رغم عدد فرق الدولة المحدود، وكذلك مسارحها أو منافذ العرض، وأننا لطالما سمعنا عن طوابير انتظار المخرجين المتقدمين بمشاريع لإخراجها، لم نسمع مرة عن مسع لحل تلك المشكلة، لم نسمع يوماً عن بناء أحد المسارح.
ولكن طالما سمعنا تهديدات بالهدم أو الغلق – وتختلف الأسباب إلا أن الموت أو المصير واحد – ولطالما تداولت على الألسنة أنباء عن مباني ثقافية مهددة بالهدد – بالقاهرة أو بالمحافظات – آخرها ما طالعنا أول هذا الشهر من نبأ عن الاستعداد لهدم المسرح العائم بالمنيل (فاطمة رشدي).
وليتبع الفنانين ذلك – ولم يتوقفوا – بالصياح والمناشدات والجمع للتوقيعات والمطالبة بوقفة سلمية كمحاولات من أجل إيقاف هذا المصير المنتظر لواحد من المسارح التي لها تاريخ، وأحد المنابر الثقافية للتنوير، ومقر لفرقة مسرح الشباب، وأحد المنافذ الهامة للمبدعين الشباب للتنفيس عن طاقاتهم الإبداعية.
ومن الغريب؛ أننا أمام كل ذلك لم يصدر عن (وزارة الثقافة) أي بيانات لتوضيح الصورة إن كان الأمر إشاعة أو صدقًا، بل لم يصدر تصريحا عن أي من مسئولي الثقافة بما من شأنه فتح المجال للكثير من التكهنات المتشائمة..!
الأمر الذي يجعلنا نعود للرؤى التي سبق وأن صرح بها (د. هنو) عن تعزيز الاستثمار الثقافي، ولنتساءل إن كان لما يحدث علاقة بها أم لا، خاصة ما يتعلق بـ (الاستغلال الأمثل للأصول الثقافية، المادية من منشآت ومراكز ومقار، ..).
مما يدفعني للرد بأننا لسنا ضد استثمار الثقافة، بل ولطالما تم تناول هذا الأمر الكثيرين من المفكرين والمثقفين، إلا أن هذا الاستثمار لا يأتي بالتحصيل من المبدعين (مع ملاحظة تدني أجورهم أو مكافآتهم).
ولا يأتي بتقليص الميزانيات، ولا بهدم المنشآت والمسارح للاستفادة منها، ولا استغلالها فيما يتعارض مع فلسفة إنشائها والأهداف المنشودة منها، ولا في أشياء بعيده عن بناء الإنسان تتعارض مع توجهات الدولة الثقافة.
وإنما بوضع استراتيجية وخطط واضحة الأهداف والملامح، تعتمد في الأساس على القناعة بأهمية دور الثقافة، والتركيز على التوعية بذلك للمواطنين، ومن قبلهم لمن لا يعي دورها من المعنيين بوضع الأولويات، يبدأ بما يترتب عليه رصد ميزانية تليق بالدور المنوطة به أولاً.
ثم ما يعمل على نجاح الاستثمار فيها بدعم مشاريعها والإنفاق عليها بما يجعلها مصدراً للدخل القومي، وأظن أن كل من (وزير الثقافة)، و(المجلس الأعلى للثقافة الذي يرأسه)، و(أعضاء اللجنة الثقافية بمجلس النواب) منوط بالعمل على ذلك.
وإلا، من يتبنى إذن الدفاع عن الثقافة وقضاياها!، من يعمل على إبراز قيمتها والترويج لها بما يضعها على الطريق الصحيح لتحقق الاستفادة منها بناء الإنسان المصري، وإلى جانب ذلك يتم العمل عل تحقيق عوائد عن الاستثمار من أنشطتها ومشاريعها.
وعلى كل ما سبق أقول: (ليس منا من يعمل على تسطيح الفكر وتهميش الدور الثقافي).
وجدير بالذكر؛
وجود وميض طفيف ينبعث من هذا المشهد القاتم، فنذكر نقابة المهن التمثيلية ونشاطها الأخير والذي يحسب لنقيبها د. أشرف ذكي ومجلس النقابة، بتجميل المشهد بالإعلان عن افتتاح (مسرحاً) لنقابة المهن التمثيلية بالإسكندرية.
وأيضاً تنظيمهم النموذجي لـ (مهرجان نقابة المهن التمثيلية للمسرح المصري)، مما استوجب علينا الإشادة، أيضاً تلقي خبر عودة (مجلة المسرح) إلى الإصدار من بيتها الأساسي بالهيئة العامة للكتاب بدلا من المركز القومي للمسرح.
بما يكشف عن بادرة أمل لبعض مساع لحل إحدى المشكلات التي كنا نطالب الوزارة بحلها بما يحسب لها.
وأخيراً؛
أوضح أنني في مقالي هذا لم أتناول كثير من الأزمات، وأن لنا مقال تالي في هذا الشأن بحثاً عن إجابة سؤال: (هل المسرح عدو لأي من الشعب أو الدولة؟!).
ويتناول (مفهوم ثقافة الهدم)، ويطرح بعض (أفكار وتصورات لكيفية الاستثمار في الثقافة)، وذلك على الطريق الصحيح من أجل التأكيد على ريادتنا في ظل صراع الحضارات، والعمل على نشر ثقافتنا وإبراز هويتنا.